نزلت هذه الآية، أي: هذا الشهر بذلك وهتكه بهتكه فلا تبالوا به.
وقوله تعالى: ﴿والحرمات قصاص﴾ احتجاج عليه أي: كل حرمة وهو ما يجب أن يحافظ عليها يجري فيها القصاص، وإنما جمعها لأنه أراد حرمة الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام، أي: فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد فافعلوا بهم مثله، وادخلوا عليه عنوة واقتلوهم إن قاتلوكم، أي: كما قال تعالى: ﴿فمن اعتدى عليكم﴾ بالقتال في الحرم أو الإحرام أو الشهر الحرام ﴿فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم﴾ سمي الجزاء باسم الاعتداء على ازدواج الكلام كقوله تعالى: ﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها﴾ (الشورى، ٤٠).
﴿واتقوا الله﴾ في الانتصار لأنفسكم منهم، ولا تعتدوا إلى ما لم يرخص لكم ﴿واعلموا أنّ الله مع المتقين﴾ بالعون والنصر فيحرسهم ويصلح شأنهم.
﴿وأنفقوا في سبيل الله﴾ أي: طاعته سواء الجهاد وغيره ﴿ولا تلقوا بأيديكم﴾ أي: بأنفسكم، عبر بالأيدي عن الأنفس كقوله تعالى: ﴿بما كسبت أيديكم﴾ (الشورى، ٣٠) أي: بما كسبتم والباء زائدة ﴿إلى التهلكة﴾ أي: الهلاك بالإمساك عن النفقة في الجهاد أو الإسراف فيها، حتى يفقر نفسه ويضيع عياله، أو عن ترك الزور الذي هو تقوية للعدوّ.
روي أنّ رجلاً من المهاجرين حمل على صف العدوّ فصاح به الناس: ألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب الأنصاري: نحن أعلم بهذه الآية، وإنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله ﷺ فنصرناه، وشهدنا معه المشاهد، وآثرناه على أهلنا وأولادنا وأموالنا، فلما فشا الإسلام وكثر أهله ووضعت الحرب أوزارها رجعنا إلى أهلينا وأولادنا وأموالنا نصلحها ونقيم فيها، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد، فما زال أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى كان آخر غزوة غزاها بقسطنطينية في زمن معاوية، فتوفي هناك ودفن في أصل سورها وهم يستسقون به.
وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله ﷺ «من مات ولم يغز ولم يحدّث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» وقال محمد بن سيرين وعبيدة السلماني: الإلقاء إلى التهلكة هو القنوط من رحمة الله، تعالى قال أبو قلابة: هو الرجل يصيب الذنب فيقول: قد هلكت ليست لي توبة فييأس من رحمة الله وينهمك في المعاصي، فنهاهم الله تعالى عن ذلك كما قال تعالى: ﴿إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون﴾ (يوسف، ٨٧) ﴿وأحسنوا﴾ أي: بالنفقة وغيرها ﴿إنّ الله يحب المحسنين﴾ أي: يثيبهم.
﴿وأتموا الحج والعمرة﴾ أي: أدوهما بحقوقهما. وفي الآية حينئذٍ دليل على وجوبهما، إذ الأصل في الأمر الوجوب وما روي عن جابر أنه قال: «يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج فقال: لا» معارض بما روي أن رجلاً قال لعمر رضي الله تعالى عنه: إني وجدت أي: علمت الحج والعمرة مكتوبين عليّ أهللت بهما جميعاً، فقال: هديت لسنة نبيك، ولا يقال إنه فسر وجدانهما مكتوبين بقوله: أهللت بهما؛ لأنه رتب الإهلال بهما على الوجدان، وذلك يدل على أنه سبب الإهلال دون العكس وقيل: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، روي ذلك عن عليّ وابن عباس رضي الله تعالى عنهم وقيل: إن تفرد لكل واحد منهما سفراً، وقيل: أن تكون النفقة حلالاً وقيل: أن تخلصهما للعبادة ولا تشوبهما بشيء من التجارة والأغراض الدنيوية.
