ثم أحياهم بدعاء نبيهم حِزْقِيل ـ بكسر المهملة والقاف وسكون الزاي ـ ثالث خلفاء بني إسرائيل بعد موسى، وكان يقال له ابن العجوز؛ لأنّ أمّه كانت عجوزاً، فسألت الله الولد بعدما كبرت وعقمت، فوهبه الله تعالى لها.
قال الحسن ومقاتل: هو ذو الكفل، وسمي حزقيل ذا الكفل؛ لأنه كفل سبعين نبياً وأنجاهم من القتل، قال: اذهبوا فإني إن قتلت كان خيراً من أن تقتلوا معي جميعاً، فلما جاء اليهود وسألوا حِزْقِيل عن الأنبياء السبعين، قال لهم: ذهبوا وما أدري أين هم، ومنع الله حِزْقِيلَ من اليهود، فلما مر حِزْقِيل على تلك الموتى وقف عليهم، فجعل يتفكر فيهم فبكى، وقال: يا رب كنت في قوم يحمدونك، ويسبحونك، ويقدّمونك، ويكبرونك، ويهللونك، فبقيت وحدي لا قوم لي، فأوحى الله تعالى إليه أن ناد: أيتها العظام إنّ الله يأمرك أن تجتمعي فاجتمعت العظام من أعلى الوادي وأدناه، حتى التزق بعضها ببعض، كل عظم جسد التزق بجسده، فصارت أجساداً من عظام لا لحم ولا دم، ثم أوحى الله تعالى إليه: أن ناد أيتها الأجسام إنّ الله يأمرك أن تكسي لحماً، فاكتست لحماً، ثم أوحى الله إليه أن ناد: أيتها الأجساد إنّ الله يأمرك أن تقومي فبعثوا أحياء ورجعوا إلى بلادهم.
وقال مجاهد: إنهم قالوا حين أحيوا: سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت، فرجعوا إلى قومهم وعاشوا دهراً عليهم أثر الموت، لا يلبسون ثوباً إلا عاد كالكفن حتى ماتوا لآجالهم، التي كتبت لهم، ولو جاءت آجالهم ما بعثوا، واستمرّ ذلك في أسباطهم، قال ابن عباس: وأثر ذلك ليوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود.
وفائدة هذه القصة تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة، وحثهم على التوكل والاستسلام للقضاء فإنّ الموت إذا لم يكن منه بد ولم ينفع منه مفرّ، فأولى أن يكون في سبيل الله تعالى ﴿إنّ الله لذو فضل على الناس﴾ أي: عامّة فليذكر كل أحد ماله عليه من الفضل ﴿ولكن أكثر الناس لا يشكرون﴾ كما ينبغي أمّا الكفار فلم يشكروا، وأمّا المؤمنون فلم يبلغوا غاية شكره.
تنبيه: إنما كرّر الناس، ولم يضمر ليكون أنصّ على العموم لئلا يدّعي مدع أنّ المراد بالناس الأوّل أهل زمان فيخص بالثاني أكثرهم.
﴿وقاتلوا في سبيل الله﴾ أعداء الله لتكون كلمة الله هي العليا ﴿واعلموا أنّ الله سميع﴾ لأقوالكم فيسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون ﴿عليم﴾ بأحوالكم فيعلم ما تضمرونه فيجازيكم.
