تفسير قوله تعالى: (فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية)
قال تعالى: ﴿فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ﴾ [الحاقة: ١٠]، أي: أن لكل أمة رسولاً، وكل رسول سيشهد على أمته، ولذلك من قواعد الحساب والجزاء في الآخرة خمس قواعد مهمة: القاعدة الأولى: العدل التام، قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ [الأنبياء: ٤٧].
وقال: ﴿وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ [النساء: ٧٧].
وقال: ﴿وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [النساء: ١٢٤]، أتدري ما هو الفتيل والنقير؟ الفتيل: هو الخيط الرفيع الذي في وسط النواة، وانظر إلى حجمه، والنقير: هو الحفرة التي في ظهرها.
وقال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ [الزلزلة: ٧]، والذرة هي: الهباءة التي ترى في شعاع الشمس.
﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا﴾ [طه: ١١٢].
وقال تعالى: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: ١٦].
وقال: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾ [غافر: ١٧].
القاعدة الثانية: إقامة الشهود على العباد، ورب العالمين سبحانه يقول: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ [النساء: ٤١]، أي: رسولهم يشهد عليهم، ثم قال: ﴿وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: ٤١]، أي: جاء بمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ [النساء: ٤٢].
ومن الشهود أيضاً: الجوارح، والجلود، والسمع، والبصر، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [فصلت: ٢١].
ومن الشهود كذلك: القرين الجني، أي: الشيطان الذي أضل العباد: ﴿قَالَ قَرِينُهُ﴾ [ق: ٢٧] في حوار ﴿رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ﴾ [ق: ٢٧]، أي: لم أكن سبباً في ضلاله وطغيانه، ﴿وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾ [ق: ٢٧]، أي: هو الضال، ﴿قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [ق: ٢٨ - ٢٩].
وكذلك الأرض تشهد، قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ [الزلزلة: ٤ - ٥]، ما أخبار الأرض؟ تأتي يوم القيامة وتقول: يا رب عبدك فلان عصاك على ظهري يوم كذا وكذا، لذلك يا مسلم كل شيء يشهد عليك يوم القيامة، فانتبه وعُدْ إلى ربك عز وجل.
القاعدة الثالثة: مضاعفة الحسنات، وعدم مضاعفة السيئات، وهذا من فضل الله علينا أن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها، ولذلك ربنا يحاسبنا بفضله في جانب الحسنات، ويعاملنا بعدله في جانب السيئات، قال صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)، فمن فضل الله علينا أن الحسنات تضاعف، يقول ابن القيم رحمه الله: فهلاك لعبد تغلبت آحاده على عشراته.
أرأيتم إلى الآحاد تغلب العشرات؟! يستحيل ذلك، إلا إذا كان الرجل كله سيئاً.
القاعدة الرابعة: اطلاع العبد على صحيفته، قال تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء: ١٣ - ١٤].
ويقولون عندما ينظرون في كتبهم: ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: ٤٩].
القاعدة الخامسة: أنه لا يؤخذ أحد بجريرة غيره، قال تعالى: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: ١٦٤]، فالمسئولية شخصية، عنك وعمن ستسأل عنه بين يدي الله سبحانه وتعالى.
ولا بد أن نعلم قاعدة مهمة في العقيدة، ألا وهي أن تكذيب رسول واحد يعني: تكذيب بكل الرسل، واسمع إلى قول الله ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: ١٠٥]، فهل كذبوا نوحاً فقط أم كذبوا كل المرسلين؟ كذبوا نوحاً فقط، لكن الله في تكذيبهم لنبيهم أخبر أنهم كذبوا كل الرسل؛ وكذلك من آمن بكل الرسل ولم يؤمن بنبينا محمد فهو كافر، وهذا لا يختلف فيه اثنان، وأيضاً من آمن بكل الرسل ولم يؤمن بعيسى فهو ك