﴿فإن أحصرتم﴾ أي: منعتم عن إتمامهما يقال: حصره وأحصره العدوّ إذا منعه قال
روبيل لذلك، وكانوا أولاد يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا، وكان روبيل إذا غضب لم يقم لغضبه شيء، وكان إذا صاح ألقت كل حامل حملها إذا سمعت صوته، وكان مع هذا إذا مسه أحد من ولد يعقوب عليه السلام يسكن غضبه، وكان أقوى الأخوة وأشدّهم، وروي أنه قال لإخوته: كم عدد الأسواق بمصر؟ قالوا: عشرة. فقال: اكفوني أنتم الأسواق، وأنا أكفيكم الملك أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق، ودخلوا على يوسف فقال روبيل: لتردّن علينا أخانا أو لأصيحنّ صيحة لا تبقي بمصر امرأة حامل إلا ألقت ولدها، وقامت كل شعرة في جسده حتى خرجت من ثيابه، فقال يوسف لابن له صغير: قم إلى جنب روبيل فمسه، ويروى خذ بيده فائتني به،
فذهب الغلام فمسه فسكن غضبه فقال لإخوته: من مسني منكم؟ قالوا: لم يصبك منا أحد. فقال روبيل: إنّ هنا بذراً من بذر يعقوب. فقال يوسف: من يعقوب؟ وروي أنه غضب ثانياً، فقام إليه يوسف فركضه برجله، وأخذ بتلابيبه فوقع على الأرض، وقال: أنتم يا معشر العبرانيين تظنون أنّ لا أحد أشد منكم فلما صار أمرهم إلى هذا ورأوا أن لا سبيل لهم إلى تخليصه خضعوا وذلوا.
و ﴿قالوا يا أيها العزيز﴾ فخاطبوه بما يليق بالأكابر ليرق لهم ﴿إن له﴾، أي: هذا الذي وجد الصواع في رحله ﴿أباً شيخاً كبيراً﴾، أي: في سنه وقدره وهو مغرم به لا يقدر على فراقه ولا يصبر عنه ﴿فخذ أحدنا مكانه﴾ وأحسن إلى أبيه بإرساله إليه ﴿إنا نراك﴾، أي: نعلمك علماً هو كالرؤية أو بحسب ما رأيناه ﴿من المحسنين﴾، أي: العريقين في صفة الإحسان فاجر في أمرنا على عادة إحسانك، فكأنه قيل: فما أجابهم؟ قيل:
قال ابن الأنباري: وليس في هذه الأفعال كلها سرقة، ولكنها تشبهها فعيروه بها عند الغضب، وقيل: إنهم كذبوا عليه وبهتوه، وكانت قلوبهم مملوءة من الغضب على يوسف بعد تلك الوقائع وبعد انقضاء المدّة الطويلة. قال الرازي: وهذه الواقعة تدل على أنّ قلب الحاسد لا يطمئن من الغل البتة. ﴿فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها﴾، أي: يظهرها ﴿لهم﴾ والضمير للكلمة التي هي قوله: ﴿قال﴾، أي: في نفسه ﴿أنتم شرّ مكاناً﴾، أي: من يوسف وأخيه، أي: لسرقتكم أخاكم من أبيكم وظلمكم له، وقيل: الضمير يرجع إلى الكلمة التي قالوها في حقه، وهي قولهم: ﴿فقد سرق أخ له من قبل﴾ وعلى هذا يكون المعنى: فأسر يوسف جواب الكلمة التي قالوها في حقه ﴿والله أعلم﴾ منكم ﴿بما تصفون﴾، أي: تقولون، وأنه ليس كما قلتم، قال أصحاب الأخبار والسير: إنّ يوسف عليه السلام لما استخرج الصاع من رحل بنيامين نقره وأدناه إلى أذنه ثم قال: إنّ صاعي هذا يخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلاً لأب واحد وإنكم انطلقتم بأخ لكم من أبيكم فبعتموه فقال بنيامين: أيها الملك إنّ صاعك يخبرك من جعله في رحلي، ثم نقره وأدناه من أذنه، فقال: إنّ صاعي غضبان وهو يقول: كيف تسألوني عن صاحبي وقد رؤيت مع من كنت؟ قالوا: فغضب روبيل لذلك، وكانوا أولاد يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا، وكان روبيل إذا غضب لم يقم لغضبه شيء، وكان إذا صاح ألقت كل حامل حملها إذا سمعت صوته، وكان مع هذا إذا مسه أحد من ولد يعقوب عليه السلام يسكن غضبه، وكان أقوى الأخوة وأشدّهم، وروي أنه قال لإخوته: كم عدد الأسواق بمصر؟ قالوا: عشرة. فقال: اكفوني أنتم الأسواق، وأنا أكفيكم الملك أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق، ودخلوا على يوسف فقال روبيل: لتردّن علينا أخانا أو لأصيحنّ صيحة لا تبقي بمصر امرأة حامل إلا ألقت ولدها، وقامت كل شعرة في جسده حتى خرجت من ثيابه، فقال يوسف لابن له صغير: قم إلى جنب روبيل فمسه، ويروى خذ بيده فائتني به،
فذهب الغلام فمسه فسكن غضبه فقال لإخوته: من مسني منكم؟ قالوا: لم يصبك منا أحد. فقال روبيل: إنّ هنا بذراً من بذر يعقوب. فقال يوسف: من يعقوب؟ وروي أنه غضب ثانياً، فقام إليه يوسف فركضه برجله، وأخذ بتلابيبه فوقع على الأرض، وقال: أنتم يا معشر العبرانيين تظنون أنّ لا أحد أشد منكم فلما صار أمرهم إلى هذا ورأوا أن لا سبيل لهم إلى تخليصه خضعوا وذلوا.