﴿من ذا الذي يقرض الله﴾ الذي تفرد بالعظمة بإنفاق ماله في سبيل الله ومن استفهامية مرفوعة، الموضع بالابتداء، وذا خبره، والذي: صفة ذا أو بدل، وإقراض الله مثل لتقديم العمل الذي يطلب ثوابه، فهو اسم لكل ما يعطيه الإنسان ليجازى عليه، فسمى الله تعالى عمل المؤمنين له على رجاء ما وعد لهم من الثواب قرضاً؛ لأنهم يعملون لطلب ثوابه، وأصل القرض في اللغة القطع، سمي القرض به؛ لأنه يقطع من ماله شيئاً يعطيه ليرجع إليه مثله وقيل: في الآية اختصار، معناه: من ذا الذي يقرض عباد الله المحتاجين من خلقه كقوله تعالى: ﴿إنّ الذين يؤذون الله﴾ (الأحزاب، ٥٧) أي: عباد الله كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ «إنّ الله يقول يوم القيامة: ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟» ﴿قرضاً حسناً﴾ أي: جامعاً لطيب النفس وإخلاص النية، وقيل: لا يمنّ به ولا يؤذي. ولما كانت النفس مجبولة على الشح بما عندها إلا لفائدة رغبّها سبحانه وتعالى في ذلك بقوله: ﴿فيضاعفه﴾ أي: جزاءه ﴿له﴾ في الدنيا والآخرة، وأوّل هذه المضاعفة أنّ الزائد ضعف ليس كسراً، «كان ﷺ لا يقترض قرضاً إلا وفى عليه زيادة وقال: خياركم أحسنكم قضاء»، وقد أنبأ سبحانه وتعالى أن اقتراضه بما هو فوق ذلك، لأنه يضعف القرض بمثله وأمثاله بقوله: ﴿أضعافاً كثيرة﴾ (البقرة، ٥٤٥) من عشر إلى أكثر من سبعمائة كما سيأتي. روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لما نزلت هذه الآية، قال أبو الدحداح الأنصاري: «يا رسول الله إنّ الله ليريد منا القرض قال: نعم يا
أبا الدحداح قال: أرني يدك يا رسول الله فناوله يده قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، وحائطه فيه ستمائة نخلة وأمّ الدحداح فيه وعيالها فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أمّ الدحداح قالت: لبيك قال: اخرجي فقد أقرضت ربي عز وجل»
.
وقرأ ابن عامر وعاصم فيضاعفه بنصب الفاء على جواب الاستفهام حملاً على المعنى، فإنّ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً في معنى أيقرض الله أحد، والباقون برفعها، وأسقط الألف وشدّد العين ابن كثير وابن عامر، والباقون بإثبات الألف وتخفيف العين، ولما رغّب سبحانه وتعالى في إقراضه، أتبعه جملة خالية من ضمير يضاعف مرهبة مرغبة فقال: ﴿وا يقبض﴾ أي: يمسك الرزق عمن يشاء ابتلاء ﴿ويبسط﴾ أي: يوسعه لمن يشاء امتحاناً، بحسب ما اقتضته حكمته سبحانه وتعالى، وقرأ قنبل وأبو عمرو وابن عامر وحفص وحمزة وبالسين، بخلاف عن ابن ذكوان وخلاد، والباقون بالصاد والرسم بالصاد ﴿وإليه ترجعون﴾ أي: فيجازيكم على ما قدّمتم.
﴿ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل﴾ أي: إلى قصتهم، والملأ من القوم أشرافهم، وأصل الملأ الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه، كالقوم والرهط، والإبل، والخيل والجيش، ومن للتبعيض ﴿من بعد﴾ موت ﴿موسى﴾ ومن للابتداء ﴿إذ قالوا لنبيّ لهم﴾ أكثر المفسرين على أنه شمويل، قال مقاتل: هو من نسل هرون، وقيل: هو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف عليه الصلاة والسلام وقيل: هو شمعون، وإنما سمي بذلك؛ لأنّ أمّه دعت الله أن يرزقها غلاماً فاستجاب دعاءها فسمته شمعون تقول: سمع الله دعائي والسين تصير شيناً بالعبرانية وسبب سؤال بني إسرائيل نبيهم، ذلك أنه لما مات موسى عليه الصلاة والسلام وخلف، في بني إسرائيل الخلوف وعظمت الخطايا سلّط الله عليهم قوم جالوت وكانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين، وهم العمالقة فظهروا على بني إسرائيل وغلبوا على كثير من أرضهم، وسَبَوا كثيراً من ذراريهم، وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين غلاماً، وضربوا عليهم الجزية، وأخذوا