شط النهر وجبنوا عن لقاء العدوّ، واختلفوا في عدد الذين لم يشربوا قال البغوي: الصحيح أنهم ثلثمائة وبضعة عشر أي: عدد أهل بدر، وقال السدّي: كانوا أربعة آلاف ويؤيد الأوّل ما روي عن البراء أنه قال: كنا أصحاب رسول الله ﷺ نتحدّث أن عدّة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت، الذين جاوزوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا بضعة عشر، وثلثمائة. ويروى ثلثمائة وثلاثة عشر وفي هذا إيذان بأن أعظم الجيوش جيش يكون فيه من أهل الورع بعدد التائبين من أصحاب طالوت، الذين كان بعددهم أصحاب رسول الله ﷺ يوم بدر وهم ثلثمائة وثلاثة عشر، عدد المرسلين من كثرة عدد النبيين ولما كان قصص بني إسرائيل مثلاً لهذه الأمة كان مبتلى هذه الأمة بالنهر، فابتلاهم بنهر الدنيا الجاري خلالها، وفي إفراد اليد إيذان بأنّ الأخذ من الدنيا إنما يكون بيد لا بيدين، لاشتمال اليدين على جانبي الخير والشرّ. ﴿فلما جاوزه﴾ أي: النهر ﴿هو﴾ أي: طالوت ﴿والذين آمنوا معه﴾ أي: وهم الذين اقتصروا على الغرفة ﴿قالوا﴾ أي: الذين شربوا ﴿لا طاقة﴾ أي: لا قوّة ﴿لنا اليوم بجالوت وجنوده﴾ أي: بقتالهم وجبنوا ولم يجاوزوه.
ولما أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم بهذا القول نبّه على أنه لا ينبغي أن يصدر ممن يظنّ أنّ أجله مقدر لا يزيد بالجبن والإحجام، ولا ينقص بالجراءة والإقدام، وأنه يلقى الله تعالى، فيجازيه على عمله، وأنّ النصر من الله لا بالقوّة والعدد فقال: ﴿قال الذين يظنون﴾ أي: يوقنون ﴿أنهم ملاقوا الله﴾ بالبعث وهم الذين جاوزوه ﴿كم من فئة﴾ أي: جماعة، وهي جمع لا واحد له من لفظه وجمعه فئات وفئون في الرفع وفئين في النصب والخفض، وكم يحتمل أن تكون خبرية بمعنى كثير، ومن مبينة وأن تكون استفهامية، ومن مؤكدة والأوّل أولى بقرينة المقام ﴿قليلة﴾ كما كان في هذه الأمة في يوم بدر ﴿غلبت فئة كثيرة بإذن الله﴾ أي: بإرادته وتيسيره، ثم انظر إلى هذا الحال العجيب؛ وهو أنه لما ندبهم انتدب جيش لا يحصون فاشترط عليهم الشاب الفارغ من بناء دار، وبناء بامرأة، فلم يكن الموجود بالشرط إلا ثمانين ألفاً، ثم امتحنوا بالنصر، فلم يثبت منهم إلا ثلثمائة وثلاثة عشر وهم دون الثلث من ثمن العشر من المتصفين بالشرط، من الذين هم دون الدون من المنتدبين، الذين هم دون الدون من السائلين في بعث الملك الخارجين معه كما قال القائل:

*ألم تعلم بأني صيرفي أحك الأصدقاء على محكي*
*فمنهم بهرج لا خير فيه ومنهم من أجوزه بشك*
*وأنت الخالص الذهب المصفى بتزكيتي ومثلي من يزكي*
ثم بين سبحانه وتعالى أنّ ملاك كل ذلك الصبر بقوله: ﴿وا مع الصابرين﴾ بالنصر والمعونة فلا يخذل من كان معه.
﴿ولما برزوا﴾ أي: ظهروا وهم على ما هم عليه من الضعف والقلة ﴿لجالوت﴾ اسم ملك من ملوك الكنعانيين بالشأم في زمن بني إسرائيل، جبار من العمالقة من أولاد عمليق بن عاد ﴿وجنوده﴾ على ما هم فيه من القوّة والكثرة التجؤا إلى الله بالدعاء كما نبه على ذلك بقوله: ﴿قالوا ربنا أفرغ﴾ أي: أصبب ﴿علينا صبراً وثبت أقدامنا﴾ بتقوية قلوبنا على الجهاد {وانصرنا
الله}، أي: وحده، ولذلك قال: ﴿ولا أشرك به﴾ شيئاً ﴿إليه﴾ وحده ﴿أدعو وإليه مآب﴾، أي: مرجعي للجزاء لا إلى غيره.
