عليه الصلاة والسلام المناسك ويقول: عرفت فيقول: عرفت فسمي المكان لذلك عرفات واليوم عرفة. وقال الضحاك: كان آدم عليه الصلاة والسلام لما أهبط وقع في الهند وحوّاء بجدة فجعل كل واحد منهما يطلب صاحبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة فتعارفا فسمي المكان واليوم بما ذكر. وقال السدي: لما أذن إبراهيم في الناس بالحج وأجابوا بالتلبية وأتاه من أتاه أمره الله تعالى أن يخرج إلى عرفات ونعتها له، فلما بلغ الجمرة الأولى استقبله الشيطان يرده فرماه بسبع حصيات يكبّر مع كل حصاة فطار فوقع على الجمرة الثانية فرماه وكبّر، فطار ووقع على الجمرة الثالثة فرماه وكبّر، فلما رأى الشيطان أنه لا يطيعه ذهب فانطلق إبراهيم حتى أتى ذا المجاز، فلما نظر إليه لم يعرفه فجاز فسمي ذا المجاز ثم انطلق حتى وقف بعرفات فعرفها بالنعت فسمي المكان واليوم بما ذكر.
فإن قيل: هلا منعت الصرف وفيها السببان: العلمية والتأنيث أجيب: بأن التأنيث لا يخلو: إما أن يكون بالتاء التي في لفظها وأما بتاء مقدرة كما في سعاد فالتي في لفظها ليست للتأنيث، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع التأنيث ولا يصح تقدير التاء فيها لأنّ هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها كما، لا تقدر تاء التأنيث في بنت لأن التاء التي فيها هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث فأبت تقديرها، وفي الآية دليل على وجوب الوقوف بعرفة لأنّ إذا تدل على أنّ المذكور بعدها محقق لا بدّ منه، فكأنه قيل بعد إفاضتكم من عرفات التي لا بدّ منها اذكروا الله، والإفاضة من عرفات لا تكون إلا بعد الوقوف بها، فوجب أن يكون الوقوف بها واجباً، وعن النبيّ ﷺ «الحج عرفة فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج».k
﴿فاذكروا الله﴾ بالتلبية والتهليل والتكبير والثناء والدعوات وقيل: بصلاة المغرب والعشاء ﴿عند المشعر الحرام﴾ وهو جبل في آخر المزدلفة يقال له قزح، وفي الحديث «أنه ﷺ وقف به يذكر الله تعالى ويدعو حتى أسفر جدّاً» رواه مسلم. وقال جابر «دفع رسول الله ﷺ حتى أتى بالمزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام استقبل القبلة فدعا وكبر وهلل ووحد ولم يزل واقفاً حتى أصبح جداً».
وقوله تعالى: ﴿عند المشعر الحرام﴾ معناه مما يلي المشعر الحرام قريباً منه وذلك للفضل كالقرب من جبل الرحمة وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر، ويسمى مشعراً من الشعار وهي: العلامة؛ لأنه من معالم الحج، ووصف بالحرام لحرمته وتسمى المزدلفة جمعاً؛ لأنه يجمع فيها بين صلاتي المغرب والعشاء، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه نظر إلى الناس ليلة جمع فقال: لقد أدركت الناس هذه الليلة لا ينامون، وقيل: سميت جمعاً لأنّ آدم اجتمع فيها مع حوّاء عليهما الصلاة والسلام وازدلف إليها أي: دنا منها وقيل: وصفت بفعل أهلها لأنهم يزدلفون إلى الله تعالى أي: يتقرّبون بالوقوف فيها.
