وله الجنة؟». فقال الزبير: أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد، فخرجا يسيران بالليل ويكمنان بالنهار حتى وصلا إليه ليلاً، وإذا حول الخشبة أربعون من المشركين نيام فأنزله الزبير وحمله على فرسه وسارا فانتبه الكفار فلم يجدوه فأخبروا قريشاً فركب منهم سبعون فلما لحقوهما قذف الزبير خبيباً فابتلعته الأرض فسمي بليع الأرض، ثم رفع الزبير العمامة عن رأسه وقال: أنا الزبير بن العوام وأمي صفية بنت عبد المطلب، وصاحبي المقداد بن الأسود، فإن شئتم ناضلتكم وإن شئتم نازلتكم وإن شئتم انصرفتم، فانصرفوا إلى مكة وقدما على رسول الله ﷺ وجبريل عنده، فقال: يا محمد إن الملائكة لتتباهى بهذين من أصحابك فنزلت فيهما هذه الآية ﴿وا رؤوف بالعباد﴾ حيث أرشدهم لما فيه رضاه.
ونزل في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه: ﴿يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم﴾ أي: الإسلام وقوله تعالى: ﴿كافة﴾ حال من السلم لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب، كما قال القائل:

*أبا خراشة أما أنت ذا نفر فإن قومي لم تأكلهم الضبع*
*في السلم تأخذ منا ما رضيت به والحرب تكفيك من أنفاسها جزع*
أي ادخلوا في جميع شرائعه، وذلك أنهم يعظمون السبت، ويكرهون لحوم الإبل وألبانها بعدما أسلموا، فأمروا أن يدخلوا في جميع شرائعه.
﴿ولا تتبعوا خطوات﴾ أي: طرق (الشيطان)، أي تزيينه من تحريم السبت ولحوم الإبل وألبانها. وقرأ نافع وابن كثير والكسائي: السَّلْم بفتح السين، والباقون بكسرها، وتقدم الكلام في خطوات لابن عامر، وقنبل وحفص والكسائي بضم الطاء ﴿إنه لكم عدوّ مبين﴾ ظاهر العداوة.
﴿فإن زللتم﴾ أي: مِلْتم عن الدخول في جميعه ﴿من بعد ما جاءتكم البينات﴾ أي: الحجج الظاهرة أنه حق ﴿فاعلموا أن الله عزيز﴾ لا يعجزه شيء عن انتقامه منكم ﴿حكيم﴾ في صنعه.
تنبيه: قول البيضاوي: حكيم لا ينتقم إلا بحق تبع فيه الزمخشري، وهو مذهب المعتزلة فإنهم يقولون: لا ينتقم إلا بقدر ما يستحقه العاصي، ومذهب أهل السنة أنه ينتقم ويعاقب من شاء بما شاء وإن كان مطيعاً؛ إذ هو متصرّف في ملكه يفعل ما يشاء بمن شاء وإن لم يقع منه الانتقام إلا ممن أساء. وروي أنّ قارئاً قرأ غفور رحيم بدل عزيز حكيم فسمعه أعرابي لم يقرأ القرآن فأنكره وقال: إن كان هذا كلام الله فلا يذكر الغفران عند الزلل؛ لأنه إغراء عليه.
قوله تعالى: ﴿هل ينظرون﴾ استفهام في معنى النفي أي: ما ينظرون ﴿إلا أن يأتيهم الله﴾ أي: أمره أو بأسه كقوله تعالى: ﴿أو يأتي أمر ربك﴾ (النحل، ٣٣) أي: عذابه وقوله تعالى: ﴿جاءهم بأسنا﴾ (الأنعام، ٤٣) أو ﴿يأتيهم الله ببأسه﴾ (،) فحذف المأتيّ به للدلالة عليه بقوله تعالى: ﴿إن الله عزيز حكيم﴾.
﴿في ظلل﴾ جمع ظلة وهي ما أظلك ﴿من الغمام﴾ أي: من السحاب الأبيض سمي غماماً لأنه يغم أي: يستر، وإنما يأتيهم العذاب فيه لأنه مظنة الرحمة وهي نزول المطر فإذا جاء منه العذاب كان أفظع؛ لأنّ الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب، فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير.