توراتهم، ولقي بنو إسرائيل منهم بلاءً كثيراً وشدّة، ولم يكن لهم حينئذٍ نبيّ يدبر أمرهم، وكان سبط النبوّة هلكوا، فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى فحبسوها في بيت، رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها، وجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاماً فولدت غلاماً فسمته شمعون، تقول: سمع الله دعائي فكبر الغلام فأسلمته لتعليم التوراة في بيت المقدس، فكفله شيخ من علمائهم وتبناه، فلما بلغ الغلام أتاه جبريل، فقال له: اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فإنّ الله قد بعثك فيهم نبياً، فلما أتاهم
﴿ويقطعون ما﴾، أي: الذي ﴿أمر الله به أن يوصل﴾ وذلك في مقابلة قوله من قبل ﴿والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل﴾ (الرعد، ٢١) فجعل من صفات هؤلاء القطع بالضد من ذلك الوصل، والمراد به قطع ما يوجب الله تعالى وصله، أي: لما له من المحاسن الجلية والخفية التي هي عين الصلاح، ويدخل في ذلك وصل الرسول ﷺ بالموالاة والمعاونة، ووصل المؤمنين ووصل الأرحام، ووصل سائر من له حق ﴿ويفسدون﴾، أي: يوقعون الفساد ﴿في الأرض﴾، أي: في أي جزء كان منها بالظلم وتهييج الفتن، والدعاء إلى غير دين الله تعالى ﴿أولئك﴾ أي البعداء البغضاء ﴿لهم اللعنة﴾، أي: الطرد والبعد ﴿ولهم سوء الدار﴾ والدار لهم هي جهنم، وليس لهم فيها إلا ما يسوء الصائر إليها. ولما حكم تعالى على من نقض عهده في قبول التوحيد والنبوّة بأنهم ملعونون في الدنيا ومعذبون في الآخرة، فكأنه قيل: لو كانوا أعداء الله تعالى لما فتح الله عليهم أبواب النعم واللذات في الدنيا فأجاب الله تعالى بقوله تعالى:
﴿الله يبسط الرزق﴾، أي: يوسعه ﴿لمن يشاء ويقدر﴾، أي: يضيقه على من يشاء سواء في ذلك الطائع والعاصي ولا تعلق لذلك بالكفر والإيمان فقد يوجد الكافر موسعاً عليه دون المؤمن ويوجد المؤمن موسعاً عليه دون الكافر فالدنيا دار امتحان ولما كانت السعة مظنة الفرح إلا عند من وفقه الله تعالى قال الله تعالى: ﴿وفرحوا﴾، أي: كفار مكة فرح بطر ﴿بالحياة الدنيا﴾، أي: بما نالوه فيها لا فرح سرور بفضل الله والعافية عليهم ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة ﴿وما الحياة الدنيا﴾، أي: بكمالها ﴿في الآخرة﴾، أي: في جنبها ﴿الامتاع﴾، أي: حقير متلاش يتمتع به ويذهب كعجالة الراكب وهي ما يتعجله من تميرات أو شربة ماء سويق أو نحو ذلك.
﴿ويقول الذين كفروا﴾ من أهل مكة ﴿لولا﴾، أي: هلا ﴿أنزل عليه﴾، أي: على هذا الرسول ﴿آية﴾، أي: علامة بينة ﴿من ربه﴾، أي: المحسن إليه كالعصا واليد لموسى والناقة لصالح لنهتدي بها فنؤمن به وأمره الله تعالى أن يجيبهم بقوله: ﴿قل﴾، أي: لهؤلاء المعاندين ﴿إن الله يضل من يشاء﴾ إضلاله فلا تغني عنه الآيات شيئاً وإن أنزلت كل آية ﴿ويهدي﴾، أي: يرشد ﴿إليه﴾، أي: إلى دينه ﴿من أناب﴾، أي: رجع إليه كأبي بكر الصديق وغيره ممن تبعه من العشرة المشهود لهم بالجنة وغيرهم ولو حصلت آية واحدة فلا تشتغلوا بطلب الآيات ولكن تضرعوا إلى الله تعالى في طلب الهداية وقوله تعالى:
﴿الذين آمنوا﴾ بدل من أناب أو خبر مبتدأ محذوف ﴿وتطمئن﴾، أي: تسكن ﴿قلوبهم بذكر الله﴾، أي: أنساً به واعتماداً عليه ورجاءً منه أو بذكر رحمته ومغفرته بعد القلق والاضطراب من خشيته أو بذكر دلائله الدالة على وجوده أو بالقرآن الذي هو أقوى المعجزات وقال ابن عباس: يريد إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم واطمأنت فإن قيل: قد قال الله تعالى في سورة الأنفال: ﴿إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم﴾ (الأنفال، ٢) والوجل ضد الاطمئنان فكيف الجمع بين هاتين الآيتين؟ أجيب: بأنهم إذا ذكروا العقاب ولم يأمنوا أن يقدموا على المعاصي فهناك يحصل الوجل وإذا ذكروا وعده بالثواب والرحمة سكنت قلوبهم إلى ذلك وحينئذ حصل الجمع بينهما ﴿ألا بذكر الله﴾، أي: الذي له الجلال والإكرام لا بذكر غيره ﴿تطمئن﴾، أي: تسكن ﴿القلوب﴾ ويثبت اليقين فيها وقوله تعالى:
