وآل هرون} وآلهما أنفسهما والآل مقحم لتفخيم شأنهما.
وقيل: أبناؤهما، وقيل: أنبياء بني إسرائيل لأنهم أبناء عمّ موسى وهرون والبقية هي رضاض الألواح أي: فتاتها وعصا موسى وثيابه ونعلاه وعمامة هرون وقفيز من المنّ، الذي كان ينزل عليهم.
وقوله تعالى: ﴿تحمله الملائكة﴾ حال من فاعل يأتيكم ﴿إنّ في ذلك لآية لكم﴾ على ملكه وقوله تعالى: ﴿إن كنتم مؤمنين﴾ يحتمل أن يكون من كلام نبيهم، وأن يكون ابتداء خطاب من الله تعالى، فحملته الملائكة بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه، حتى وضعته عند طالوت فأقروا بملكه، وقيل: رفعه الله تعالى بعد موسى، فنزلت به الملائكة وهم ينظرون إليه، فلما رأوه لم يشكوا في النصر به، فأقروا بملكه وتسارعوا إلى الجهاد، فقال طالوت: لا حاجة لي في كل ما أرى لا يخرج معي رجل يبني بناء لم يفرغ منه، ولا صاحب تجارة مشتغل بها ولا رجل عليه دين، ولا رجل تزوّج امرأة ولم يبن بها، ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ، فاجتمع عليه ممن اختاره ثمانون ألفاً وكان الوقت صيفاً في حرّ شديد فشكوا قلّة الماء بينهم وبين عدوّهم وقالوا: إن المياه لا تحملنا فادعو الله أن يجري لنا نهراً كما قال تعالى:
﴿فلما فصل﴾ أي: خرج ﴿طالوت﴾ أي: الذي ملكوه ﴿بالجنود﴾ من بيت المقدس أي: التي اختارها والجنود، جمع جند وهم أتباع يكونون نجدة للمستتبع ﴿قال إنّ الله مبتليكم﴾ أي: مختبركم ليظهر منكم المطيع والعاصي وهو أعلم ﴿بنهر﴾ قال ابن عباس والسدّي: هو نهر فلسطين وقال قتادة نهر بين الأردن وفلسطين عذب ﴿فمن شرب منه﴾ أي: من مائه فليس مني أي: من أتباعي ﴿ومن لم يطعمه﴾ أي: يذقه ﴿فإنه مني﴾ أي: من أتباعي، وإنما علم ذلك بالوحي إن كان نبياً كما قيل أو بإخبار النبيّ عليه الصلاة والسلام وقوله تعالى: ﴿إلا من اغترف غرفة بيده﴾ أي: فاكتفى بها ولم يزد عليها، «فإنه مني» استثناء من قوله تعالى: فمن شرب، وإنما قدّمت عليه الجملة الثانية؛ للعناية بها كما قدّم الصابئون على خبر إن في قوله: ﴿إنّ الذين آمنوا والذين هادوا﴾ (البقرة، ٦٢) والمعنى الرخصة في القليل دون الكثير، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو غرفة بفتح الغين والباقون بضمها.
فائدة: قال أبو عمرو بن العلاء: سمعت أعرابياً ينشد وقد كنت خرجت إلى ظاهر البصرة متفرجاً مما نالني من طلب الحجاج:

*صبر النفس عند كل ملم إن في الصبر حيلة المحتال*
*لا تضيقن في الأمور فقد تك شف لأواؤها بغير احتيال*
*ربما تجزع النفوس من الأم ر له فرجة كحل العقال*
*قد يصاب الجبان في آخر الص ف وينجو مقارع الأبطال*
فقلت ما وراءك يا أعرابي؟ قال: مات الحجاج فلم أدر بأيهما أفرح أبموت الحجاج أم بقوله فرجة؛ لأني كنت أطلب شاهداً لاختيار القراءة في سورة البقرة غرفة بالضم.
﴿فشربوا منه﴾ لما وافوه بكثرة وقوله تعالى: ﴿إلا قليلاً منهم﴾ أي: فاقتصر على الغرفة، نصب على الاستثناء.
