المملكة سبط يهوذا بن يعقوب، ومنه كان داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام، ولم يكن طالوت من أحدهما، إنما كان من سبط بنيامين بن يعقوب، وكانوا عملوا ذنباً عظيماً كانوا ينكحون النساء على ظهر الطريق جهاراً، فغضب الله عليهم ونزع الملك والنبوّة منهم، وكانوا يسمون سبط الإثم، فلما قال لهم نبيهم ذلك أنكروا؛ لأنه لم يكن من سبط المملكة، ومع ذلك قالوا: هو دباغ ﴿ولم﴾ أي: والحال أنه لم ﴿يؤت سعة من المال﴾ يستعين بها على إقامة الملك ولما استبعدوا تملكه لفقره وسقوط نسبه، ردّ عليهم ذلك بأمور حكاها الله تعالى عن نبيهم بقوله تعالى: ﴿قال﴾ أي: نبيهم ﴿إنّ الله اصطفاه﴾ أي: اختاره للملك ﴿عليكم﴾ والعهدة في التملك اصطفاء الله تعالى وقد اختاره عليكم، وهو أعلم بالمصالح منكم هذا الأمر الأوّل، والثاني قوله: ﴿وزاده﴾ عليكم ﴿بسطة﴾ أي: سعة ﴿في العلم﴾ الذي يحصل به نظام المملكة ويتمكن به من معرفة الأمور السياسية ﴿و﴾ في ﴿الجسم﴾ الذي به يتمكن من الظفر بمن بارزه من الشجعان وقصده من سائر الأقران، ويكون أعظم خطراً في القلوب وأقوى على مقاومة العدوّ، ومكابدة الحروب، لا ما ذكرتم وقد زاده الله في العلم، فكان أعلم بني إسرائيل يومئذٍ، والجسم فكان أجملهم وأتمهم خلقاً، كان الرجل القائم يمدّ يده فيتناول رأس طالوت.
والثالث قوله: ﴿والله يؤتي ملكه﴾ أي: الذي هو له وليس لغيره فيه شيء ﴿من يشاء﴾ فإنه تعالى مالك الملك على الإطلاق، فله أن يؤتيه من يشاء سواء كان غنياً أم فقيراً، كما آتاكموه بعد أن كنتم مستعبدين عند آل فرعون والرابع قوله: ﴿وا واسع﴾ أي: واسع الفضل يوسع على الفقير، ويغنيه ﴿عليم﴾ بمن يليق بالملك من النسيب وغيره.
﴿وقال لهم نبيهم﴾ لما أذعنوا لذلك وطلبوا منه آية تدلّ على أنه سبحانه وتعالى اصطفى طالوت وملكه عليهم ﴿إنّ آية﴾ أي: علامة ﴿ملكه أن يأتيكم التابوت﴾ أي: الصندوق وكان فيه صور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أنزله الله تعالى على آدم ﷺ وكان من عود الشِّمشار ـ بمعجمتين أولاهما مكسورة وبينهما ميم ساكنة ـ خشب تعمل منه الأمشاط، مموّهاً بالذهب نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين، فكان عند آدم إلى أن مات ثم عند شيث ثم توارثه أولاد آدم إلى أن بلغ إبراهيم، ثم كان عند إسمعيل؛ لأنه كان أكبر ولده ثم عند يعقوب، ثم كان في بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى، ثم تداوله أنبياء بني إسرائيل، ثم استمرّ عند بني إسرائيل، وكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم أو حكم بينهم، وإذا حضروا القتال قدّموه بين أيديهم فيستفتحون به على عدوّهم كما قال تعالى: ﴿فيه سكينة﴾ أي: طمأنينة لقلوبكم ﴿من ربكم﴾ ففي أي مكان كان التابوت اطمأنوا إليه وسكنوا قاله قتادة والكلبي: لما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة أصحاب جالوت، فغلبوهم على التابوت وأخذوه.
وقال علي: هو صورة لها رأسان ووجه كوجه الإنسان، وقال مجاهد: هي شيء يشبه الهرة له رأس كرأس الهرّة وذنب كذنب الهرّة وله جناحان، وقيل: له عينان لهما شعاع وجناحان من زمرد وزبرجد، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هي طشت من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء، وقال وهب: هي روح من الله تتكلم إذا اختلفوا في شيء تخبرهم ببيان ما يريدون.
