تفسير قوله تعالى: (لا أقسم بيوم القيامة)
الحمد لله رب العالمين، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أول بلا ابتداء، وآخر بلا انتهاء، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا ورسولنا سيدنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.
ثم أما بعد: فلازلنا مع كتاب ربنا سبحانه نعيش مع سورة القيامة، وهي سورة مكية، عدد آياتها أربعون آية، والقرآن المكي يتصف بسمت خاص، وهو معالجة قضية العقيدة؛ لذلك تبدأ الآيات بالقسم بيوم القيامة.
يقول ربنا سبحانه: ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ * فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ [القيامة: ١ - ١٥].
تبدأ الآيات بالقسم بيوم القيامة.
فقوله: (لا أقسم) قال ابن الجوزي في زاد المسير: وأجمع جمهور المفسرين على أن نفي القسم قسم؛ لأنه ربما يقول قائل: يقول الله: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾ [البروج: ١ - ٢] فأقسم بيوم القيامة، وهنا قال: ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [القيامة: ١] فكيف نجمع بين الآيتين؟ وحاشا لكتاب الله أن يتعارض، ولذلك صنف العلامة الشنقيطي كتاباً سماه: (دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب) بين فيه أن البعض لسوء فهمه يتوهم أن في آيات الله تضارب، ومنها: قول ربنا في سورة الكهف: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا﴾ [الكهف: ٥٣]، ففي الآية إثبات لرؤية المجرمين للنار، وفي سورة طه: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: ١٢٤]، فكيف يحشر أعمى ويرى النار؟ فنقول: يستحيل أن تتعارض الآيات، ولكن المعنى: أنه تارة يحشر أعمى، وتارة يحشر مبصراً، وهذه أحوال للحشر يوم القيامة.
ويقول ربنا سبحانه أيضاً: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ [البلد: ١ - ٢] وقال: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾ [التين: ١ - ٣]، فأقسم في موضع بالبلد الآمين، وفي الموضع الآخر قال: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ [البلد: ١]، فهل هذا تعارض؟ نقول: لا تعارض: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢]، فنفي القسم هنا هو بمعنى القسم، وقوله: ﴿لا أُقْسِمُ﴾ [البلد: ١] أي: أقسم.
والله سبحانه يقسم بما شاء، أما نحن فلا نقسم إلا بالله، والقسم بغير الله شرك، فلا يجوز لموحد أن يقسم بالكعبة، ولا بخير البشر محمد صلى الله عليه وسلم، ولا بحياة شيخه، ولا برحمة أبيه، ولا بولده، كما نجد هذا في زماننا هذا من أرباب التصوف وأدعيائه؛ فإنك إذا حلفت له بالله لم يصدقك، فإن قلت له: وشيخي! فلان، قال: صدقت، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فالله عندهم أقل قدراً من شيوخهم! وهذا شرك واضح بين، ولذلك لابد أن نتخلص من هذا، فلا نقول: والنبي، ورحمة أبي، ورحمة أمي، وحياة ابني، والغلاوة، والإخلاص، فإنها أيمان كلها باطلة، لا ينبغي أن تخرج من فم موحد، قال صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، فالله يقسم بما شاء، وللعلامة ابن القيم مصنف قيم في أقسام القرآن، أفرد فيه الأقسام في القرآن بالتصنيف، وذكر كل قسم ورد في القرآن.
أقسم الله بآيات، منها قوله: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاه


الصفحة التالية
Icon