﴿واذكروه كما هداكم﴾ لمعالم دينه ومناسك حجه والكاف للتعليل. ﴿وإن كنتم من قبله﴾ أي: الهدى ﴿لمن الضالين﴾ أي: الجاهلين بالإيمان والطاعة، وإن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة وقيل: إن هي النافية واللام بمعنى إلا كقوله تعالى: ﴿وإن نظنك لمن الكاذبين﴾ (الشعراء، ١٨٦) أي: ما نظنك إلا من
حاله وأقواله وأفعاله طمع في أن يكون هو يوسف وقال: بعيد أن يظهر في الكفار مثله، ثم تلطف ببنيه وقال لهم: ﴿ولا تيأسوا﴾، أي: تقنطوا ﴿من روح الله﴾ قال ابن عباس: من رحمة الله. وقال قتادة: من فضل الله. وقال ابن زيد: من فرج الله. ﴿إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون﴾، أي: الغريقون في الكفر، قال ابن عباس: إنّ المؤمن من الله على خير يرجوه في البلاء ويحمده على الرخاء، والكافر على الضدّ من ذلك، فإنّ اليأس من رحمة الله لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أنّ إله العالم غير قادر على الكمال، أو غير عالم بجميع المعلومات، أو ليس بكريم بل هو بخيل، وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر، وإذا كان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحد هذه الثلاثة، وكل واحد منها كفر ثبت أنّ اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافراً.
وقرأ البزي بعد التاء من تيأسوا وبعد الياء من لا ييأس بألف وبعدها ياء مفتوحة بخلاف عنه، والباقون بهمزة مفتوحة قبلها ياء ساكنة. ولما قال يعقوب عليه السلام لبنيه ذلك قبلوا منه هذه الوصية وعادوا إلى مصر.
﴿فلما دخلوا عليه﴾، أي: على يوسف عليه السلام ﴿قالوا يا أيها العزيز﴾ وكان العزيز لقباً لملك مصر يومئذ ﴿مسنا وأهلنا﴾، أي: من خلفناهم وراءنا ﴿الضر﴾، أي: لابسنا ملابسة نحسها ﴿وجئنا ببضاعة﴾ وقالوا ﴿مزجاة﴾ إمّا لنقصها أو لرداءتها أو لهما جميعاً. وقال الحسن: البضاعة المزجاة القليلة، واختلفوا في تلك الرداءة. فقال ابن عباس: كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطعام، وقيل: متاع الأعراب الصوف والسمن، وقيل: الأقط، وقيل: النعال والأدم وقيل: إنّ دراهم مصر كان ينقش فيها صورة يوسف عليه السلام، والدراهم التي جاؤوا بها ما كان فيها ذلك فما كانت مقبولة عند الناس، ثم سببوا عن هذا الاعتذار؛ لأنه أقرب إلى رحمة أهل الكرم قولهم: ﴿فأوف لنا الكيل﴾، أي: شفقة علينا بسبب ضعفنا ﴿وتصدّق﴾، أي: تفضل ﴿علينا﴾ زيادة على الوفاء كما عودتنا بفضل ترجو ثوابه، ولما رأوا أفعاله تدل على تمسكه بدين الله تعالى عللوا ذلك بقولهم: ﴿إنّ الله﴾، أي: الذي له الكمال كله ﴿يجزي المتصدّقين﴾، أي: وإن كانت على غني قوي، فكيف إذا كانت على أهل الحاجة والضعف.
فائدة: سئل سفيان بن عيينة هل حرمت الصدقة على نبي من الأنبياء سوى نبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام؟ قال سفيان: ألم تسمع قوله: ﴿وتصدّق علينا..﴾ الآية يريد أن الصدقة كانت حلالاً لهم ولأبيهم. وروي أنّ الحسن سمع رجلاً يقول: اللهم تصدّق عليّ قال: إنّ الله لا يتصدّق وإنما يتصدّق من يبغي الثواب قل: اللهم أعطني وتفضل عليّ.
فإن قيل: إذا كان أبوهم أمرهم أن يتحسسوا من يوسف وأخيه فلم عادوا إلى الشكوى؟ أجيب: بأن المتحسس يتوصل إلى مطلوبه بجميع الطرق والاعتراف بالعجز، وضموا رقة الحال وقلة المال وشدّة الحاجة، وذلك مما يرقق القلب فقالوا: نجربه في هذه الأمور، فإن رق قلبه لنا ذكرنا له المقصود وإلا سكتنا، فقدّموا هذه المقدّمة قال أبو إسحاق: ذكر لي أنهم لما كلموه بهذا الكلام أدركته الرقة على إخوته فارفض دمعه فباح بالذي كان يكتم فلهذا.