ولما كان الكليم وأخوه عليهما الصلاة والسلام أعظم أنبيائهم قال: ﴿و﴾ فيه {بقية مما ترك آل موسى
على سفاهة قومه:
﴿ولقد استهزئ برسل من قبلك﴾ كما استهزئ بك ﴿فأمليت للذين كفروا، أي: أطلت المدّة بتأخير العقوبة ثم أخذتهم﴾ بالعقوبة ﴿فكيف كان عقاب﴾، أي: هو واقع موقعه، فكذلك أفعل بمن استهزأ بك، والإملاء الإمهال بأن يترك مدّة من الزمان في راحة وأمن كالبهيمة يملي لها في المرعى، وهذا استفهام معناه التعجب، وفي ضمنه وعيد شديد لهم، وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله ﷺ على سبيل الاستهزاء، ثم إنه تعالى أورد على المشركين ما يجري مجرى الحجاج، وما يكون توبيخاً لهم وتعجيباً من عقولهم فقال تعالى:
﴿أفمن هو قائم﴾، أي: رقيب ﴿على كل نفس بما كسبت﴾، أي: عملت من خير وشر وهو الله تعالى القادر على كل الممكنات العالم بجميع المعلومات من الجزئيات والكليات، ولا بدّ لهذا الكلام من جواب فإن من موصولة صلتها هو قائم، والموصول مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف تقديره كمن ليس بهذه الصفة، وهي الأصنام التي لا تنفع ولا تضرّ دل على هذا المحذوف قوله تعالى: ﴿وجعلوا لله شركاء﴾ ونظيره قوله تعالى: ﴿أفمن شرح الله صدره للإسلام﴾ (الزمر، ٢٢) الآية تقديره كمن قسا قلبه يدل عليه قوله: ﴿فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله﴾ (الزمر، ٢٢) وإنما حسن حذفه كون الخبر مقابلاً للمبتدأ، وقد جاء مبيناً كقوله تعالى: ﴿أفمن يخلق كمن لا يخلق﴾ (النحل، ١٧) وقوله تعالى: ﴿قل سموهم﴾ فيه تنبيه على أنّ هؤلاء الشركاء لا يستحقونها، والمعنى: سموهم بأسمائهم الحقيقية، فإنهم إذا عرفت حقائقهم أنها حجارة أو غير ذلك مما هو مركز العجز، ومحل الفقر عرف ما هم عليه من سخافة العقول وركاكة الآراء، ثم قيل: أرجعتم عن ذلك إلى الإقرار بأنهم من جملة عبيده؟ ﴿أم تنبئونه﴾، أي: تخبرونه ﴿بما لا يعلم﴾ وعلمه محيط بكل شيء ﴿في الأرض﴾ من كونها آلهة ببرهان قاطع ﴿أم﴾ تسمونهم شركاء ﴿بظاهر من القول﴾، أي: بحجة إقناعية تقال بالفم، وكل ما لا يعلم فليس بشيء، وهذا احتجاج بليغ على أسلوب عجيب ينادي على نفسه بالإعجاز.