{الذين آمنوا وعملوا
أي: في قلوبهم الفارغة من التفكر، والتفكر لا يكون إلا في القلوب، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين كقولك: اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك. وأن يكون صلة أي: أو لم يتفكروا في أحوالها خصوصاً فيعلموا أن من كان منهم قادراً كاملاً لا يخلف وعده وهو إنسان ناقص فكيف بالإله الحق. ويعلموا أن الذي ساوى بينهم في الإيجاد من العدم وطورهم في أطوار الصور، وفاوت بينهم في القوى والقدر، وبين أحوالهم في الطول والقصر، وسلط بعضهم على بعض بأنواع الضرر، ومات أكثرهم مظلوماً قبل القصاص والظفر، لا بدّ في حكمته البالغة من جمعه العدل بينهم في جزاء من وفى أو غدر، أو شكر أو كفر. ففي ذلك دلالة على وحدانية الله تعالى وعلى الحشر، ثم ذكر تعالى نتيجة ذلك وعلله بقوله في أسلوب التأكيد لأجل إنكارهم. وعلى التقدير الأوّل يكون المتفكر فيه ﴿ما خلق الله﴾ أي: بعز جلاله وعلوه في كماله ﴿السموات والأرض﴾ على ما هما عليه من النظام المحكم والقانون المتقن، قال البقاعي: وإفراد الأرض لعدم دليل حسي أو عقلي يدلهم على تعدّدها بخلاف السماء ا. هـ وقد يردّ هذا بقوله تعالى: ﴿خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهنّ﴾ (الطلاق: ١٢٠)
﴿وما بينهما﴾ من المعاني التي بها كمال منافعهما ﴿إلا﴾ خلقاً متلبساً ﴿بالحق﴾ أي: الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع، فإذا ذكر البعث الذي هو مبدأ الآخرة التي هذا أسلوبها وجد الواقع في تصوير النطف ونفخ الروح وتمييز الصالح منهما للتصوير من الفاسد يطابق ذلك، وإذا تدبر النبات بعد أن كان هشيماً قد نزل عليه الماء فزها واهتز وربا وجده مطابقاً لأمر البعث، وإذا ذكر القدرة فرأى اختلاف الليل والنهار وسير الكواكب الصغار والكبار، وإمطار الأمطار وإجراء الأنهار، ونحو ذلك من الأسرار رآه مطابقاً لكل ما يخطر بالبال، ولما كان عندهم أن هذا الوجود حياة وموت لا إلى نفاد قال تعالى ﴿وأجل﴾ لا بد أن ينتهي إليه ﴿مسمى﴾ أي: في العلم من الأزل، لذلك يفنى عند انتهائه وبعده البعث، ولما كانوا ينكرون أنهم على كفر أكد قوله تعالى ﴿وإن كثيراً من الناس﴾ مع ذلك على وضوحه ﴿بلقاء ربهم﴾ أي: الذي ملأهم إحساناً برجوعهم في الآخرة إلى العرض عليه للثواب والعقاب ﴿لكافرون﴾ أي: لا يؤمنون بالبعث بعد الموت.
فإن قيل: ما الفائدة في قوله تعالى ههنا ﴿وإن كثيراً من الناس﴾ وقال من قبل ﴿ولكن أكثر الناس﴾ ؟ أجيب: بأن فائدته أنه من قبل لم يذكر دليلاً على الأصلين وههنا قد ذكر الدلائل الراسخة والبراهين اللائحة، ولا شك في أن الإيمان بعد الدليل أكثر من الإيمان قبل الدليل. فبعد الدليل لا بد أن يؤمن من ذلك جمع فلا يبقى الأكثر كما هو، فقال بعد إقامة الدليل: و ﴿إن كثيراً﴾ وقال قبله: ﴿ولكن أكثر الناس﴾ لأنه بعد الدليل لا يمكن الذهول عنه وهو السموات والأرض لأن من البعيد أن يذهل الإنسان عن السماء التي فوقه والأرض التي تحته، فلهذا ذكر ما يقع الذهول عنه وهو أمثالهم وحكاية أشكالهم فقال:
﴿أو لم يسيروا في الأرض﴾ أي: سير اعتبار، وقوله تعالى ﴿فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم﴾ من الأمم وهي إهلاكهم بتكذيبهم رسلهم تقريراً لسيرهم في أقطار الأرض، ونظرهم إلى آثار المدمرين كعاد وثمود ﴿كانوا أشدّ منهم﴾ أي: العرب ﴿قوّة﴾ أي: في أبدانهم وعقولهم ﴿وأثاروا الأرض﴾ أي:
فإن قيل: لِمَ قدّم تعليم القرآن للإنسان على خلقه وهو متأخر عنه في الوجود؟ أجيب: بأنّ التعليم هو السبب في إيجاده وخلقه.