روي أن من اغترف غرفة كما أمر الله قوي قلبه وصح إيمانه وعبر النهر سالماً، وكفته تلك الغرفة الواحدة لشربه وأروته، والذين شربوا وخالفوا أمر الله اسودت شفاههم، وغلبهم العطش، فلم يرووا وبقوا على
وكثرة الأنواع والدوام، وعدم الانقطاع، ثم بين تعالى أنّ أحداً لا يقيهم من عذابه بقوله تعالى: ﴿وما لهم من الله من واق﴾، أي: مانع يمنعهم إذا أراد بهم سوءاً لا في الدنيا ولا في الآخرة، والواقي فاعل من الوقاية، وهي الحجز بما يدفع الأذية. ولما ذكر تعالى عذاب الكفار في الدنيا والآخرة أتبعه بذكر ثواب المتقين بقوله تعالى:
﴿مثل﴾، أي: صفة ﴿الجنة﴾، أي: التي هي مقرهم ﴿التي وعد المتقون﴾ واختلف في إعراب ذلك على أقوال: الأوّل: قال سيبويه: ﴿مثل الجنة﴾ مبتدأ وخبره محذوف والتقدير فيما قصصناه عليك ﴿مثل الجنة﴾. والثاني: قال الزجاج: ﴿مثل الجنة جنة من صفتها كذا وكذا. والثالث: مثل الجنة﴾ مبتدأ وخبره. ﴿تجري من تحتها الأنهار﴾ كما تقول صفة زيد أسمر، والرابع الخبر. ﴿أكلها﴾، أي: مأكولها ﴿دائم﴾ لأنه الخارج عن العادة، فقد وصف الله تعالى الجنة بثلاثة أوصاف، الأوّل: تجري من تحتها، أي: من تحت قصورها وأشجارها الأنهار. الثاني: إن أكلها دائم لا ينقطع أبداً بخلاف جنة الدنيا. والثالث: قوله تعالى: ﴿وظلها﴾، أي: دائم ليس كظل الدنيا لا تنسخه الشمس ولا غيرها إذ ليس فيها شمس ولا قمر ولا ظلمة، بل ظل ممدود لا ينقطع ولا يزول. ثم إنه تعالى لما وصف الجنة بهذه الصفات الثلاثة بيّن تعالى أنها للمتقين بقوله تعالى: ﴿تلك﴾، أي: الجنة العالية الأوصاف ﴿عقبى﴾، أي: آخر أمر ﴿الذين اتقوا﴾، أي: الشرك، ثم كرر الوعيد للكافرين بقوله تعالى ﴿وعقبى﴾، أي: منتهى أمر ﴿الكافرين النار﴾ لا غير، وفي ترتيب النظمين إطماع للمتقين وإقناط للكافرين. واختلف في قوله تعالى:
على قولين الأوّل: أنهم أصحاب محمد ﷺ والمراد بالكتاب القرآن ﴿يفرحون بما أنزل إليك﴾ من أنواع التوحيد والعدل والنبوّة والبعث والأحكام والقصص ﴿ومن الأحزاب﴾، أي: الجماعات من اليهود والنصارى وسائر الكفار ﴿من ينكر بعضه﴾ وهذا قول الحسن وقتادة.
فإن قيل: الأحزاب منكرون كل القرآن؟ أجيب: بأنهم لا ينكرون كل ما في القرآن، لأنه ورد فيه إثبات الله تعالى وإثبات علمه وقدرته وحكمته وأقاصيص الأنبياء، والأحزاب لا ينكرون كل هذه الأشياء.
والقول الثاني: أنّ المراد بالكتاب التوراة، وبأهله الذين أسلموا من اليهود والنصارى كعبد الله بن سلام وأصحابه، ومن أسلم من النصارى، وهم ثمانون رجلاً أربعون من نجران وثمانية من اليمن واثنان وثلاثون من أرض الحبشة، وفرحوا بالقرآن؛ لأنهم آمنوا به وصدّقوه، والأحزاب بقية أهل الكتاب، وسائر المشركين، وقيل: كان ذكر الرحمن قليلاً في القرآن في الابتداء فلما اسلم عبد الله بن سلام ومن تبعه من أهل الكتاب ساءهم قلة ذكر الرحمن مع كثرة ذكره في التوراة، فلما كرّر الله تعالى ذكره في القرآن فرحوا به فأنزل الله تعالى: ﴿والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه﴾ (الرعد، ٣٦) يعني مشركي مكة حين كتب رسول الله ﷺ في كتاب الصلح بسم الله الرحمن الرحيم قالوا: ما نعرف إلا رحمن اليمامة؟ يعني مسيلمة فأنزل الله تعالى: ﴿وهم بذكر الرحمن هم كافرون﴾ (الأنبياء، ٣٦). ثم إنه تعالى لما بين هذا جمع كل ما يحتاج المرء إليه في معرفة المبدأ والمعاد وبينه بألفاظ قليلة فقال: ﴿قل﴾، أي: يا أكرم الخلق على الله تعالى ﴿إنما أمرت﴾، أي: وقع إليّ الأمر الجازم الذي لا شك فيه ولا تغيير ممن له الأمر كله {أن أعبد
لم يكن له أصلاً اتصاف ما بحياة، أو أنه خلقكم من نطفة، والنطفة من الغذاء، والغداء إنما يتولد من الماء والتراب ﴿ثم﴾ أي: بعد إخراجكم منه ﴿إذا أنتم بشر تنتشرون﴾ في الأرض كقوله تعالى ﴿وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء﴾ (النساء: ١)
تنبيه: الترتيب والمهلة ههنا ظاهران، فإنهم يصيرون بشراً بعد أطوار كثيرة، وتنتشرون حال. وإذا هي الفجائية إلا أنّ الفجائية أكثر ما تقع بعد الفاء؛ لأنها تقتضي التعقيب. ووجه وقوعها مع ثم بالنسبة إلى ما يليق بالحالة الخاصة أي: بعد تلك الأطوار التي قصها علينا في موضع آخر من كونها نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً مجرداً ثم عظماً مكسواً لحماً فاجأ البشرية والانتشار.
