على القوم الكافرين} وفي الدعاء ترتيب بليغ إذ سألوا: أولا إفراغ الصبر في قلوبهم الذي هو ملاك الأمر، ثم ثبات القدم في مداحض الحرب المسبب عنه، ثم النصر على العدوّ المترتب عليهما غالباً.
﴿فهزموهم بإذن الله﴾ أي: بإرادته ﴿وقتل داود جالوت﴾ قال أهل التفسير: عبر النهر مع طالوت فيمن عبر إيشا أبو داود في ثلاثة عشر ابناً له، وكان داود أصغرهم، فأرسل جالوت إلى طالوت أن ابرز إليّ أو أبرز من يقاتلني، فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم، فشق ذلك على طالوت فنادى في عسكره: من قتل جالوت زوّجته ابنتي وناصفته ملكي، فهابوا لقاء جالوت فلم يجبه أحد فسأل طالوت نبيهم أن يدعو الله تعالى فدعا في ذلك، فأوحى الله تعالى إليه أن في ولد إيشا من يقتل الله تعالى به جالوت، وكان داود أصغرهم يرعى الغنم، فأوحى الله تعالى إلى نبيهم أنه الذي يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء فقال له طالوت: هل لك أن تقتل جالوت وأزوّجك ابنتي وأناصفك ملكي؟ قال: نعم قال: آنست من نفسك أن تقوى به قال: نعم أنا أرعى فيجيء الأسد فيأخذ شاة فأقوم إليه وأفتح لحييه عنها وأشقهما إلى قفاه، فمرّ داود في الطريق فكلمه ثلاثة أحجار، وقالت له: إنك تقتل جالوت بنا، فحملها في مخلاته فلما تصافوا للقتال وبرز جالوت وسأل المبارزة وكان من أشدّ الناس وأقواهم، كان يهزم الجيوش وحده، وكان له بيضة فيها ثلثمائة رطل حديد، انتدب له داود وأخذ مخلاته وتقلد بها وأخذ المقلاع ومضى نحو جالوت فلما نظر إلى داود ألقى في قلبه الرعب فقال له: أنت تبرز لي قال: نعم، وكان جالوت على فرس أبلق عليه السلاح التام، فقال: أتيتني بالمقلاع والحجر كما يؤتى الكلب؟ قال: نعم أنت شر من الكلب قال: لا جرم لأقسمن لحمك بين سباع الأرض وطير السماء، قال داود: أو يقسم الله لحمك، فقال داود: باسم إله إبراهيم وأخرج حجراً ثم أخرج الآخر وقال: باسم إله إسحق، ووضعه في مقلاعه ثم أخرج الثالث وقال: بسم إله يعقوب ووضعه في مقلاعه فصارت كلها حجراً واحداً، ودوّر المقلاع ورمى به، فسخر الله له الريح حتى أصاب أنف البيضة فخالط دماغه وخرج من قفاه، وقتل من ورائه ثلاثين رجلاً، وهزم الله تعالى الجيش وخرّ
جالوت قتيلاً، فأخذه داود يجرّه حتى ألقاه بين يدي طالوت، وفرح المسلمون فرحاً شديداً وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين، فجاء داود إلى طالوت وقال: أنجزني ما وعدتني فزوّجه ابنته وأجرى خاتمه في ملكه فمال الناس إلى داود وأحبوه، وأكثروا ذكره فحسده طالوت، وأراد قتله فأخبر بذلك فهرب، فسلط عليه العيون وطلبه أشدّ الطلب، فلم يقدر عليه.
ثم إنّ طالوت ركب يوماً فوجد داود يمشي في البرية فقال: أقتله فركض على أثره فاشتدّ داود وكان إذا فزع لم يدرك فدخل غاراً، فأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فنسجت عليه بيتاً فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت فقال: لو كان دخل ههنا لخرق بناء العنكبوت، فتركه ومضى وانطلق داود إلى الجبل مع المتعبدين فتعبد فيه إلى أن قتل طالوت، وكان ملك طالوت إلى أن قتل أربعين سنة، وأتى بنو إسرائيل بداود وأعطوه خزائن طالوت وملكوه على أنفسهم.