و ﴿قالوا يا أيها العزيز﴾ فخاطبوه بما يليق بالأكابر ليرق لهم ﴿إن له﴾، أي: هذا الذي وجد الصواع في رحله ﴿أباً شيخاً كبيراً﴾، أي: في سنه وقدره وهو مغرم به لا يقدر على فراقه ولا يصبر عنه ﴿فخذ أحدنا مكانه﴾ وأحسن إلى أبيه بإرساله إليه ﴿إنا نراك﴾، أي: نعلمك علماً هو كالرؤية أو بحسب ما رأيناه ﴿من المحسنين﴾، أي: العريقين في صفة الإحسان فاجر في أمرنا على عادة إحسانك، فكأنه قيل: فما أجابهم؟ قيل:
﴿قال معاذ الله﴾ هو نصب على المصدر، وحذف فعله وأضيف إلى المفعول، أي: نعوذ بالذي لا مثل له معاذاً عظيماً من ﴿أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده﴾ ولم يقل: سرق متاعنا؛ لأنه لم يفعل في الصواع فعل السارق، ولم يقع منه قبل ذلك ما يصح إطلاق الوصف عليه، ثم علله بقوله ﴿إنا إذاً﴾، أي: إذا أخذنا أحداً مكانه ﴿لظالمون﴾، أي: عريقون في الظلم في دينكم، فلم تطلبون ما هو ظلم عندكم، ولما استيأسهم بما قال عن إطلاق بنيامين حكى الله تعالى ما تم لهم من الرأي فقال:
﴿فلما﴾ دالاً بالفاء على قرب زمن تلك المراجعات ﴿استيأسوا﴾، أي: أيسوا ﴿منه﴾ لما رأوا من إحسانه ولطفه ورحمته يأساً شديداً بما رأوا من ثباته على أخذه بعينه وعدم استبداله ﴿خلصوا﴾، أي: انفردوا عن غيرهم حال كونهم ﴿نجياً﴾ وهو مصدر يصلح للواحد وغيره، أي: ذوي نجوى يناجي بعضهم بعضاً، فكأنه قيل: فما قالوا؟ فقيل: ﴿قال كبيرهم﴾ في السنّ وهو روبيل، وقيل: في الفضل والعلم وهو يهوذا، وقيل: شمعون وكان له الرياسة على إخوته ﴿ألم تعلموا﴾ مقرراً لهم بما يعرفونه مع قرب الزمان ليشتدّ توجههم في بذل الجهد في الخلاص من غضب أبيهم ﴿أن أباكم﴾، أي: الشيخ الكبير الذي فجعتموه في أحب ولده إليه ﴿قد أخذ عليكم﴾، أي: قبل أن يعطيكم هذا الولد الآخر ﴿موثقاً﴾، أي: عهداً وثيقاً ﴿من الله﴾ في أخيكم، وإنما جعل حلفهم بالله موثقاً منه؛ لأنه بإذن منه وتأكيد من جهته، وقوله ﴿ومن قبل ما فرطتم﴾ في هذه الآية وجوه: أظهرها أن ما مزيدة فيتعلق الظرف بالفعل بعدها والتقدير: ومن قبل هذا فرطتم، أي: قصرتم في حق يوسف وشأنه، وزيادة ما كثيرة، وبه بدأ الزمخشري وغيره، وقيل: أنها مصدرية في محل رفع
شيئاً من خطاياهم.