﴿ومن آياته﴾ أي: على ذلك ﴿أن خلق لكم﴾ أي: لأجلكم ليبقى نوعكم بالتوالد وفي تقديم الجار وهو قوله تعالى ﴿من أنفسكم﴾ أي: جنسكم بعد إيجادها من ذات أبيكم آدم عليه السلام ﴿أزواجا﴾ إناثاً هن شفع لكم دلالة ظاهرة على حرمة التزّوج من غير الجنس كالجن، قال البقاعي: والتعبير بالنفس أظهر في كونها من بدن الرجل أي: فخلق حواء من ضلع آدم ﴿لتسكنوا﴾ مائلين ﴿إليها﴾ بالشهوة والألفة من قولهم: سكن إليه إذا مال وانقطع واطمأن إليه، ولم يجعلها من غير جنسكم لئلا تنفروا منها، قال ابن عادل: والصحيح أنّ المراد من جنسكم كما قال تعالى ﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم﴾ (التوبة: ١٢٨)
ويدل عليه قوله تعالى ﴿لتسكنوا إليها﴾ يعني أنّ الجنسين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر أي: لا تثبت نفسه معه ولا يميل قلبه إليه. ولما كان المقصود بالسكن لا ينتظم إلا بدوام الإلفة قال تعالى ﴿وجعل﴾ أي: صير بسبب الخلق على هذه الصفة ﴿بينكم مودة﴾ أي: معنى من المعاني يوجب أن لا يحب أحد من الزوجين أن يصل إلى صاحبه شيء يكرهه ﴿ورحمة﴾ أي: معنى يحمل كُلاّ على أن يجتهد للآخر في جلب الخير ودفع الضر، وقيل: المودّة كناية عن الجماع والرحمة عن الولد تمسكاً بقوله تعالى: ﴿ذكر رحمة ربك عبده زكريا﴾ (مريم، ٢) وقوله تعالى: ﴿ورحمة منا﴾ (مريم، ١،) ﴿إن في ذلك﴾ أي: الذي تقدم من خلق الأزواج على الحال المذكور وما يتبعه من المنافع ﴿لآيات﴾ أي: دلالات واضحات على قدرة فاعله وحكمته ﴿لقوم يتفكرون﴾ أي: يستعملون أفكارهم على القوانين المحرّرة ويجتهدون في ذلك فيعلمون ما في ذلك من الحكم، ولما بين تعالى دلائل الأنفس ذكر دلائل الآفاق بقوله تعالى:
﴿ومن آياته﴾ أي: الدالة على ذلك ﴿خلق السموات﴾ على علوها وإحكامها ﴿والأرض﴾ على اتساعها وإتقانها، وقدّم السماء على الأرض لأنّ السماء كالذكر لها، ولما أشار إلى دلائل الأنفس والآفاق ذكر ما هو من صفات الأنفس بقوله تعالى: ﴿واختلاف ألسنتكم﴾ أي: لغاتكم من العربية والعجمية وغيرهما، ونغماتكم وهيآتها، فلا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس ولا جهارة ولا شدّة ولا رخاوة ولا لكنة ولا فصاحة ولا غير ذلك من صفات النطق وأشكاله وأنتم من نفس واحدة ﴿و﴾ اختلاف ﴿ألوانكم﴾ من أبيض وأسود وأشقر وأسمر وغير ذلك من اختلاف الألوان وأنتم بنو رجل واحد وهو آدم عليه السلام، والحكمة في ذلك: أنّ الإنسان يحتاج إلى التمييز بين الأشخاص ليعرف صاحب الحق من غيره والعدو من الصديق ليحترز قبل وصول العدو إليه، وليقبل على الصديق قبل أن يفوته الإقبال عليه، وذلك قد يكون بالبصر فخلق اختلاف الصور، وقد يكون
وعقله، ومن النار غوايته وحدته، ومن الهواء حركته وتقلبه في محامده ومذامه، فالغالب في جبلته التراب، فلهذا نسب إليه، وإن خلق من العناصر الأربع، كما أنّ الجانّ خلق من العناصر الأربع لكن الغالب في جبلته النار فنسب إليها؛ كما قال تعالى: ﴿وخلق الجانّ﴾ أي: أبا الجنّ، وهو إبليس وقيل: هو أبوهم وليس هو بإبليس؛ وقيل: هو اسم جنس كالإنسان ﴿من مارج من نار﴾ وهو لهبها الخالص من الدخان؛ وقال القشيري: هو اللهب المختلط بسواد النار، فالنار أغلب عناصره. وقال الليث: المارج الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد. وعن ابن عباس: أنه اللهب الذي يعلو النار فيختلط بعضه ببعض أحمر وأصفر وأخضر وهو مشاهد في النار ترى الألوان الثلاثة مختلط بعضها ببعض؛ ونحوه عن مجاهد. وقال أبو عبيدة والحسن: المارج المختلط من النار وأصله من مرج إذا اضطرب واختلط قال القرطبي: يروى أنّ الله تعالى خلق نارين فمرج أحداهما بالأخرى فأكلت إحداهما الأخرى وهي نار السموم، فخلق منها إبليس.