قال الكلبي والضحاك: ملك داود بعد قتل طالوت سبعين سنة ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلا على داود فذلك قوله تعالى: ﴿وآتاه الله الملك والحكمة﴾ أي: النبوّة بعد موت شمويل
الآثار: أنّ الرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثون سنة فيقطع رحمه فيردّ إلى ثلاثة أيام، والرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيرد إلى ثلاثين سنة. وروي أنّ الله تعالى ينزل، أي: أمره في آخر ثلاث ساعات تبقى من الليل فينظر في الساعة منهنّ في أمّ الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت. والقول الثاني أنّ هذه الآية خاصة في بعض الأشياء دون بعض، واختلفوا على هذا القول فقال سعيد بن جبير وقتادة: يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض، فينسخه ويبدله ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه. وقال ابن عباس: يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الرزق والأجل والسعادة والشقاوة، واستدل لهذا بما رواه حذيفة بن أسيد قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكاً فصوّرها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يقول الملك: يا رب رزقه فيقضي ربك ما يشاء، ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أشقي أم سعيد؟ فيكتبان فيكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد ولا ينقص».
وقال ابن عطية عن ابن عباس: هو الرجل يعمل بطاعة الله تعالى، ثم يرجع لمعصية الله تعالى، فيموت على ضلاله فهو الذي يمحو الذي يثبت يعمل الرجل بطاعة الله، فيموت وهو في طاعته فهو الذي يثبت. وقال الحسن: يمحو ما يشاء، أي: من جاء أجله يذهب به ويثبت من لم يجيء أجله إلى أجله. وعن سعيد بن جبير قال: يمحو ما يشاء من ذنوب العباد فيغفرها، ويثبت ما يشاء فلا يغفرها. وقال عكرمة: يمحو الله ما يشاء من الذنوب بالتوبة، ويثبت بدل الذنوب حسنات كما قال تعالى: ﴿فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات﴾. (الفرقان، ٧٠) وقال السدي: يمحو الله ما يشاء يعني القمر ويثبت ما يشاء يعني الشمس بيانه قوله تعالى: ﴿فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة﴾ (الإسراء، ١٢). وقال الربيع: هذا في الأرواح يقبضها الله تعالى عند النوم، فمن أراد موته أمسكه، ومن أراد بقاءه أثبته وردّه إلى صاحبه بيانه قوله تعالى: ﴿الله يتوفى الأنفس حين موتها﴾ (الزمر، ٤٢) الآية. وقيل إنّ الله تعالى يثبت في أوّل كل سنة حكمها، فإذا مضت السنة محاه، وأثبت حكماً آخر للسنة المستقبلة. وقيل: يمحو الله الدنيا ويثبت الآخرة.
وقيل: إنّ الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم فيمحو الله من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب.
وقيل: هذا في المحن والمصائب فهي مثبتة في الكتاب، ثم يمحوها بالدعاء والصدقة ﴿وعنده﴾ تعالى ﴿أمّ الكتاب﴾ أصل الكتب والعرب تسمى كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أمّا، ومنه أمّ الرأس للدماغ، وأمّ القرى، وكل مدينة فهي أمّ لما حولها من القرى فكذلك أمّ الكتاب هو الذي يكون أصلاً لجميع الكتب، وفيه قولان: الأوّل: أنه اللوح المحفوظ الذي لا يغير ولا يبدّل وجميع حوادث العالم العلوي والسفلي يثبت فيه. روي عن النبيّ ﷺ أنه قال: «كان الله ولا شيء ثم خلق اللوح وأثبت فيه أحوال جميع الخلق إلى قيام الساعة».