﴿و﴾ تأتيهم ﴿الملائكة﴾ فإنهم الواسطة في إتيان أمره أو الآتون على الحقيقة ببأسه. قال البغويّ: والأولى في هذه الآية وفيما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها ويكل علمها إلى الله تعالى، ويعتقد أن الله تعالى منزه عن
واختلفوا في سبب هذا المعنى على وجوه، فقال ابن عباس والأكثرون: أراد أن يستغفر لهم في وقت السحر؛ لأنّ هذا الوقت أوفق الأوقات لرجاء الإجابة، وفي رواية أخرى له أنه أخر الاستغفار إلى ليلة الجمعة؛ لأنها أوفق لأوقات الإجابة.
وقال وهب: كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة. وقال طاوس: أخر إلى السحر من ليلة الجمعة فوافق ليلة عاشوراء، وقيل: استغفر لهم في الحال، وقوله: ﴿سوف أستغفر لكم﴾ معناه أني أدوام على هذا الاستغفار في الزمان المستقبل، وقيل: قام إلى الصلاة في وقت السحر فلما فرغ رفع يديه، وقال: اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه، واغفر لأولادي ما فعلوا في حق يوسف، فأوحى الله تعالى إليه أني قد غفرت لك ولهم أجمعين.
وعن الشعبي قال: أسأل يوسف أن عفا عنكم استغفر لكم ربي ﴿إنه هو الغفور الرحيم﴾ كل ذلك تسكيناً لقلوبهم وتصحيحاً لرجائهم، وروي أنّ يوسف عليه السلام كان بعث مع البشير إلى يعقوب عليه السلام مئتي راحلة وجهازاً كثيراً ليأتوا بيعقوب وأهله وولده، فتهيأ يعقوب عليه السلام للخروج إلى مصر، فخرج بهم فلما دنا من مصر كلم يوسف الملك الذي فوقه، فخرج يوسف عليه السلام والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وركب أهل مصر معهما بأجمعهم يتلقون يعقوب، وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على يهوذا، فنظر إلى الخيل والناس فقال: يا يهوذا هذا فرعون مصر؟ قال: لا هذا ابنك يوسف، فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف يبدؤه بالسلام، فقال له جبريل: لا حتى يبدأ يعقوب بالسلام فقال يعقوب: السلام عليك يا مذهب الأحزان.
وقال الثوري: لما التقى يعقوب ويوسف عليهما السلام عانق كل واحد منهما صاحبه وبكى فقال يوسف: يا أبت بكيت عليّ حتى ابيضت عيناك ألم تعلم أنّ القيامة تجمعنا؟ قال: بلى يا بنيّ ولكن خشيت أن يسلب دينك، فيحال بيني وبينك فذلك قوله تعالى:
﴿فلما دخلوا على يوسف آوى﴾، أي: ضمّ ﴿إليه أبويه﴾ قال الحسن: أباه وأمّه وكانت حية إكراماً لهما بما يتميزان، به وغلب الأب في التثنية لذكورته، وعن ابن عباس أنها خالته ليا وكانت أمه قد ماتت في نفاس بنيامين. قال البغويّ: وفي بعض التفاسير أنّ الله تعالى أحيا أمّه حتى جاءت مع يعقوب إلى مصر.
فإن قيل: ما معنى دخولهم عليه قبل مصر؟ أجيب: بأنه حين استقبلهم نزل بهم في خيمة أو بيت هناك فدخلوا عليه وضمّ إليه أبويه ﴿وقال﴾ مكرماً ﴿ادخلوا مصر﴾، أي: البلد المعروف وأتى بالشرط للأمن لا للدخول فقال: ﴿إن شاء الله آمنين﴾ من جميع ما ينوب حتى مما فرطتم في حقي وفي حق أخي، روي أنّ يعقوب عليه السلام وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى عليه السلام والمقاتلون منهم ألف وبضعة وسبعون رجلاً سوى الصبيان والشيوخ.
