وطالوت ولم يجتمعا لأحد قبله بل كان الملك في سبط والنبوّة في سبط وقيل: الملك والحكمة العلم والعمل.
﴿وعلمه مما يشاء﴾ كصنعة الدروع كان يصنعها ويبيعها، وكان لا يأكل إلا من عمل يده، ومنطق الطير والصوت الطيب، والألحان، ولم يعط الله تعالى أحداً من خلقه مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها، وتظله الطير ويركد الماء الجاري ويسكن الريح والسلسلة، كان لا يمسها ذو عاهة إلا برأ، وكانوا يتحاكمون إليها بعده إلى أن رفعت، فمن تعدى على صاحبه وأنكر له حقاً أتى السلسلة، فمن كان صادقاً مد يده إليها فتناولها، ومن كان كاذباً لم ينلها وكان ذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخديعة، فأودع بعض ملوكهم رجلاً جوهرة ثمينة فلما طلبها منه أنكرها، فتحاكما إلى السلسلة فعمد الذي عنده الجوهرة، إلى عكازة فنقرها وضمنها الجوهرة واعتمد عليها حتى حضر السلسلة فقام صاحب الجوهرة فتناول السلسلة بيده ثم قام المنكر وقال لصاحب الجوهرة: خذ عكازتي هذه فاحفظها حتى أتناول السلسلة فقال الرجل: اللهمّ إن كنت تعلم أنّ الوديعة التي يدعيها قد وصلت إليه فقرب مني السلسلة فمدّ يده فتناولها فتعجب القوم وشكوا فيها، فأصبحوا وقد رفع الله السلسلة.
﴿ولولا دفع الله الناس بعضهم﴾ بدل بعض من الناس ﴿ببعض﴾ أي: ولولا دفع الله بجنود المسلمين الكفار ﴿لفسدت الأرض﴾ بغلبة المشركين وقتل المسلمين، وتخريب المساجد، أو لفسدت الأرض بشؤم الكفر فيكون المعنى: ولولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لهلكت الأرض بمن فيها ولكن الله يدفع بالمؤمن عن الكافر وبالصالح عن الفاجر.
وقد روي أنّ الله عز وجلّ ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء ثم قرأ ابن عمر الآية.
وروي عن ابن عباس أنه قال: «يدفع الله تعالى بمن يصلي، عمن لا يصلي وبمن يحج، عمن لا يحج وبمن يزكي عمن لا يزكي» وعن جابر بن عبد الله «أنّ الله ليصلح بصلاح الرجل المسلم ولده وولد ولده، وأهل دويرته ودويرات حوله، ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم». وعن ابن مسعود «أنّ لله عز وجلّ في الخلق ثلثمائة قلوبهم على قلب آدم، ولله في الخلق أربعون قلوبهم على قلب موسى، ولله في الخلق سبعة قلوبهم على قلب إبراهيم، ولله في الخلق خمسة قلوبهم على قلب جبرائيل، ولله في الخلق ثلاثة قلوبهم على قلب ميكائيل، ولله في الخلق واحد قلبه في قلب إسرافيل، فإذا مات الواحد أبدل الله مكانه من الثلاثة وإذا مات واحد من الثلاثة أبدل الله مكانه من الخمسة، وإذا مات واحد من الخمسة أبدل الله مكانه من السبعة، وإذا مات واحد من السبعة أبدل الله مكانه من الأربعين، وإذا مات واحد من الأربعين أبدل الله مكانه من الثلثمائة، وإذا مات واحد من الثلثمائة أبدل الله مكانه من العامّة فيهم يحيي ويميت قال: لأنهم يسألون الله إكثار الأمم فيكثرون ويدعون على الجبابرة فينقصمون ويستسقون، فيسقون ويسألون فتنبت لهم الأرض ويدعون فيدفع الله أنواع البلاء».
﴿ولكن الله ذو فضل على العالمين﴾ أي: كلهم أوّلاً بالإيجاد، وثانياً بالدفاع، فهو يكف عن ظلم الظلمة، إمّا بعضهم ببعض أو بالصالحين ويسبغ عليهم غير ذلك من أنواع نعمه ظاهرة وباطنة.
