تفسير قوله تعالى: (وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة)
الحمد لله رب العالمين، الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون، خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة سوداء للناظرين، ثم خلق العلقة مضغة بقدر أكلة الماضغين، ثم خلق المضغة عظاماً كأساس لهذا البناء المتين، ثم كسا العظام لحماً هي له كالثوب للابسين، ثم أنشأه خلقاً آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين، ثم إنكم بعد ذلك لميتون، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، يغني فقيراً، ويفقر غنياً، ويعز ذليلاً، ويذل عزيزاً، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، مستوٍ على عرشه، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف شاء وحسبما أراد، فاللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك، وأشهد أن نبينا ورسولنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، ما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.
أما بعد: فنواصل الحديث مع القرآن لاسيما وأننا في شهر القرآن، الشهر الذي كان ينزل فيه جبريل على النبي ﷺ فيدارسه القرآن.
وكنا قد بدأنا مع سورة الحاقة في مطلعها، وتوقفنا عند قول الله سبحانه: ﴿وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً * إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾ [الحاقة: ٩ - ١٨].
ما المراد بـ (فرعون)، هل هو لقب أو اسم؟ فرعون لقب لحاكم مصر، كما أن النجاشي لقب لحاكم الحبشة، وقيصر لقب لحاكم الروم، وكسرى لقب لحاكم الفرس.
يقول تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ﴾ [القصص: ٤]، أي: طغى في الأرض، وبغى وأكثر فيها الفساد، وحتى يستتب له الأمر قسم البلاد إلى مراكز ومحافظات ونجود، وجعل على كل إقليم فرعون: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا﴾ [القصص: ٤]، وهذه سياسة اللامركزية في الإدارة الفرعونية، فيستضعف طائفة منهم وهم بنو إسرائيل: ﴿يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ﴾ [القصص: ٤].
ويقول ربنا سبحانه في سورة النازعات: ﴿وهَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ [النازعات: ١٥ - ١٧].
وتأمل! فكل نبي كان الله يرسله إلى قومه: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾ [الأعراف: ٨٥].
﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا﴾ [الأعراف: ٧٣]، إلا موسى أمره الله أن يذهب إلى فرعون؛ لأن الرعية أصبحت هملاً تسبح بحمده وتعبده من دون الله، فهو رأس الأفعى، ولا تصلح الرعية إلا بصلاح فرعون، ومن هنا أمر الله موسى أن يذهب إلى فرعون ﴿إِنَّهُ طَغَى﴾ [طه: ٢٤] أي: تجاوز الحد.
وربنا حينما أرسل موسى وهارون قال لهما: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: ٤٤]، وهنا نتذكر رجلاً دخل على الخليفة العباسي هارون الرشيد وأغلظ له القول وعنف له النصيحة، فقال له: يا رجل! لقد أرسل الله من هو أفضل منك إلى من هو شر مني، أرسل الله موسى وهارون إلى فرعون، فقال لهما: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: ٤٤].
ومع وضوح الآيات والبراهين إلا أن فرعون ركب رأسه: ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ [النازعات: ٢٤].
وقال: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨].
وقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا