ومن متعلقة باختلف وهي وما بعدها مقدّم على الاستثناء في المعنى ﴿بغياً﴾ من الكافرين ﴿بينهم﴾ حسداً وظلماً لحرصهم على الدنيا ﴿فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه﴾ وقوله تعالى: ﴿من الحق﴾ بيان لما اختلفوا فيه أي: فهدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه من اختلف ﴿بإذنه﴾ أي: بإرادته قال ابن دريد في هذه الآية: اختلفوا في القبلة، فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى المغرب، ومنهم من يصلي إلى المقدس، فهدانا الله للكعبة، واختلفوا في الصيام فهدانا الله لشهر رمضان، واختلفوا في الأيام فأخذت اليهود السبت، والنصارى الأحد، فهدانا الله للجمعة، واختلفوا في إبراهيم فقالت اليهود: كان يهودياً وقالت النصارى: كان نصرانياً فهدانا الله للحق من ذلك، واختلفوا في عيسى فجعله النصارى إلهاً فهدانا الله للحق فيه.
﴿والله يهدي من يشاء﴾ هدايته ﴿إلى صراط مستقيم﴾ هو طريق الحق لا يضل سالكه.
﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل﴾ أي: شبه ﴿الذين خلوا من قبلكم﴾ من المؤمنين من المحن فتصبروا كما صبروا، واختلفوا في سبب نزول هذه الآية فقال قتادة: نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد وشدّة الخوف والبرد وضيق العيش وأنواع الأذى، كما قال تعالى: ﴿وبلغت القلوب الحناجر﴾ (الأحزاب، ١٠) وقال عطاء: لما دخل رسول الله ﷺ المدينة اشتدّ عليهم الأمر؛ لأنهم خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله ﷺ وأسرّ قوم النفاق، فأنزل الله تعالى هذه الآية تطميناً لقلوبهم. وقيل: نزلت في حرب أحد، واختُلف في معنى أم فقال الفرّاء: الميم صلة أي: أحسبتم، وقال الزجاج: هي بمعنى بل أي: بل حسبتم، ولما بمعنى لم أي: ولم يأتكم. وقوله تعالى: ﴿مستهم البأساء﴾ أي: شدّة الفقر ﴿والضرّاء﴾ أي: المرض والجزع، جملة مستأنفة مبينة لما قبلها ﴿وزلزلوا﴾ أي: أزعجوا إزعاجاً شديداً بما أصابهم من الشدائد ﴿حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه﴾ لتناهي الشدّة واستطالة المدّة، بحيث تقطعت حبال الصبر ﴿متى﴾ يأتي ﴿نصر الله﴾ الذي وعدناه استطالة لتأخره، فأجيبوا من قبل الله ﴿ألا إنّ نصر الله قريب﴾ إتيانه وفي هذا إشارة إلى أنّ الوصول إلى الله تعالى والفوز بالكرامة عنده برفض الهوى واللذات ومكابدة الشدائد والرياضات، كما قال عليه الصلاة والسلام كما رواه الشيخان وغيرهما: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات».
وفي رواية لهم: حجبت أي: جعلت المكاره حجاباً دون الجنة فمن خرقه دخلها. والشهوات حجاب دون النار فمن اقتحمه دخلها وقرأ نافع يقول: بالرفع على أنها حكاية حال ماضية، وفائدته تصوّر تلك الحال العجيبة واستحضار صورتها في مشاهدة السامع ليتعجب منها وقرأ الباقون بالنصب.
﴿يسئلونك﴾ يا محمد ﴿ماذا﴾ أي: الذي ﴿ينفقون﴾، والسائل كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: عمرو بن الجموح الأنصاري، وكان شيخاً فانياً ذا مال عظيم، فقال: يا رسول الله ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ فنزل: ﴿قل﴾ لهم ﴿ما أنفقتم من خير﴾ أي: مال قليلاً كان أو كثيراً، ﴿فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل﴾ أي: هم أولى به سأل عن المنفق فأجيب: ببيان المصرف؛ لأنه أهمّ فإنّ اعتداد النفقة باعتباره، ولأنه كان في سؤال
اقبض روحي وافياً تامًّا في جميع أمري حساً ومعنى حال كوني ﴿مسلماً﴾ ولما كان المسلم حقيقة من كان عريقاً في الإخلاص عقبه بقوله: ﴿وألحقني بالصالحين﴾ ونظيره ما فعله الخليل عليه السلام في قوله: ﴿الذي خلقني فهو يهدين﴾ (الشعراء، ٧٨) فمن ههنا إلى قوله: ﴿رب هب لي حكماً﴾ ثناء على الله تعالى ثم قوله: ﴿رب هب لي حكماً﴾ إلى آخر الكلام دعاء فكذا هنا.
تنبيه: اختلف في قوله ﴿توفني مسلماً﴾ هل هو طلب منه للوفاة أم لا؟ فقال قتادة: سأل ربه اللحوق به ولم يتمنّ نبيّ قط الموت قبله، وكثير من المفسرين على هذا القول. وقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد إذا توفيتني فتوفني على الإسلام، فهذا طلب لأن يجعل الله تعالى وفاته على الإسلام، وليس فيه ما يدل على أنه طلب الوفاة، واللفظ صالح للأمرين، ولا يبعد في الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت وتعظم رغبته فيه لوجوه كثيرة منها: أنّ الخطباء والبلغاء وإن أطنبوا في مذمّة الدنيا إلا أنّ حاصل كلامهم يرجع إلى ثلاثة أمور:
أحدها: أنّ هذه السعادات سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشدّ من اللذة الحاصلة عند وجدانها.
وثانيها: أنها غير حاصلة بل هي ممزوجة بالمنغصات والمكدّرات.
وثالثها: أنّ الأراذل من الخلق يشاركون الأفاضل فيها، بل ربما كان حصة الأراذل أعظم بكثير من حصة الأفاضل، فهذه الجهات الثلاثة منفرة عن هذه اللذات، ولما عرف العاقل أنه لا يحصل تحصيل هذه اللذات إلا مع هذه الجهات الثلاثة المنفرة لا جرم تمنى الموت ليتخلص عن هذه الآفات، ومنها: أن تداخل اللذات الدنيوية قليلة وهي ثلاثة أنواع: لذة الأكل ولذة النكاح ولذة الرياسة، ولكل واحدة منها عيوب كثيرة، أمّا لذة الأكل ففيها عيوب أحدها: أنّ هذه اللذة ليست لذة قوية، فإنه لا يمكن إبقاؤها، فإنّ الإنسان إذا أكل وشبع لم يبق فيه الالتذاذ، بالأكل، فهذه اللذة ضعيفة، ومع ضعفها غير باقية: وثانيها: أنها في نفسها خسيسة وأنّ الأكل عبارة عن ترطيب ذلك الطعام بالبزاق المجتمع في الفم، ولا شك أنه شيء منفر، ولما يصل إلى المعدة يظهر فيه الاستحالة إلى الفساد والنتن والعفونة، وذلك أيضاً منفر، وثالثها: أنّ جميع الحيوانات الخسيسة مشاركة له فيها، ورابعها: أنّ الأكل إنما يطيب عند اشتداد الجوع، والجوع نقص وآفة، وخامسها: أنّ الأكل مستحقر عند العقلاء حتى قيل: من كانت همته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه، فهذه إشارات مختصرة إلى معايب الأكل، وأمّا لذة النكاح فما ذكر في الأكل حاصل هنا مع أشياء أخر، وهي أنّ النكاح سبب لحصول الولد، وحينئذ تكثر الأشخاص فتكثر الحاجات إلى المال، فيحتاج الإنسان بسببها إلى الاحتيال في المال بطرق لا نهاية لها، وربما صار هالكاً بسبب طلب المال.
وأمّا لذة الرياسة فعيوبها كثيرة منها: أن يكون على شرف الزوال في كل حين وأوان، ومنها: أنه عند حصولها في الخوف الشديد من الزوال، ومنها أنه يكون عند زوالها في الأسف العظيم والحزن الشديد بسبب ذلك الزوال، فالعاقل إذا تأمّل في هذه المعاني علم قطعاً أنه لا صلاح له في طلب هذه اللذات فيكون لقاء الله عنده أرجح فيتمنى الموت.
وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أنّ ميمون بن مهران بات عنده فرآه كثير البكاء والمسألة للموت فقال له: صنع الله لك خيراً كثيراً أحييت سنناً، وأمت بدعاً وفي حياتك خير وراحة للمسلمين فقال:
في الإنجاء والإهلاك فذكر من كل باب آية وقدم آيات الإنجاء لأنها أثر الرحمة وآخر آيات الهلاك لأنها أثر الغضب ورحمته سابقة، وعن الثاني بأنّ الإنجاء بالسفينة لا يفتقر إلى أمر آخر، وأمّا الآية ههنا الخسف وجعل ديارهم المعمورة عاليها سافلها وهو ليس بمعتاد وإنما ذلك بإرادة قادر يخصصه بمكان دون مكان وبزمان دون زمان فهي بينة لا يمكن الجاهل أن يقول هذا أمر يكون كذلك وكان له أن يقول في السفينة أمرها يكون كذلك فيقال له فلو دام الماء حتى ينفد زادهم كيف كانت تحصل لهم النجاة ولو سلط الله تعالى عليهم الريح العاصفة كيف تكون أحوالهم، وعن الثالث بأنّ السفينة موجودة معلومة في جميع أقطار العالم فعند كل قوم مثال السفينة يتذكرون بها حالة نوح وإذا ركبوها يطلبون من الله النجاة منه ولا يثق أحد بمجرّد السفينة بل يكون دائماً مرتجف القلب متضرّعاً إلى الله تعالى طالباً للنجاة، وأمّا أثر الهلاك في بلاد لوط ففي موضع مخصوص لا يطلع عليه إلا من مر بها ويصل إليها ويكون له عقل يعلم أنّ ذلك من الله تعالى وإراداته بسبب اختصاصه بمكان دون مكان ووجوده في زمان دون زمان، ولما كان شعيب عليه السلام أيضاً قد ابتلي بتكذيب قومه اتبع قصته بقصة لوط بقوله تعالى:
﴿وإلى مدين﴾ أي: ولقد أرسلنا أو بعثنا إلى مدين ﴿أخاهم﴾ أي: من النسب والبلد ﴿شعيباً﴾ ومدين قيل: اسم رجل في الأصل وجهل وله ذرية فاشتهر في القبيلة كتميم وقيس وغيرهما، وقيل: اسم ماء نسب القوم إليه فاشتهر في القوم، قال الرازي: والأوّل كأنه أصح لأنّ الله تعالى أضاف الماء إلى مدين بقوله تعالى: ﴿ولما ورد ماء مدين﴾ (القصص: ٢٣)
ولو كان اسماً للماء لكانت الإضافة غير صحيحة أو غير حقيقية والأصل في الإضافة التغاير والحقيقة، فإن قيل: قال تعالى في نوح: ﴿ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه﴾ (القصص: ٢٣)
فقدم نوحاً في الذكر وعرف القوم بالإضافة إليه، وكذلك في إبراهيم ولوط وههنا ذكر القوم أولاً وأضاف إليهم أخاهم شعيباً، فما الحكمة في ذلك؟.
أجيب: بأنّ الأصل في الجميع أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم لأنّ الرسل لا تبعث إلى غير معينين وإنما تبعث الرسل إلى قوم محتاجين إلى الرسل فيرسل الله تعالى إليهم من يختاره، غير أنّ قوم نوح وإبراهيم ولوط لم يكن لهم اسم خاصة ولا نسبة مخصوصة يعرفون بها فعرفوا بنبيهم عليه السلام فقيل قوم نوح وقوم لوط فأمّا قوم شعيب وهود وصالح فكان لهم نسب معلوم اشتهروا به عند الناس فجرى الكلام على أصله قال تعالى: ﴿وإلى عاد أخاهم هوداً﴾ ﴿وإلى مدين أخاهم شعيباً﴾ ﴿فقال﴾ أي: فتسبب عن إرساله وبعثه أن قال: ﴿يا قوم اعبدوا الله﴾ أي: الملك الأعلى وحده ولا تشركوا به شيئاً فإنّ العبادة التي فيها شرك ظاهر أو خفي عدم لأنّ الله تعالى أغنى الشركاء فهو لا يقبل إلا ما كان له خالصاً.
فإن قيل: لم يذكر عن لوط عليه السلام أنه أمر قومه بالعبادة والتوحيد، وذكر عن شعيب ذلك؟ أجيب: بأنّ لوطاً كان من قوم إبراهيم وفي زمانه وكان إبراهيم سبقه بذلك واجتهد فيه حتى اشتهر الأمر بالتوحيد عند الخلق من إبراهيم فلم يحتج لوط إلى ذكره وإنما ذكر ما اختص به من المنع من الفاحشة وغيرها وإن كان هو أبداً يأمر بالتوحيد إذ ما من رسول إلا ويكون أكثر كلامه في التوحيد، وأمّا شعيب فكان بعد انقراض ذلك الزمن
الهمزة إلى الشين.
﴿وأنه هو﴾ أي: وحده من غير نظر إلى سعي ساع ولا غيره ﴿أغنى﴾ قال أبو صالح: أغنى الناس بالأموال ﴿وأقنى﴾ أعطى القنية وأصول الأموال وما يدخرونه بعد الكفاية وقال الضحاك: أغنى بالذهب والفضة وصنوف الأموال، وأقنى بالإبل والبقر والغنم وقال الحسن وقتادة: أخدم، وقال ابن عباس: أغنى وأقنى أعطى فأرضى وقال مجاهد ومقاتل: أقنى أرضى بما أعطى وقنع قال الراغب: وتحقيقه أنه جعل له قنية من الرضا وقال سليمان التيمي: أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه وقال ابن زيد: أغنى أكثر وأقنى أقل وقرأ ﴿يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر﴾ (الرعد: ٢٦)
وقال الأخفش: أقنى أفقر وقال ابن كيسان: أولد وقال الزمخشري: أقنى أعطى القنية وهي المال الذي تأثلته وعزمت على أن لا يخرج من يدك.
تنبيه: حذف مفعولا أغنى وأقنى لأنّ المراد نسبة هذين الفعلين إليه، وكذلك باقيها وألف أقنى منقلبه عن ياء لأنه من القنية قال الشاعر:
*... ألا إنّ بعد العدم للمرء قنية*
ويقال: قنيت كذا وأقنيته قال الشاعر:
*... قنيت حياتي عفة وتكرّما*
﴿وأنه هو﴾ أي: لا غيره ﴿رب الشعرى﴾ أي: رب معبودهم وكانت خزاعة تعبد الشعرى، وأوّل من سنّ ذلك رجل من أشرافهم يقال له أبو كبشة عبدها وقال: لأن النجوم تقطع السماء عرضاً والشعرى تقطعها طولاً فهي مخالفة لها فعبدها وعبدتها خزاعة وحمير، وأبو كبشة أحد أجداد النبيّ ﷺ من قبل أمّهاته وبذلك كان مشركو قريش يسمون النبيّ ﷺ بابن أبي كبشة حين دعا إلى الله تعالى وخالف أديانهم تشبيهاً بذلك الرجل في أنه أحدث ديناً غير دينهم.
والشعرى في لسان العرب كوكبان: تسمى أحدهما الشعرى العبور وهي المرادة في الآية الكريمة وهي تطلع بعد الجوزاء في شدّة الحرّ ويقال لها: مرزم الجوزاء وتسمى كلب الجبار أيضاً، وتسمى الشعرى اليمانية. والثانية: الشعرى الغميصاء وهي التي في الذراع والمجرة بينهما، وتسمى الشامية وسبب تسميتها بالغميضاء على ما زعمه العرب أنهما كانا أختين أو زوجتين لسهيل فانحدر سهيل إلى اليمن فأتبعته الشعرى العبور فعبرت المجرة فسميت العبور، وأقامت الغميصاء تبكي حتى غمصت عينها ولذلك كانت أخفى من العبور وكان من لا يعبد الشعرى من العرب يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم.
﴿وأنه أهلك عاداً الأولى﴾ وهم قوم هود عليه السلام هلكوا بريح صرصر، والأخرى قوم صالح وقيل: الأخرى إرم وقيل: الأولى أول الخلق هلاكاً بعد قوم نوح، وقرأ نافع وأبو عمرو بتشديد اللام بعد الدال المفتوحة نقلاً وهمز قالون الواو بعد اللام همزة ساكنة والباقون بتنوين الدال وكسر التنوين وسكون اللام وبعدها همزة مضمومة، فإذا قرأ القارئ عاد الأولى لقالون وأبي عمرو فله في الوصل أي وصل عاد بالأولى وجه واحد وهو النقل المذكور، وقالون على أصله بالهمزة كما ذكر، فإذا وقف على عاداً وابتدأ بالولى فله الابتداء بهمزة الوصل وهو ألولى، وله أيضاً الابتداء بغير همز الوصل وهو لولى، وقالون يهمز الواو في الوجهين الأوّلين ولم يهمز في الوجه الثالث الذي هو الأصل، ووافقهما ورش في الأوجه المذكورة في الوصل


الصفحة التالية
Icon