﴿تلك﴾ أي: هذه الآيات التي قصصناها عليك من حديث الأوّلين، وتمليك طالوت وإتيان
عباس قال: إنّ لله لوحاً محفوظاً مسيرته خمسمائة عام من درّة بيضاء له دفتان من ياقوتة لله فيه في كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب. وسأل ابن عباس كعباً عن أمّ الكتاب فقال: علم الله ما هو خالق وما خلقه. ولما كان من مقترحاتهم وطلباتهم استهزاء استعجال السيئة مما توعدوا به وكانت النفس ربما تمنت وقوع ذلك البعض وإثباته ليؤمن به غيره تقريباً لفصل النزاع قال تعالى:
﴿وإما نرينك﴾ يا محمد وأكده بتأكيد للإعلام بأنه لا حرج عليه في ضلال من ضل بعد إبلاغه ﴿بعض الذي نعدهم﴾، أي: من العذاب وأنت حيّ مما تريد، أو تريد أصحابك قبل وفاتك فذلك شافيك من أعدائك، والوعد الخبر عن خير مضمون، والوعيد الخبر عن شر مضمون والمعنى عليه وسماه وعداً لتنزيلهم إياه في طلب نزوله منزلة الوعد ﴿أو نتوفينك﴾، أي: قبل أن نرينك ذلك فلا لوم عليك ولا عتب ﴿فإنما عليك البلاغ﴾، أي: ليس عليك إلا تبليغ الرسالة إليهم، وليس عليك أن تجازيهم ولا أن تأتيهم بالمقترحات، والبلاغ، اسم أقيم مقام التبليغ، وأمّا فيه إدغام نون أن الشرطية في ما الزائدة. ﴿وعلينا الحساب﴾، أي: علينا أن نحاسبهم يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم، فلا تحتفل بإعراضهم ولا تستعجل بعذابهم.
تنبيه: قال أبو حيان: هنا شرطان؛ لأنّ المعطوف على الشرط شرط، فيقدّر لكل شرط، ما يناسب أن يكون جزاء مرتباً عليه والتقدير: وإمّا نرينك بعض الذي نعدهم، فذلك شافيك من أعدائك، وإمّا نتوفينك قبل حلوله بهم فلا لوم عليك ولا عتب، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك ولما وعد الله تعالى نبيه محمداً ﷺ بأن يريه بعض ما يعده أو يتوفاه قبل ذلك بين تعالى آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت وقويت بقوله تعالى:
﴿أو لم يروا﴾، أي: كفار مكة ﴿أنّا نأت الأرض﴾، أي: نقصد أرض هؤلاء الكفرة ﴿ننقصها من أطرافها﴾ بما يفتح الله تعالى على المسلمين من ديار الشرك أرضاً بعد أرض حوالي أرضهم، هذا قول ابن عباس وقتادة وجماعة. وقال مجاهد: هو خراب الأرض وقبض أهلها. وعن عكرمة قال: هو قبض الناس. وعن الشعبي مثله، وعطاء وجماعة نقصانها موت العلماء وذهاب الفقهاء، ويؤيد هذا ما رواه عمرو بن العاص أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا». وقال الحسن: قال عبد الله بن مسعود: عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه ذهاب أهله. وقال عليّ: إنما مثل الفقهاء كمثل الأنف إذا قطعت لم تعد. وقال سليمان: لا يزال الناس بخير ما بقي الأوّل حتى يتعلم الآخر، وإذا هلك الأوّل قبل أن يتعلم الآخر هلك الناس. وقيل لسعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس؟ قال: هلاك علمائهم، ثم أثبت تعالى لنفسه أمراً كلياً فقال: ﴿والله﴾، أي: الملك الأعلى. ﴿يحكم﴾ في خلقه بما يريد؛ لأنه ﴿لا معقب﴾، أي: راد؛ لأنّ التعقيب ردّ الشيء بعد فصله ﴿لحكمه﴾ وقد حكم للإسلام بالإقبال وعلى الكفر بالإدبار، وذلك كائن لا يمكن تغييره.
تنبيه: محل جملة لا معقب لحكمه النصب على الحال كأنه قيل: والله يحكم نافذاً حكمه كما تقول: جاءني زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة تريد حاسراً ﴿وهو﴾ عز
الأرض لا تخرج عن مكانها الذي هي فيه، وإنما أفرد السماء والأرض لأنّ السماء الأولى والأرض الأولى لا تقبل النزاع؛ لأنها مشاهدة مع صلاحية اللفظ بالكل لأنه جنس.