﴿وكذلك﴾، أي: كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلسانهم ﴿أنزلناه﴾، أي: القرآن ﴿حكماً﴾ والحكم فصل الأمر على الحق ﴿عربياً﴾ بلسانك ولسان قومك، وإنما سمي القرآن حكماً؛ لأنّ فيه جميع التكاليف والحلال والحرام، والنقض والإبرام، فلما كان سبباً للحكم جعل نفس الحكم على سبيل المبالغة. وروي أنّ المشركين كانوا يدعون النبيّ ﷺ إلى ملة آبائه، فوعده الله تعالى على متابعتهم في تلك المذاهب بأن يصلى إلى قبلتهم بعد ما حوّله الله تعالى عنها بقوله تعالى: ﴿ولئن اتبعت أهواءهم﴾، أي: الكفار فيما يدعونك إليه من ملتهم ﴿بعد ما جاءك من العلم﴾، أي: بأنك على الحق وأن قبلتك هي الكعبة ﴿ما لك من الله من ولي﴾، أي: ناصر ﴿ولا واق﴾، أي: مانع من عذابه. وقال ابن عباس: الخطاب مع النبيّ ﷺ والمراد أمته. ونزل لما عير الكفار النبيّ ﷺ بكثرة النساء.
﴿ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً﴾، أي: نساء ينكحونهنّ فكان لسليمان امرأة وسرية وكان لداود عليه السلام إمرأة ﴿وذرية﴾، أي: أولاداً فأنت مثلهم، وكانوا يقولون أيضاً: لو كان رسولاً من عند الله لكان، أي: شيء طلبناه منه من المعجزات أتى به فردّ الله تعالى عليهم بقوله تعالى: ﴿وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بأذن الله﴾، أي: بإرادته؛ لأنّ المعجزة الواحدة كافية في إزالة العذر، والعلة وفي إظهار الحجة والبينة، وأمّا الزائد عليها فهو مفوض إلى مشيئة الله تعالى إن شاء أظهرها وإن لم يشأ لم يظهرها لا اعتراض لأحد عليه في ذلك. ولما توعدهم ﷺ نزول العذاب، وظهور النصرة له ولقومه وتأخر ذلك عنهم قالوا: لو كان نبياً صادقاً لما ظهر كذبه، فردّ الله تعالى عليهم بقوله تعالى ﴿لكل أجل﴾، أي: مدّة ﴿كتاب﴾، أي: مكتوب قد أثبت فيه أن أمر كذا يكون في وقت كذا من الثواب والعقاب والأحكام، والإتيان بالآيات وغيرها إثباتاً ونسخاً على ما تقتضيه الحكمة. ولما اعترضوا على رسول الله ﷺ وقالوا: إنّ محمداً يأمر أصحابه بأمر اليوم، ثم يأمر بخلافه غداً، وما سبب ذلك إلا أنه يقوله من تلقاء نفسه، فردّ الله تعالى عليهم بقوله تعالى:
﴿يمحو الله ما يشاء﴾، أي: محوه من الشرائع والأحكام وغيرها بالنسخ فيرفعه ﴿ويثبت﴾ ما يشاء إثباته من ذلك بأن يقرّه ويمضي حكمه كقوله تعالى: ﴿ما ننسخ من آية﴾ (البقرة، ١٠٦) إلى قوله تعالى: ﴿ألم تعلم أنّ الله على كل شيء قدير﴾ (البقرة، ١٠٦). وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بسكون الثاء المثلثة وتخفيف الباء الموحدة، والباقون بفتح الثاء وتشديد الباء الموحدة.