﴿و﴾ لما استقرّت بهم الدار بدخول مصر ﴿رفع أبويه﴾، أي: أجلسهما معه ﴿على العرش﴾، أي: السرير الرفيع والرفع هو النقل إلى العلوّ ﴿وخرّوا له﴾، أي: انحنوا له أبواه وإخوته ﴿سجداً﴾، أي: سجود انحناء، والتواضع قد يسمى سجوداً كقول الشاعر:
*ترى ألا كم فيها سجداً للحوافر
لا وضع جبهة وكان تحيتهم في ذلك الزمان، أو أنهم وضعوا الجباه وكان ذلك على طريقة التحية والتعظيم لا على طريقة
تأكيداً التجاوز قبحها الذي ينكرونه بقوله:
﴿أئنكم لتأتون الرجال﴾ إتيان الشهوة وعطف عليها ما ضموه إليها من المناكر بقوله ﴿وتقطعون السبيل﴾ أي: طريق المارّة بالقتل وأخذ المال بفعلكم الفاحشة بمن يمرّ بكم فترك الناس الممرّ بكم أو تقطعون سبيل النساء بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث ﴿وتأتون في ناديكم المنكر﴾ أي: تفعلون في متحدّثكم فعل الفاحشة بعضكم ببعض وهو مما تنكره الشرائع والمروءآت والعقول وأنتم لا تتحاشون عن شيء منه في المجتمع الذي يتحاشى فيه الإنسان من فعل خلاف الأولى من غير أن يستحي بعضكم من بعض، قال ابن عباس: المنكر هو الحذف بالحصا والرمي بالبنادق والفرقعة ومضع العلك والسواك بين الناس وحلّ الأزار والسباب والتضارط في مجالسهم والفحش والمزاح، وعن عائشة رضى الله تعالى عنها كانوا يتحابقون، وقيل: السخرية بمن يمرّ بهم، وقيل المجاهرة في ناديهم بذلك العمل وكل معصية فإظهارها أقبح من سترها، ولذلك جاء «من خرق جلباب الحياء فلا غيبة له» ولا يقال للمجلس نادياً إلا ما دام فيه أهله فإذا قاموا عنه لم يسمّ نادياً، وعن مكحول في أخلاق قوم لوط مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء وحلّ الإزار والصفير والحذف واللوطية، ودلّ على عنادهم بقوله تعالى مسبباً عن هذه الفضائح بالنهي عن تلك القبائح ﴿فما كان جواب قومه﴾ أي: الذين فيهم قوّة ونجدة بحيث يخشى شرّهم ويتقى أذاهم لما أنكر عليهم ما أنكر ﴿إلا أن قالوا﴾ عناداً وجهلاً واستهزاءً ﴿ائتنا بعذاب الله﴾ وعبروا بالاسم الأعظم زيادة في الجراءة ﴿إن كنت من الصادقين﴾ أي: في استقباح ذلك وأنّ العذاب نازل بفاعليه، فإن قيل: قال قوم إبراهيم عليه السلام اقتلوه أو حرّقوه وقال قوم لوط: ﴿ائتنا بعذاب الله إنّ كنت من الصادقين﴾ وما هدّدوه مع أنّ إبراهيم كان أعظم من لوط فإنّ لوطاً كان من قومه؟ أجيب: بأنّ إبراهيم كان يقدح في دينهم ويشتم آلهتهم ويعدّد صفات نقصهم بقوله لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يغني والسب في الدين صعب
فجعلوا جزاءه القتل والتحريق، ولوط كان ينكر عليهم فعلهم وينسبهم إلى ارتكاب المحرّم وهم ما كانوا يقولون إن هذا واجب من الدين فلم يصعب عليهم مثل ما صعب على قوم إبراهيم كلام إبراهيم فقالوا له: إنك تقول إن هذا حرام والله يعذب عليه فإن كنت صادقاً فائتنا بالعذاب، فإن قيل: إنّ الله تعالى قال في موضع آخر.
﴿فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم﴾ (النمل، ٥٦) وقال هنا: ﴿فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله﴾ فكيف الجمع؟ أجيب: بأنّ لوطاً كان ثابتاً على الإرشاد مكرّراً على النهي والوعيد فقالوا أولاً: ائتنا، ثم لما كثر ذلك منه ولم يسكت عنهم قالوا: أخرجوا ولما أيس منهم طلب النصرة من الله بأن.
