تفسير قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيقول ربنا سبحانه: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ [الحاقة: ١٣]، كم مرة ينفخ في الصور؟ اختلف العلماء في ذلك: فـ ابن كثير يقول: ثلاث، وهي: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث.
وابن تيمية يرى أن عدد النفخات: نفختان: نفخة الصعق، ونفخة البعث، ومع كل نفخة فزع، صعق مع فزع، وبعث مع فزع.
إذاً: الفزع ليس نفخة مستقلة، وإنما فزع عند الصعق، وفزع عند البعث، وربنا يقول: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزمر: ٦٨]، والقرآن جاء بالنفختين في أكثر من موضع، في سورة ياسين النفخة الأولى، وسماها صيحة، قال تعالى: ﴿مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ﴾ [يس: ٤٩]، فتأتي عليهم وهم يشترون ويبيعون ويتعاملون، ويتخاصمون في أمورهم الدنيوية.
ثم قال: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ﴾ [يس: ٥١] أي: من القبور ﴿إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ﴾ [يس: ٥١]، وهذه النفخة الثانية.
وفي سورة النازعات: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ﴾ [النازعات: ٦]، أي: النفخة الأولى، ﴿تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ﴾ [النازعات: ٧] أي: النفخة الثانية.
إذاً: النفخة الأولى: نفخة الصعق، والنفخة الثانية: نفخة البعث.
وبين النفختين أربعون.
قيل لـ أبي هريرة: أربعون سنة؟ قال: أبيت، أربعون يوماً؟ قال: أبيت.
أي: لا أدري؛ لأن النبي ﷺ قال: (بين النفختين أربعون) وما أبان ما المراد بالأربعين، وهذا ما بين النفخة الأولى والثانية.
وأما النفخة التي معنا في هذه الآية فهي نفخة البعث كما قال ابن كثير؛ لأن الله يقول: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ [الحاقة: ١٣]، من الذي ينفخ فيه؟ إسرافيل الملك الموكل بالنفخ في الصور، وميكائيل الموكل بنزول الغيث من السماء، وجبريل الملك الموكل بنزول الوحي على الرسل، لذلك قال العلامة ابن القيم في فهم عميق، وبصيرة فريدة: كان ﷺ إذا قام يصلي بليل في التهجد، كان يفتتح الصلاة بدعاء استفتاح بخلاف الصلاة الأخرى، فيقول: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)، فما السر في الجمع بين الثلاثة؟ وما وجه الشبه بين جبريل وميكائيل وإسرافيل؟ قال ابن القيم: بهم جميعاً مادة الحياة، فجبريل لحياة الأرواح بالوحي، وميكائيل لحياة الأرض بالنبات، وإسرافيل لحياة الأموات بعد الموت، فجميعاً تربطهم علاقة شبه وهي الحياة.
وقال تعالى: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ﴾ [المدثر: ٨ - ١٠]، نقر في الناقور: نفخ في الصور، والنفخة هنا واحدة، لأن أمر الله لا يكرر، بينما العبد يكرر الفعل إذا كان في أول الأمر يفعله ببطء، لكن أمر الله مرة واحدة، فيكفي نفخة واحدة؛ لأن الذي يدمر الكون هو الله، نفخة واحدة فإذا السماء تنشق، والأرض تدك، والجبال تنسف، والبحار تشتعل نيراناً، والنجوم تتناثر، والموءودة تسأل، والوحوش تحشر، إنه انقلاب هائل: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [إبراهيم: ٤٨]، أي: برزوا لله ليحاسبوا عما صنعوا.


الصفحة التالية
Icon