تنبيه: في هذه الآية قولان:
أحدهما أنها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ، وهذا مذهب عمر وابن مسعود وغيرهما قالوا: إنّ الله يمحو من الرزق ويزيد فيه، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة، فأثبتني فيها، وإن كنت كتبت عليّ الشقاوة فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أمّ الكتاب، ومثله عن ابن مسعود وهذا التأويل رواه جابر عن رسول الله ﷺ وفي بعض
بالسمع فخلق اختلاف الأصوات، وأما اللمس والشم والذوق فلا يفيد فائدة في معرفة العدو والصديق فلا يقع التمييز بين كل واحد بشكله وحليته وصورته، ولو اتفقت الصور والأصوات وتشاكلت وكانت ضرباً واحداً لوقع التجاهل والالتباس ولتعطلت مصالح كثيرة وربما رأيت توأمين يشتبهان في الحلية فيروك الخطأ في التمييز بينهما، فسبحان من خلق الخلق على ما أراد وكيف أراد، وفي ذلك آية بينة حيث ولدوا من أب واحد وتفرعوا من أصل فذ وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلا الله تعالى مختلفون متفاوتون، ولما كان هذا مع كونه في غاية الوضوح لا يختص بجنس من الخلق دون غيره قال ﴿إن في ذلك﴾ أي: الأمر العظيم العالي الرتبة في بيانه وظهور برهانه ﴿لآيات﴾ أي: دلالات واضحات جداً على وحدانيته تعالى ﴿للعالمين﴾ أي: ذوي العقول والعلم لا يختص به صنف منهم دون صنف من جنّ ولا أنس ولا غيرهم، فهذا هو حكمة قوله تعالى هنا للعالمين وفيما تقدّم بقوله تعالى: ﴿لقوم يتفكرون﴾، (يونس: ٢٤)
وقرأ حفص وحده بكسر اللام، ولما ذكر تعالى بعض العرضيات اللازمة وهو الاختلاف ذكر الأعراض المفارقة ومن جملتها النوم بالليل والحركة في النهار طلباً للرزق كما قال تعالى:
﴿ومن آياته﴾ الدالة على القدرة والعلم ﴿منامكم﴾ أي: نومكم ومكانه وزمانه الذي يغلبكم بحيث لا تستطيعون له دفعاً ﴿بالليل والنهار﴾ قيلولة ﴿وابتغاؤكم من فضله﴾ أي: منامكم في الزمانين لاستراحة القوى النفسانية وقوة القوى الطبيعية، وطلب معاشكم فيهما فإن كثيراً ما يكسب الإنسان بالليل، أو منامكم بالليل وابتغاؤكم بالنهار خلف، وضم بين الزمانين والفعلين بعاطفين وهما الواوان إشعاراً بأنّ كلاًّ من الزمانين وإن اختص بأحدهما فهو صالح للآخر عند الحاجة، ويؤيده آيات أخر كقوله تعالى ﴿وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً﴾ (النبأ: ١٠ ـ ١١)
وقوله تعالى: ﴿وجعلنا آية النهار مبصرة﴾ (الإسراء: ١٢)
ويكون التقدير هكذا: ومن آياته منامكم وابتغاؤكم بالليل والنهار من فضله. وأخر الابتغاء وقرنه في اللفظ بالفضل إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من كسبه وبحذقه بل من فضل ربه. ولهذا قرن الابتغاء بالفضل في كثير من المواضع منها قوله تعالى ﴿فإذا قضيتم الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله﴾ (الجمعة: ١٠)
وقوله تعالى ﴿ولتبتغوا من فضله﴾ تنبيه: قدم الله تعالى المنام بالليل على الابتغاء بالنهار في الذكر لأنّ الاستراحة مطلوبة لذاتها والطلب لا يكون إلا لحاجة، فلا يبتغي إلا محتاج في الحال أو خائف من المآل ﴿إن في ذلك﴾ أي: الأمر العظيم العلي الرتبة من إيجاد النوم بعد النشاط والنشاط بعد النوم الذي هو الموت الأصغر وإيجاد كل من الملوين بعد إعدامهما، والجد في الابتغاء بعد المفارقة في التحصيل ﴿لآيات﴾ عديدة على القدرة والعلم لا سيما البعث ﴿لقوم يسمعون﴾ أي: من الدعاة والنصاح سماع تفهم واستبصار فإنّ الحكمة فيه ظاهرة.
تنبيه: قال هنا ﴿آيات لقوم يسمعون﴾ وقال تعالى من قبل ﴿لقوم يتفكرون﴾ وقال تعالى ﴿للعالمين﴾ لأنّ المنام بالليل والابتغاء يظن الجاهل أو الغافل أنهما مما يقتضيه طبع الحيوان فلا يظهر لكل أحد كونهما من نعم الله تعالى، فلم يقل آيات للعالمين، ولأن الأمرين الأولين وهما اختلاف الألسنة والألوان من اللوازم، والمنام والابتغاء من الأمور المفارقة، فالنظر إليهما لا يدوم
لا في الظاهر ولا في الباطن فمتى حفرت على جنب الملح في بعض الأماكن وجدت الماء العذب وإن قربت الحفرة منه؛ قال البقاعي: بل كلما قربت كان أحلى فخلطهما سبحانه في رأي العين وحجز بينهما في غيب القدرة هذا وهما جمادان لا نطق لهما ولا إدراك، فكيف يبغي بعضكم على بعض أيها المدركون العقلاء؟.