فإن قيل قال الله تعالى: ﴿وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء﴾ ثم قال الله تعالى:
﴿وليحملنّ﴾ أي: الكفرة ﴿أثقالهم﴾ أي: أثقال ما اقترفته أنفسهم ﴿وأثقالاً مع أثقالهم﴾ أي: أثقالاً بقولهم للمؤمنين: اتبعوا سبيلنا وبإضلالهم مقلديهم فكيف الجمع بينهما؟ أجيب: بأن قول القائل حمل فلان عن فلان يريد أن حمل فلان خف فإن لم يخف حمله فلا يكون قد حمل منه شيئاً فقوله تعالى: ﴿وما هم بحاملين من خطاياهم﴾ يعني: لا يرفعون عنهم خطيئة بل يحملون أوزار أنفسهم وأوزاراً بسبب إضلالهم كقوله ﷺ «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء» وقال تعالى في آية أخرى: ﴿ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم﴾ (النحل، ٢٥) من غير أن ينقص من أوزار من تبعهم شيء ﴿وليسئلن يوم القيامة﴾ أي: سؤال توبيخ وتقريع ﴿عما كانوا يفترون﴾ أي: يختلقون من الأكاذيب والأباطيل، واللام في الفعلين لام قسم وحذف فاعلهما الواو ونون الرفع، ولما كان السياق للبلاء والامتحان والصبر على الهوان ذكر من الرسل الكرام عليهم السلام من طال صبره على البلاء ولم يفتر عزمه عن نصيحة العباد بقوله تعالى:
﴿ولقد أرسلنا نوحاً﴾ أي: أوّل رسل الله إلى المخالفين من العباد وهو معنى ﴿إلى قومه﴾ وعمره أربعون سنة فإنّ الكفر كان قد عمّ أهل الأرض وكان عليه السلام أطول الأنبياء ابتلاء بهم، ولذلك قال الله تعالى مسبباً عن ذلك ومتعقباً: ﴿فلبث فيهم﴾ أي: بعد الرسالة ﴿ألف سنة إلا خمسين عاماً﴾ يدعوهم إلى توحيد الله تعالى فكذبوه ﴿فأخذهم الطوفان﴾ أي: الماء الكثير فغرقوا ﴿وهم ظالمون﴾ قال ابن عباس مشركون، وفي ذلك تسلية للنبيّ ﷺ ولتابعيه رضي الله تعالى عنهم وتثبيت لهم وتهديد لقريش، قال ابن عباس: كان عمر نوح عليه السلام ألفاً وخمسين سنة بعث على رأس أربعين سنة ولبث في قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا.
وروي عن ابن عباس أنه بعث وهو ابن أربعمائة وثمانين سنة وعاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة فإن كان هذا محفوظاً عن ابن عباس فيضاف إلى لبثه في قومه وهو تسعمائة وخمسون سنة فيكون قد عاش ألف سنة وسبعمائة وثمانين سنة، وأما قبره عليه السلام فروى ابن جرير والأزرقي حديثاً مرسلاً «أنّ قبره بالمسجد الحرام»، وقيل ببلدة البقاع يعرف اليوم بكرك نوح، وهناك جامع قد بني بسبب ذلك.
وعن وهب أنه عاش ألفاً وأربعمائة سنة، والآية تدلّ على خلاف قول الأطباء العمر الإنساني لا يزيد على مائة وعشرين سنة ويسمونه العمر الطبيعي، قال الرازي: ونحن نقول ليس طبيعياً بل هو عطاء إلهي وأمّا العمر الطبيعي فلا يدوم عنده ولا نجده فضلاً عن مائة أو أكثر، فإن قيل: هلا قال تسعمائة سنة وخمسين ولم جاء التمييز أولاً بالسنة وثانياً بالعام؟ أجيب: عن الأوّل بأن ما أورده الله تعالى أحكم لأنه لو قيل كما ذكر لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره وهذا التوهم زائل مع مجيئه كذلك وكأنه قال تسعمائة وخمسين سنة كاملة وافية العدد إلا أنّ ذلك أخصر وأعذب لفظاً وأملأ بالفائدة، وفيه نكتة أخرى وهي أنّ القصة مسوقة لذكر ما ابتلي به نوح عليه السلام من أمته وما كابده من طول المصابرة تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم
والسلام في السموات.