﴿قال﴾ لهم ﴿هل علمتم﴾ مقرّراً لهم بعد أن استأنسوا به، قال البقاعي: والظاهر أن هذا كان بغير ترجمان ﴿ما﴾، أي: قبح الذي ﴿فعلتم بيوسف﴾، أي: أخيكم الذي حلتم بينه وبين أبيه ﴿وأخيه﴾ في
الله يسير، الثانية: أنّ العلم الأوّل أتم وإن كان الثاني أعمّ وكون الأعم يسيراً على الفاعل أتم من كونه مقدوراً له بدليل قولك لمن يحمل مائة رطل إنه قادر عليه، فإذا سألت عن حمله عشرة أرطال تقول ذلك سهل يسير عليه فتقول: كان التقدير إن لم يحصل لكم العلم التامّ بأنّ هذه الأمور عند الله سهلة يسيرة فسيروا في الأرض لتعلموا أنه مقدور ونفس كونه مقدوراً كافٍ في إمكان الإعادة ولما تم الدليل على الإعادة أنتج لا محالة أنه:
﴿يعذب﴾ أي: بعدله ﴿من يشاء﴾ تعذيبه أي: منكم ومن غيركم في الدنيا والآخرة ﴿ويرحم﴾ أي: بفضله ورحمته ﴿من يشاء﴾ رحمته فلا يمسه سوء، فإن قيل: لم قدم التعذيب في الذكر على الرحمة مع أنّ رحمته سابقة كما قال ﷺ عن الله تعالى: «سبقت رحمتي غضبي» ؟ أجيب: بأنّ السابق ذكر الكفار فذكر العذاب لسبق ذكر مستحقه بحكم الإيعاد وعقبه بالرحمة، فذكر الرحمة وقع تبعاً لئلا يكون العذاب مذكوراً وحده وهذا تحقيق قوله: «رحمتي سبقت غضبي» ﴿وإليه﴾ وحده ﴿تقلبون﴾ أي: تردون بعد موتكم بأيسر سعي.
﴿وما أنتم بمعجزين﴾ ربكم عن إدراككم ﴿في الأرض﴾ كيف انقلبتم في ظاهرها وباطنها واختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ولا في السماء﴾ لأنّ الخطاب مع الآدميين وهم ليسوا في السماء فقال الفراء معناه: ولا مَنْ في السماء بمعجز إن عصى كقول حسان بن ثابت رضى الله تعالى عنه:

*فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء*
أراد ومن يمدحه وينصره فأضمر (من) يريد أنه لا يعجز أهل الأرض من في الأرض ولا أهل السماء من في السماء فالمعنى أنّ من في السماء عطف بتقدير إن يعصى وقال الفراء: وهذا من غوامض العربية، وقال قُطْرب: وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء لو كنتم فيها كقول القائل: ما يفوتني فلان هنا ولا في البصرة أي: ولا في البصرة لو كان بها وكقوله تعالى: ﴿إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض﴾ (الرحمن: ٣٣)
أي: على تقدير إن تكونوا فيها.
وقال ابن عادل: وأبعد من ذلك من قدر موصولين محذوفين، أي: وما أنتم بمعجزين مَنْ في الأرض من الجنّ والأنس ولا مَنْ في السماء من الملائكة فكيف تعجزون خالقهما، وعلى قول الجمهور يكون المفعول محذوفاً أي: وما أنتم بمعجزين أي: فائتين ما يريد الله تعالى، وقال البقاعي: ويمكن أن يكون له نظر إلى قصة نمروذ وبنائه الصرح الذي أراد به التوصل إلى السماء لا سيما والآيات مكتنفة بقصة إبراهيم عليه السلام من قبلها ومن بعدها، ولما أخبرهم بأنهم مقدور عليهم وكان ربما يتوهم أن غيرهم ينصرهم صرح بنفيه في قوله تعالى ﴿ومالكم﴾ أي: أجمعين وأشار إلى سفول رتبة كل من سواه بقوله تعالى: ﴿من دون الله﴾ أي: غيره وأكد النفي بإثبات الجار بقوله ﴿من ولي﴾ أي: قريب يحميكم لأجل القرابة ﴿ولا نصير﴾ ينصركم من عذابه، ولما بين الأصلين التوحيد والإعادة وقررهما بالبرهان هدد كل من خالفه على سبيل التفصيل بقوله تعالى:
﴿والذين كفروا﴾ أي: ستروا ما أظهرت لهم أنوار العقول ﴿بآيات الله﴾ أي: بسبب دلائل الملك الأعظم المرئية والمسموعة التي لا أوضح منها ﴿ولقائه﴾ بالبعث بعد الموت الذي أخبر به وأقام الدليل عليه
في القتال، وإما بغير ذلك بالموت حتف الأنف تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم ثم بعذاب الآخرة على جميع ذنوبهم من غير أن يكون عجل لهم في الدنيا شيء ينقص بسببه عذاب الآخرة.