﴿فبأي آلاء﴾ أي نعم ﴿ربكما﴾ أي الموجد لكما والمربي ﴿تكذبان﴾ أبتلك النعم أم بغيرها فهلا اعتبرتم بهذه الأصول من أنواع الموجودات فصدقتم بالآخرة لعلكم تنجون من عذاب الله تعالى.
﴿يخرج منهما اللؤلؤ﴾ وهو كبار الجوهر ﴿والمرجان﴾ وهو صغار الجوهر، قاله علي وابن عباس والضحاك: وقيل: بالعكس؛ وقيل: المرجان حجر أحمر وقيل: حجر شديد البياض والمرجان أعجمي أي بمخالطة العذب المالح من غير واسطة أو بواسطة السحاب فصار ذلك كالذكر والأنثى، وقال الرازي: فيكون العذب كاللقاح للملح، وقال أبو حيان: قال الجمهور: إنما يخرج من الأجاج في المواضع التي تقع فيها الأنهار والمياه العذبة فأسند ذلك إليهما، وهذا مشهور عند الغواصين. قال مكي: كما قال: ﴿على رجل من القريتين عظيم﴾ (الزخرف: ٣١)
أي: من إحدى القريتين وحذف المضاف كثير شائع؛ وقيل: هو كقوله تعالى: ﴿نسيا حوتهما﴾ (الكهف: ٦١)
وإنما الناسي فتاه، ويعزى لأبي عبيدة؛ قال البغوي: وهذا جائز في كلام العرب أن يذكر شيئان ثم يخص أحدهما بفعل، كقوله تعالى ﴿يا معشر الجنّ والأنس ألم يأتكم رسل منكم﴾ وكانت الرسل من الأنس، وقيل: يخرج من أحدهما اللؤلؤ، ومن الآخر المرجان، وقيل: بل يخرجان منهما جميعاً، وقال ابن عباس: تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر والصدف تفتح أفواهها للمطر وقد شاهده الناس فيكون تولده من بحر السماء وبحر الأرض، وهذا قول الطبري.
وقال الزمخشري: فإن قلت لم قال منهما، وإنما يخرجان من الملح؟ قلت: لما التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال يخرجان منهما كما يقال: يخرجان من البحر ولا يخرجان من جميع البحر وإنما يخرجان من بعضه؛ وتقول خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله بل من دار واحدة من دوره، وقيل: لايخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب ا. هـ.
وقال بعضهم: كلام الله تعالى أولى بالاعتبار من كلام بعض الناس، فمن الجائز أنه يسوقهما من البحر العذب إلى الملح، واتفق أنهم لم يخرجوهما إلا من الملح، وإذا كان في البر أشياء تخفى على التجار المتردّدين القاطعين المفاوز فكيف بما في قعر البحر. قال ابن عادل: والجواب عن هذا أنّ الله تعالى لا يخاطب الناس ولا يمتن عليهم إلا بما يألفون ويشاهدون.
وقرأ نافع وأبو عمرو: يخرج بضم الياء وفتح الراء مبنياً للمفعول، والباقون بفتح الياء وضم الراء مبنياً للفاعل على المجاز. وقرأ السوسي وشعبة: بإبدال الهمزة الساكنة واواً وصلاً ووقفاً، وإذا وقف حمزة أبدل الأولى والثانية.
﴿فبأي آلاء﴾ أي: نعم ﴿ربكما﴾ أي: الملك الأعظم المالك لكما ﴿تكذبان﴾ أبكثرة النعم من خلق المنافع في البحار وتسليطكم عليها، وإخراج الحلي العجيبة أم بغيرها.
﴿وله﴾ أي: لا لغيره ﴿الجواري﴾ أي: السفن الكبار والصغار الفارغة والمشحونة فلا تغترّوا بالأسباب الظاهرة فتقفوا معها فتسندوا شيئاً من ذلك إليها، وقرأ: ﴿والمنشآت﴾ حمزة وأبو بكر بخلاف عنه بكسر


الصفحة التالية
Icon