ولما قرّر تعالى الرسالة ذكر ما ينبغي أن يبتدئ به الرسول وهو التوحيد ومنع الخلق عن الإشراك بقوله تعالى:
إشارة إلى إبطال قولهم كما إذا ادّعى ضعيف الملك ثم رآه العقلاء في غاية البعد عما يدعيه يقولون: انظروا إلى هذا الذي يدعي الملك منكرين عليه غير مستدلين بدليل لظهور أمره، فلذلك قال تعالى: ﴿أفرأيتم اللات والعزى﴾ أي كما هما فكيف تشركونهما بالله سبحانه وتعالى، واللات صنم ثقيف والعزى شجرة لغسان وهما أعظم أصنامهم، اشتقوا لهما اسمين من أسماء الله تعالى فقالوا من الله اللات ومن العزيز العزى وقيل: العزى تأنيث الأعز وعن ابن عباس كان اللات رجلاً يلت السويق للحاج فلما مات عكفوا على قبره.
وعن مجاهد أن العزى شجرة لغطفان كانوا يعبدونه فبعث رسول الله ﷺ خالد بن الوليد فقطعها فجعل خالد يضربها بالفأس ويقول:

*يا عز كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك*
فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية بويلها واضعة يدها على رأسها ويقال إنّ خالداً رجع إلى النبي ﷺ فقال: قد قلعتها فقال ما رأيت قال ما رأيت شيئاً فقال النبيّ ﷺ ما فعلت فعاودها ومعه المعول فقلعها واجتث أصلها فخرجت منها امرأة عريانة فقتلها ثم رجع إلى رسول الله ﷺ فأخبره فقال تلك العزى ولن تعبد أبداً.
وقال الضحاك: هي صنم لغطفان وضعها لهم سعيد بن ظالم الغطفاني، وذلك أنه لما قدم مكة فرأى الصفا والمروة ورأى أهل مكة يطوفون بهما فعاد إلى نخلة وقال لقومه: إن لأهل مكة الصفا والمروة وليستا لكم ولهم إله يعبدونه وليس لكم قالوا: فما تأمرنا به، قال: أنا أصنع لكم كذلك وأخذ حجراً من الصفا وحجراً من المروة ونقلهما إلى نخلة فوضع الذي أخذه من الصفا وقال: هذا الصفا ووضع الذي أخذه من المروة، وقال هذه المروة: ثم أخذ ثلاثة أحجار فاسندها إلى شجرة فقال: هذا ربكم، فجعلوا يطوفون بين الحجرين ويعبدون الحجارة حتى افتتح رسول الله ﷺ مكة فأمر برفع الحجارة وبعث خالد بن الوليد إلى العزى فقطعها وقال ابن زيد: هي بيت بالطائف كان تعبده ثقيف.
وأما قوله تعالى ﴿ومناة﴾ فقال قتادة: هي صخرة كانت لخزاعة بقديد، وقالت عائشة في الأنصار كانوا يصلون لمناة فكانت حذو قديد. وقال ابن زيد بيت بالمشلل تعبده بنو كعب وقال الضحاك: مناة صنم لهذيل وخزاعة يعبده أهل مكة وقيل اللات والعزى ومناة أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها.
وقوله تعالى: ﴿الثالثة الأخرى﴾ نعت لمناة إذ هي الثالثة للصنمين في الذكر، وأما الأخرى فقال أبو البقاء: توكيد لأنّ الثالثة لا تكون إلا أخرى، وقال الزمخشري: الأخرى ذم وهي المتأخرة الوضيعة المقدار كقوله تعالى: ﴿وقالت أخراهم﴾ أي: وضعاؤهم ﴿لأولاهم﴾ أي: لأشرافهم، ويجوز أن تكون الأولية والتقدّم عندهم للات والعزى ا. هـ. قال ابن عادل: وفيه نظر لأنّ الأخرى إنما تدل على الغيرية وليس فيها تعرّض لمدح ولا ذم فإن جاء شيء فلقرينة خارجية ا. هـ. ووجه الترتيب أنّ اللات كان وثناً على صورة آدمي، والعزى شجرة نبات، ومناة صخرة فهي جماد فهي في أخريات المراتب.
فإن قيل: ما فائدة الفاء في


الصفحة التالية
Icon