والقول الثاني: أنّ أمّ الكتاب أصله الذي لا يغير منه شيء وهو الذي كتب في الأزل. وقال ابن عباس في رواية عكرمة: هما كتابان كتاب سوى أمّ الكتاب يمحو ما يشاء منه ويثبت وعنده أمّ الكتاب لا يغير منه شيء، وعلى هذا فالكتاب الذي يمحو منه ويثبت هو الكتاب الذي تكتبه الملائكة على الخلق. وعن ابن
لزوالهما في بعض الأوقات ولا كذلك اختلاف الألسنة والألوان فإنهما يدومان بدوام الإنسان فجعلهما آيات عليه، وأما قوله تعالى ﴿لقوم يتفكرون﴾ فإن من الأشياء ما يعلم من غير تفكر. ومنها ما يكفي فيه مجرّد الفكرة، ومنها ما يحتاج إلى موقف يوقف عليه ومرشد يرشد إليه فيفهمه إذا سمعه من ذلك المرشد، ومنها ما يحتاج بعض الناس في تفهمه إلى أمثال حسية كالأشكال الهندسية لأنّ خلق الأزواج لا يقع لأحد أنه بالطبع إلا إذا كان جامد الفكرة، فإذا تفكر علم كون ذلك الخلق آية، وأمّا المنام والابتغاء فقد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد وقد يحتاج إلى مرشد معين لفكره فقال ﴿لقوم يسمعون﴾ ويجعلون بالهم من كلام المرشد، ولما ذكر تعالى العرضيات اللازمة للأنفس والمفارقة ذكر العرضيات التي للآفاق بقوله تعالى:
﴿ومن آياته﴾ الدالة على عظيم قدرته ﴿يريكم البرق﴾ أي: إراءتكم له على هيئآت وكيفيات طال ما شاهدتموها تارة تأتي بما يضر وتارة بما يسر كما قال تعالى ﴿خوفاً﴾ أي: للإخافة من الصواعق المحرقة ﴿وطمعاً﴾ أي: وللإطماع في المياه العذبة ﴿وينزل من السماء ماء﴾ أي: الذي لا يمكن لأحد غيره دعواه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي ﴿فيحيي به﴾ أي: بذلك الماء خاصة لأنّ أكثر الأرض لا يسقى بغيره ﴿الأرض﴾ أي: بالنبات الذي هو لها كالروح لجسد الإنسان ﴿بعد موتها﴾ أي: يبسها ﴿إن في ذلك﴾ أي: الأمر العظيم العالي القدر ﴿لآيات﴾ لا سيما على القدرة على البعث ﴿لقوم يعقلون﴾ أي: يتدبرون فيستعملون عقولهم في استنباط أسبابها وكيفية تكوّنها ليظهر لهم كمال قدرة الصانع.
تنبيه: كما قدّم السماء على الأرض قدم ما هو من السماء وهو البرق والمطر على ما هو من الأرض وهو الإنبات والإحياء، وكما أن في إنزال المطر وإنبات الشجر منافع كذلك في تقديم الرعد والبرق على المطر منفعة، وهي أنّ البرق إذا لاح فالذي لا يكون تحت كن يخاف الابتلال فيستعد له، والذي له صهريج أو مصنع يحتاج إلى الماء، أو زرع يسوي مجاري الماء وأيضاً أهل البوادي لا يعلمون البلاد المعشبة إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب دون جانب.
واعلم أن دلائل البرق وفوائده وإن لم تظهر للمقيمين في البلاد فهي ظاهرة للبادين، فلهذا جعل تقديم البرق على تنزيل الماء من السماء نعمة وآية، فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى هنا ﴿آيات لقوم يعقلون﴾ وفيما تقدم ﴿لقوم يتفكرون﴾ ؟ أجيب: بأنه لما كان حدوث الولد من الوالد أمراً عادياً مطرداً قليل الاختلاف كان يتطرق إلى الأوهام العامية أنّ ذلك بالطبيعة لأنّ المطرد أقوى إلى الطبيعة من المختلف، والبرق والمطر ليس أمراً مطرداً غير مختلف بل يختلف إذ يقع ببلدة دون بلدة، وفي وقت دون وقت، وتارة يكون قوياً وتارة يكون ضعيفاً، فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار فقال هو آية لمن كان له عقل وإن لم يتفكر تفكراً تاماً، ثم ذكر تعالى من لوازم السماء والأرض قيامهما بقوله تعالى:
﴿ومن آياته﴾ أي: على تمام القدرة وكمال الحكمة ﴿أن تقوم السماء والأرض بأمره﴾ قال ابن مسعود، قامتا على غير عمد بأمره أي: بإرادته، فإنّ الأرض لثقلها يتعجب الإنسان من وقوفها وعدم نزولها وكون السماء في علوها يتعجب من علوها وثباتها من غير عمد وهذا من اللوازم، فإنّ
الشين بمعنى أنها تنشئ الموج بجريها أو تنشئ السير إقبالاً وإدباراً، أو التي رفعت شراعها أي قلوعها والشراع القلع وعن مجاهد كل ما رفعت قلعها فهي من المنشآت وإلا فليست منها ونسبة الرفع إليها مجاز كما يقال: أنشأت السحابة المطر وقرأ الباقون بفتح الشين وهو اسم مفعول أي أنشأها الله تعالى أو الناس أو رفعوا شراعها.