تنبيه: ﴿من مارج من نار﴾ مَنْ الأولى لابتداء الغاية؛ وفي الثانية وجهان: أحدهما: أنها للبيان. والثاني: أنها للتبعيض.
﴿فبأي آلاء﴾ أي: نعم ﴿ربكما﴾ الناشئة عن مبدئكما ومربيكما وسيد كما ﴿تكذبان﴾ أي: مما أفاض عليكما في أطوار خلقتكما حتى صيركما أفضل المركبات وخلاصة الكائنات.
﴿رب﴾ أي: خالق ومدبر ﴿المشرقين﴾ أي: مشرق الشتاء ومشرق الصيف ﴿ورب المغربين﴾ كذلك.
﴿فبأي آلاء﴾ أي: نعم ربكما أي الذي دبر لكما هذا التدبير العظيم ﴿تكذبان﴾ أي: بما في ذلك من الفوائد التي لا تحصى كاعتدال الهواء واختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل فيه إلى غير ذلك.
﴿مرج﴾ أي: أرسل الرحمن ﴿البحرين﴾ أي: العذب والملح فجعلهما مضطربين من طبعهما الاضطراب حال كونهما ﴿يلتقيان﴾ أي: يتماسان على وجه الأرض بلا فصل بينهما في رؤية العين. وقال ابن عباس: بحر السماء وبحر الأرض. قال سعيد بن جبير: يلتقيان في كل عام. وقيل: يلتقي طرفاهما. وقال الحسن وقتادة: بحر فارس والروم. وقال ابن جريج: البحر المالح والأنهار العذبة. وقيل: بحر المشرق وبحر المغرب. وقيل: بحر اللؤلؤ وبحر المرجان.
﴿بينهما برزخ﴾ أي حاجز عظيم فعلى القول بأنهما بحر السماء وبحر الأرض فالحاجز الذي بينهما هو ما بين السماء والأرض؛ قاله الضحاك وعلى الأقوال الباقية: قال الحسن وقتادة: هو الأرض. وقال بعضهم هو القدرة الإلهية وهذا أولى.
﴿لا يبغيان﴾ اختلف فيه. فقال قتادة: لا يبغيان على الناس فيغرقانهم كما طغيا فأهلكا من على الأرض في أيام نوح عليه السلام، فجعل بينهما وبين الناس اليبس، وقال مجاهد وقتادة أيضاً: لا يبغي أحدهما على صاحبه فيغلبه. وقيل البرزخ ما بين الدنيا والآخرة أي: بينهما مدة قدّرها الله تعالى وهي مدّة الدنيا فهما لا يبغيان فإذا أذن الله تعالى في انقضاء الدنيا صار البحران شيئاً واحداً؛ وهو كقوله تعالى: ﴿وإذا البحار فجرت﴾ (الإنفطار: ٣)
وقال سهل بن عبد الله: البحران طريق الخير والشرّ، والبرزخ الذي بينهما التوفيق والعصمة، وقال الرازي: معنى الآية أنّ الله تعالى أرسل بعض البحرين إلى بعض ومن شأنهما الاختلاط، فحجزهما ببرزخ من قدرته فهما لا يبغيان أي لا يتجاوز كل واحد منهما ما حدّه له خالقه


الصفحة التالية
Icon