﴿قال﴾ أي: لوط عليه السلام معرضاً عنهم مقبلاً بكليته على المحسن إليه ﴿رب﴾ أي: أيها المحسن إليّ ﴿انصرني على القوم﴾ أي: الذين فيهم من القوّة ما لا طاقة لي بهم معه ﴿المفسدين﴾ أي: العاصين بإتيان الرجال ووصفهم بذلك مبالغة في استنزال العذاب وإشعاراً بأنهم أحقاء بأن يعجل لهم العذاب ولما دعا لوط على قومه بقوله رب إلى آخره استجاب الله تعالى دعاءه وأمر ملائكته بإهلاكهم
فانتفعا بصلاح أبيهما وليس هو من سعيهما. ثامنها: أنّ الميت ينتفع بالصدقة عنه والعتق بنص السنة والإجماع وهو من عمل الغير. تاسعها: أنّ الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه بنص السنة وهو انتفاع بعلم الغير. عاشرها: أنّ الحج المنذور أو الصوم المنذور يسقط عن الميت بعمل غيره بنص السنة وهو انتفاع بعمل الغير. حادي عشرها: أن المدين الذي امتنع ﷺ من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة، وقضى دين الآخر علي بن أبي طالب وانتفع بصلاة النبيّ ﷺ وبردت جلدته بقضاء دينه وهو من عمل الغير. ثاني عشرها: أنّ النبيّ ﷺ قال لمن صلى وحده «ألا رجل يتصدّق على هذا فيصلى معه» فقد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير. ثالث عشرها: أنّ الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها قاض عنه وذلك انتفاع بعمل الغير. رابع عشرها: أن من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه وهذا انتفاع بعمل الغير. خامس عشرها: أنّ الجار الصالح ينفع في المحيا والممات كما جاء في الأثر وهذا انتفاع بعمل الغير. سادس عشرها: أنّ جليس أهل الذكر يرحم بهم وهو لم يكن منهم ولم يجلس لذلك بل لحاجة عرضت له والأعمال بالنيات فقد انتفع بعمل غيره. سابع عشرها: الصلاة على الميت والدعاء له في الصلاة انتفاع للميت بصلاة الحيّ عليه وهو عمل غيره. ثامن عشرها: أنّ الجمعة تحصل باجتماع العدد وكذلك الجماعة بكثرة العدد وهو انتفاع للبعض بالبعض. تاسع عشرها: أنّ الله تعالى قال لنبيه ﷺ ﴿وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم﴾ (الأنفال: ٣٣)
وقال تعالى: ﴿ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات﴾ (الفتح: ٢٥)
﴿ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض﴾ (البقرة: ٢٥١)
فقد دفع الله تعالى العذاب عن بعض الناس بسبب بعض وذلك انتفاع بعمل الغير. عشروها: أنّ صدقة الفطر تجب عن الصغير وغيره ممن يمونه الرجل فينتفع بذلك من يخرج عنه ولا سعي لهما. حادي عشريها: أنّ الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون ويثاب على ذلك ولا سعي له ومن تأمّل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى، فكيف يجوز أن تتأوّل الآية على خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
والمراد بالإنسان العموم وقال الربيع بن أنس: ليس للإنسان يعني الكافر: وأما المؤمن فله ما سعي وما سعى له وقيل: ليس للكافر من الخير إلا ما عمله يثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة خير، وروي «أنّ عبد الله بن أبي كان أعطى العباس قميصاً ألبسه إياه فلما مات أرسل النبيّ ﷺ قميصه ليكفن فيه فلم تبق له حسنة في الآخرة يثاب عليها».
﴿وأن سعيه﴾ أي: من خير وشر ﴿سوف يرى﴾ أي: في ميزانه من غير شك يوم القيامة بوعد لا خلف فيه وإن طال المدى، من: أريته الشيء، أي: يعرض عليه ويكشف له.
فإن قيل: العمل كيف يرى بعد وجوده ومضيه؟ أجيب: بأنه يرى على صورة جميلة إن كان العمل صالحاً قال الرازي وذلك على مذهبنا غير بعيد، فإن كل موجود يرى والله تعالى قادر على إعادة كل ما عدم فيعيد الفعل فيرى، وفيه بشارة للموحد وذلك أنّ الله تعالى يريه أعماله الصالحة ليفرح بها ويحزن الكافر بأعماله الفاسدة فيزداد غماً.
﴿ثم يجزاه﴾ أي: السعي ﴿الجزاء الأوفى﴾ أي: الأتمّ الأكمل والمعنى: أنّ الإنسان يجزى جزاء سعيه بالجزاء الأوفى يقال: جزيت فلاناً سعيه وبسعيه. قال الرازي:


الصفحة التالية
Icon