ولما كان التقدير ليس لهم على شيء من هذا برهان قاطع، ولا قول ظاهر بنى عليه قوله تعالى: ﴿بل زين﴾، أي: وقع التزيين بأمر من لا يرد أمره على يد من كان من شياطين الإنس أو شياطين الجنّ. ﴿للذين كفروا مكرهم﴾، أي: أمرهم الذي أرادوا به ما يراد بالمكر من إظهار شيء وإبطان غيره، وذلك أنهم أظهروا أنّ شركاءهم آلهة حقاً وهم يعلمون بطلان ذلك، وليس بهم في الباطن إلا تقليد الآباء، وأظهروا أنهم يعبدونها لتقرّبهم إلى الله زلفى، ولتشفع لهم، وهم لا يعتقدون بعثاً ولا نشوراً، فصار كل ذلك من فعلهم فعل الماكر ﴿وصدّوا﴾ غيرهم ﴿عن السبيل﴾، أي: طريق الهدى الذي لا يقال لغيره سبيل، فإنّ غيره عدم بل العدم خير منه، فهم لم يسلكوا السبيل، ولا تركوا غيرهم يسلكه، فضلوا وأضلوا، وليس ذلك بعجيب فإنّ الله أضلهم ﴿ومن يضلل الله﴾، أي: الذي له الأمر كله بإرادة إضلاله ﴿فما له من هاد﴾ وقرأ ابن كثير بإثبات الياء بعد الدال في الوقف دون الوصل، والباقون بغير ياء وقفاً ووصلاً. وكذلك من واق وكذا ولا واق. ولما أخبر الله تعالى بتلك الأمور المذكورة بين أنه جمع لهم بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة بقوله تعالى:
﴿لهم عذاب في الحياة الدنيا﴾ بالقتل والأسر والذم والإهانة واغتنام الأموال واللعن، ونحو ذلك مما فيه غيظهم ﴿ولعذاب الآخرة أشق﴾، أي: أشدّ في المشقة بسبب القوّة والشدّة
جمعت الآيتان الصلوات الخمس ومواقيتها، وإنما خص هذه الأوقات مع أن أفضل الأعمال أدومها؛ لأنّ الإنسان لا يقدر أن يصرف جميع أوقاته إلى التسبيح لأنه محتاج إلى ما يعيشه من مأكول ومشروب وغير ذلك، فخفف الله عنه العبادة في غالب الأوقات وأمره بها في أوّل النهار ووسطه وآخره وفي أوّل الليل ووسطه فإذا صلى العبد ركعتي الفجر فكأنما سبح قدر ساعتين، وكذلك باقي الركعات وهن سبع عشرة مع ركعتي الفجر، فإذا صلى الإنسان الصلوات الخمس في أوقاتها فكأنما سبح الله سبع عشرة ساعة من الليل والنهار، بقي عليه سبع ساعات من جميع الليل والنهار وهي مقدار النوم، والنائم مرفوع عنه القلم فيكون قد صرف جميع أوقاته بالتسبيح في العبادة، أو بمعنى: نزهوه من السوء بالثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما يتجدد فيها من نعم الله تعالى الظاهرة.
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال: «من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر،» وعنه عن النبيّ ﷺ «من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال وزاد عليه» وعنه عن النبي ﷺ «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» وعن جويرية بنت الحارث زوج النبي ﷺ ورضي عنها أنه خرج ذات غداة من عندها وكان اسمها برّة فحوّله رسول الله ﷺ فسماها جويرية فكره أن يقال خرج من عند برّة، فخرج وهي في مسجدها أي: مصلاها، فرجع بعد ما تعالى النهار فقال: «مازلت في مجلسك هذا منذ خرجت بعد قالت نعم فقال لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزن بكلماتك لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته».
وعن سعد بن أبي وقاص قال: كنا عند رسول الله ﷺ فقال: «أيعجز أحدكم أن يكتسب في كل يوم ألف حسنة فسأله سائل من جلسائه كيف يكتسب كل يوم ألف حسنة قال: يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة» وفي غير رواية مسلم ويحط بغير ألف، ولما كان الإنسان عند الإصباح يخرج من سنة النوم إلى سنة الوجود وهي اليقظة، وعند العشاء يخرج من اليقظة إلى النوم أتبعه الأحياء والإماتة حقيقة بقوله تعالى:
﴿يخرج الحيّ﴾ كالإنسان والطائر ﴿من الميت﴾ كالنطفة والبيضة ﴿ويخرج الميت﴾ كالبيضة والنطفة ﴿من الحيّ﴾ على عكس ذلك، أو يعقب الحياة الموت وبالعكس، وقيل: يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن ﴿ويحيي الأرض﴾ أي: بالمطر وإخراج النبات ﴿بعد موتها﴾ أي: يبسها ﴿وكذلك﴾ أي: ومثل هذا الإخراج ﴿تخرجون﴾ بأيسر أمر من الأرض بعد تفرّق أجسامكم فيها أحياء للبعث والحساب، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي الميت بكسر الياء المشددة، والباقون بالسكون، وقرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان بخلاف عنه بفتح التاء قبل الخاء وضم الراء على البناء للفاعل، والباقون بضمّ التاء وفتح الراء على البناء للمفعول.