تنبيه: اللام في ليجزي يجوز أن تتعلق بقوله تعالى: ﴿بمن ضل﴾ و ﴿بمن اهتدى﴾، واللام للصيرورة أي عاقبة أمرهم جميعاً للجزاء بما عملوا قال معناه الزمخشري، وأن تتعلق بما دلّ عليه قوله تعالى: ﴿أعلم بمن ضلّ﴾ أي: حفظ ذلك ليجزي قاله أبو البقاء ﴿ويجزي﴾ أي: ويثيب ويكرم ﴿الذين أحسنوا﴾ أي: على ثباتهم على الدين وصبرهم عليه وعلى أذى أعدائهم ﴿بالحسنى﴾ أي: بالمثوبة الحسنى وهي الجنة.
وبين المحسنين بقوله تعالى: ﴿الذين يجتنبون﴾ أي: يكلفون أنفسهم ويجهدونها على أن يتركوا ﴿كبائر الإثم﴾ أي: ما عظم الشارع إثمه بعد تحريمه بالوعيد والحد، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الباء الموحدة وبعدها ياء ساكنة والباقون بفتح الموحدة وبعدها ألف وبعد الألف همزة مكسورة وعطف على كبائر قوله تعالى: ﴿والفواحش﴾ والفاحشة من الكبائر ما كرهه الطبع وأنكره العقل واستخبثه الشرع والكبيرة صفة عائدة إلى الكيفية.
وقوله تعالى: ﴿إلا اللمم﴾ فيه أوجه: أحدها وهو المشهور أنه استثناء منقطع أي لكن اللمم، لأنه الصغائر فلم تندرج فيما قبلها ثانيها: أنه صفة وإلا بمعنى غير كقوله تعالى ﴿لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا﴾ (الأنبياء: ٢٢)
أي كبائر الأثم والفواحش غير اللمم. ثالثها: أنه متصل وهذا عند من يفسر اللمم بغير الصغائر قالوا: إنّ اللمم من الكبائر والفواحش قالوا: إن معنى الآية إلا أن يلم بالفاحشة مرّة ثم يتوب ويقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة ومجاهد والحسن ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال عبد الله بن عمرو بن العاص: اللمم ما دون الشرك قال السدي: قال أبو صالح: سئلت عن قول الله عز وجل إلا اللمم فقلت: هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده فذكرت ذلك لابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال: لقد أعانك عليها ملك كريم وروى: عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه قال: ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبيّ ﷺ قال: «أن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» ولمسلم «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا يدرك ذلك لا محالة العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه النطق واليد زناها البطش والرجل زناها الخطأ والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه».
تنبيه: ذهب الجماهير من السلف والخلف من جميع الطوائف إلى انقسام المعاصي إلى كبائر وصغائر، وقد تظاهرت على ذلك دلائل الكتاب والسنة، وقد اختلف في ضبط الكبيرة بالحد فقال جمع: هي ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة، وقال جمع: هي المعصية الموجبة للحد والأوّل أوجه لأنهم عدوا الربا وأكل مال اليتيم وشهادة الزور ونحوها من الكبائر ولا حد فيها وقال إمام الحرمين: هي كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين، وأما تعريفها بالعد فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هي إلى السبعين أقرب وقال سعيد بن جبير هي إلى السبعمائة أقرب أي باعتبار أصناف أنواعها وما عدا المحدود من المعاصي فمن الصغائر ولا بأس بذكر شيء من النوعين.


الصفحة التالية
Icon