فإن قيل: كيف صرح بذكر المفعولين في علمه البيان ولم يصرح بهما في علم القرآن؟ أجيب: بأنّ في ذلك إشارة إلى أن النعمة في التعميم لا في تعليم شخص دون شخص، وبأنّ المراد من قوله تعالى: ﴿علمه البيان﴾ : تعديد النعم على الإنسان واستدعاء الشكر منه؛ ولم يذكر الملائكة لأنّ المقصود ذكر ما يرجع إلى الإنسان. وقيل: تقديره علم جبريل القرآن وقيل علم محمداً ﷺ وقيل علم الإنسان وهذا أولى لعمومه.
تنبيه هذه الجمل من قوله تعالى: ﴿علم القرآن﴾ إلى هنا جيء بها من غير عاطف لأنها سيقت لتعديد نعمه؛ كقولك: فلان أحسن إلى فلان أكرمه أشاد ذكره رفع قدره؛ فلشدّة الوصل ترك العاطف؛ وهي أخبار مترادفة للرّحمن.
ولما ذكر تعالى خلق الإنسان وإنعامه عليه بتعليمه البيان ذكر نعمتين عظيمتين بقوله تعالى: ﴿الشمس﴾ وهي آية النهار ﴿والقمر﴾ وهي آية الليل ﴿بحسبان﴾ فإنهما على قانون واحد وحساب لا يتغيران وبذلك تتم منفعتهما للزراعات وغيرها ولولا الشمس والقمر لفات كثير من المنافع الظاهرة بخلاف غيرهما من الكواكب فإنّ نعمها لا تظهر لكل أحد مثل ظهور نعمتهما، وإنهما بحسبان لا يتغير أبدا، ولو كان سيرهما غير معلوم للخلق لما انتفعوا بالزراعات في أوقاتها ومعرفة فصول السنة، والمعنى يجريان بحسبان معلوم فأضمر الخبر. قال ابن عباس وقتادة وأبو مالك: يجريان بحسبان في منازل لا يعدوانها ولا يحيدان عنها. وقال أبو زيد وابن كيسان بهما تحسب الأوقات والأعمار، ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب شيئاً إن كان الدهر كله ليلاً أو نهاراً. وقال السدي: بحسبان تقدير آجالهما أي: يجريان بآجال كآجال الناس، فإذا جاء أجلهما هلكا نظيره ﴿كل يجري إلى أجل مسمى﴾ (لقمان: ٢٩)
﴿والنجم﴾ أي: النبات الذي ينجم أي يطلع من الأرض ولا ساق له كالبقول ﴿والشجر﴾ أي: الذي له ساق كشجر الرمان وتقدم الجواب عن قوله تعالى: ﴿وأنبتنا عليه شجرة من يقطين﴾ (الصافات: ١٤٦)
في سورة الصافات ﴿يسجدان﴾ أي: ينقادان لله تعالى فيما يريده طبعاً انقياد الساجد من المكلفين طوعاً وقال الضحاك سجودهما سجود ظلالهما. وقال الفراء سجودهما أنهما يستقبلان إذا طلعت الشمس ثم يميلان معها حتى ينكسر الفيء، وقال الزجاج: سجودهما دوران الظل معهما كما قال تعالى: ﴿يتفيؤوا ظلاله﴾ (النحل: ٤٨)
وقال الحسن ومجاهد: النجم نجم السماء وسجوده في قول مجاهد دوران ظله؛ وقيل: سجود النجم أفوله وسجود الشجر إمكان الاجتناء لثمارها حكاه الماوردي.
وقال النحاس: أصل السجود في اللغة الاستسلام والانقياد لله عز وجل فهو من الموات كلها استسلامها لأمر الله عز وجل وانقيادها له، ومن الحيوان كذلك.
فإن قيل: كيف اتصلت هاتان الجملتان بالرحمن؟ أجيب بأنه استغنى فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي لما علم أنّ الحسبان حسبانه والسجود له لا لغيره كأنه قيل الشمس والقمر بحسبانه والنجم والشجر يسجدان له.
فإن قيل: أي تناسب بين هاتين الجملتين حتى وسط بينهما العاطف؟ أجيب: بأنّ الشمس والقمر سماويان والنجم والشجر أرضيان فبين القبيلين تناسب من


الصفحة التالية
Icon