﴿ومن آياته﴾ أي: ومن جملة علامات توحيده وكمال قدرته ﴿أن خلقكم﴾ أي: أصلكم وهو آدم عليه السلام ﴿من تراب﴾
موضعاً تقريراً للنعمة، وتأكيداً في التذكير، وفصل بين كل نعمتين بما ينبههم عليها ليفهمهم النعم، ويقرّرهم بها كما تقول لمن تتابع عليه إحسانك وهو يكفره وينكره: ألم تكن فقيراً فأغنيتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملاً فعززتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن راجلاً فحملتك؟ أفتنكر هذا؟ والتكرير حسن في مثل هذا، قال القائل:
*كم نعمة كانت لكم كم كم وكم*
وقال آخر:

*لا تقتلي مسلماً إن كنت مسلمة إياك من دمه إياك إياك*
وقال آخر:
*لا تقطعنّ الصديق ما طرفت عيناك من قول كاشح أشر*
*ولا تملنّ يوماً زيارته زره وزره وزر وزر وزر*
وقال الحسن بن الفضل: التكرير طرد للغفلة، وتأكيد للحجة قال بعض العلماء: والتكرير ههنا كما تقدّم في قوله تعالى: ﴿ولقد يسرنا القرآن للذكر﴾ (القمر: ١٧)
وكقوله تعالى: فيما سيأتي ﴿ويل يومئذ للمكذبين﴾ (المرسلات: ١٥)
وذهب جماعة منهم ابن قتيبة إلى أنّ التكرير لاختلاف النعم، فلذلك كرّر التوقيف مع كل واحدة.
وقال الرازي: وذكره بلفظ الخطاب على سبيل الالتفات، والمراد به التقرير والزجر وذكر لفظ الرب لأنه يشعر بالرحمة؛ قال: وكرّرت هذه اللفظة في هذه السورة نيفاً وثلاثين مرة: إما للتأكيد، ولا يعقل لخصوص العدد معنى. وقيل: الخطاب مع الأنس والجنّ والنعمة منحصرة في دفع المكروه، وتحصيل المقصود، وأعظم المكروهات: نار جهنم ولها سبعة أبواب، وأعظم المقاصد نعيم الجنة ولها ثمانية أبواب، فالمجموعة خمسة عشر وذلك بالنسبة للإنس والجنّ ثلاثون والزائد لبيان التأكيد. وروى جابر بن عبد الله قال: «قرأ علينا رسول الله ﷺ سورة الرحمن حتى ختمها، ثم قال ما لي أراكم سكوتاً للجنّ كانوا أحسن منكم ردّاً ما قرأت عليهم هذه الآية من مرّة ﴿فبأيّ آلاء ربكما تكذبان﴾ إلا قالوا ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد» وقرأ ورش ﴿فبأيّ آلاء﴾ على أصله بالمدّ، والتوسط، والقصر جميع ما في هذه السورة.
ولما ذكر تعالى خلق العالم الكبير من السماء والأرض، وما فيهما من الدلالات على وحدانيته وقدرته ذكر خلق العالم الصغير فقال تعالى: ﴿خلق الإنسان﴾ أي: آدم عليه السلام ﴿من صلصال﴾ أي: من طين يابس له صلصلة أي صوت إذا نقر ﴿كالفخار﴾ أي كالخزف المصنوع المشوي بالنار، وقيل هو طين خلط برمل؛ وقيل: هو الطين المنتن من صل اللحم وأصل إذا أنتن.
تنبيه: قال تعالى: هنا.
من ﴿صلصال كالفخار﴾ وقال تعالى في الحجر: ﴿من حما مسنون﴾ وقال تعالى في الصافات: ﴿من طين لازب﴾ (الصافات: ١١)
وقال تعالى في آل عمران ﴿كمثل آدم خلقه من تراب﴾ (آل عمران: ٥٩)
وكله متفق المعنى وذلك أنه أخذه من تراب الأرض، فعجنه بالماء، فصار طيناً، ثم ترك حتى صار حمأ مسنوناً ثم منتناً ثم صوّره كما يصوّر الإبريق وغيره من الأواني، ثم أيبسه حتى صار في غاية الصلابة فصار كالخزف الذي إذا نقر صوت صوتاً، يعلم منه هل فيه عيب أو لا فالمذكور هنا آخر تخليقه وهو أنسب بالرحمانية وفي غيرها تارة مبدؤه وتارة أثناؤه فالأرض أمّه والماء أبوه ممزوجين بالهواء الحامل للجزء الذي هو من فيح جهنم؛ فمن التراب جسده ونفسه، ومن الماء روحه


الصفحة التالية
Icon