تنبيه: الجواري جمع جارية وهو اسم أو صفة للسفينة، وخصها بالذكر لأنّ جريها في البحر لا صنع للبشر فيه، وهم معترفون بذلك فيقولون لك الفلك ولك الملك؛ وإذا خافوا الغرق دعوا الله وحده، وسميت السفينة جارية لأنّ شأنها ذلك وإن كانت واقفة في الساحل كما سماها في موضع آخر بالجارية كما قال تعالى: ﴿إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية﴾ (الحاقة: ١١)
وسماها بالفلك قبل أن لم تكن كذلك فقال تعالى لنوح عليه السلام: ﴿واصنع الفلك بأعيننا﴾ (هود: ٣٧)
ثم بعدما عملها سماها سفينة فقال تعالى: ﴿فأنجيناه وأصحاب السفينة﴾ (العنكبوت: ١٥)
قال الرازي: فالفلك أولاً ثم السفينة ثم الجارية ا. هـ. والمرأة المملوكة تسمى أيضاً جارية لأنّ شأنها الجري والسعي في حوائج سيدها بخلاف الزوجة فهي من الصفات الغالبة.
والسفينة فعليه بمعنى فاعله عند ابن دريد؛ كأنها تسفن الماء وفعيلة بمعنى مفعولة عند غيره بمعنى مسفونة وقوله تعالى: ﴿في البحر﴾ متعلق بالمنشآت وقوله تعالى: ﴿كالأعلام﴾ حال إمّا من الضمير المستكن في المنشآت وإمّا من الجواري وكلاهما بمعنى واحد؛ والأعلام الجبال والعلم الجبل الطويل علماً على الأرض قال القائل:
*إذا قطعنا علماً بدا لنا علم*
وقال آخر:
*ربما أوفيت في علم... ترفعن ثوبى شمالات*
وقالت الخنساء في أخيها صخر:
*وإن صخراً لتأتمّ الهداة به... كأنه علم في رأسه نار*
أي: جبل فالسفن في البحر كالجبال في البرّ؛ وجمع الجواري. ووحد البحر وجمع الأعلام إشارة إلى عظمة البحر.
﴿فبأي آلاء﴾ أي: نعم ﴿ربكما﴾ العظمى التي عمت خلقه ﴿تكذبان﴾ أبتلك النعم من خلق موادّ السفن والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر وأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها غيره أم غيرها؟.
وقوله تعالى: ﴿كل من عليها فان﴾ أي: هالك غلب فيه من يعقل على غيره وجميعهم مراد؛ والضمير في عليها للأرض قال بعضهم: وإن لم يجر لها ذكر كقوله تعالى: ﴿حتى توارت بالحجاب﴾ (ص: ٣٢)
ورد هذا بأنه قد تقدّم ذكرها في قوله تعالى: ﴿والأرض وضعها﴾ (الرحمن: ١٠)
وقيل: الضمير عائد إلى الجواري.
قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة: هلكت أهل الأرض فنزل: ﴿كل شيء هالك إلا وجهه﴾ فأيقنت الملائكة بالهلاك.
فإن قيل: الكلام في تعدّد النعم فأين النعمة في فناء الخلق؟ أجيب: بأنها التسوية بينهم في الموت والموت سبب للنقل إلى دار الجزاء والثواب.
﴿ويبقى﴾ أي: بعد فناء الكل بقاء مستمرّا إلى ما لا نهاية له ﴿وجه ربك﴾ أي: ذاته فالوجه عبارة عن وجود ذاته. قال ابن عباس: الوجه عبارة عنه.
فإن قيل كيف خاطب الاثنين بقوله: ﴿فبأي آلاء ربكما تكذبان﴾ وخاطب ههنا الواحد فقال: ﴿ويبقى وجه ربك﴾ ولم يقل وجه


الصفحة التالية
Icon