تنبيه: ذكر تعالى من كل باب أمرين أما من الأنفس فقوله تعالى ﴿خلقكم﴾ ﴿وخلق لكم﴾ واستدل بخلق الزوجين، ومن الآفاق السماء والأرض فقال تعالى ﴿خلق السموات والأرض﴾ (الروم: ٢٢)
ومن لوازم الإنسان اختلاف اللسان واختلاف الألوان ومن عوارض الآفاق البرق والأمطار، ومن لوازمهما قيام السماء والأرض؛ لأنّ الواحد يكفي للإقرار بالحق والثاني يفيد الاستقرار، ومن هذا اعتبر شهادة شاهدين، فإنّ قول أحدهما يفيد الظنّ وقول الآخر يفيد تأكيده ولهذا قال إبراهيم عليه السلام ﴿بلى ولكن ليطمئن قلبي﴾ (البقرة: ٢٦٠)
فإن قيل: ما الفائدة في قوله تعالى هنا ﴿ومن آياته أن تقوم﴾ (الروم: ٢٥)
وقال تعالى قبله ﴿ومن آياته يريكم البرق﴾ (الروم: ٢٤)
ولم يقل أن يريكم ليصير كالمصدر بأن؟ أجيب: بأنّ القيام لما كان غير معتبر أخرج الفعل بأن عن الفعل المستقبل ولم يذكر معه الحروف المصدرية، فإن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى ذكر ست دلائل وذكر في أربع منها ﴿إنّ في ذلك لآيات﴾ (يونس: ٦٧)
ولم يذكر في الأوّل وهو قوله تعالى ﴿ومن آياته أن خلقكم من تراب﴾ ولا في الآخر وهو قوله ﴿من آياته أن تقوم السماء والأرض﴾ (الروم: ٢٥)
أجيب: عن ذلك: أما عن الأوّل فلأنّ قوله بعده ﴿ومن آياته أن خلق لكم﴾ (الروم: ٢١)
أيضاً دليل الأنفس فخلق الأنفس، وخلق الأزواج من باب واحد على ما تقدّم من أنه تعالى ذكر من كل باب أمرين للتقرير والتوكيد، فلما قال في الثانية إنّ في ذلك لآيات كان عائداً إليهما، وأمّا في قيام السماء والأرض فلأنه ذكر في الآيات السماوية أنها آيات للعالمين ولقوم يعقلون وذلك لظهورها، فلما كان في أوّل الأمر ظاهراً ففي آخر الأمر بعد سرد الأدلة يكون أظهر فلم يميز أحداً في ذلك عن الآخر، ثم إنه تعالى لما ذكر الدليل على القدرة والتوحيد ذكر مدلوله وهو قدرته على الإعادة بقوله تعالى: ﴿ثم إذا دعاكم﴾ وأشار إلى هوان ذلك القول عنده بقوله عز وجل ﴿دعوة﴾ أي: واحدة ﴿من الأرض﴾ بأن ينفخ إسرافيل في الصور للبعث من القبور فيها فيقول: أيها الموتى اخرجوا ﴿إذا أنتم تخرجون﴾ أي: منها أحياء بعد اضمحلالكم بالموت والبلا فلا تبقى نسمة من الأوّلين والآخرين إلا قامت تنظر كما قال تعالى ﴿ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون﴾ (الزمر: ٦٨)
فإن قيل: بم يتعلق من الأرض بالفعل أم بالمصدر؟ أجيب: بهيهات إذا جاء نهر الله وهو الفعل بطل نهر معقل وهو المصدر، وثم إما لتراخي زمانه أو لعظم ما فيه. فإن قيل: ما الفرق بين إذا وإذا؟ أجيب: بأنّ الأولى للشرط والثانية للمفاجأة وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط، ولذلك نابت مناب الفاء في جواب الأولى.
تنبيه: قال ههنا: إذا أنتم تخرجون وقال تعالى في خلق الإنسان أوّلاً ثم إذا أنتم بشر، تنتشرون لأنّ هناك يكون خلق وتقدير وتدريج حتى يصير التراب قابلاً للحياة فينفخ فيه روحه فإذا هو بشر، وأمّا في الإعادة فلا يكون تدريج وتراخ بل يكون بدء خروج فلم يقل ههنا ثم، ولما ذكر تعالى الآيات التي تدلّ على القدرة على الحشر الذي هو الأصل الآخر والوحدانية التي هي الأصل الأوّل أشار إليهما بقوله تعالى:
﴿وله من في السموات والأرض﴾ ملكاً وخلقاً ﴿كل له قانتون﴾ قال ابن عباس: كل له
ربكما؟ أجيب: بأنّ الإشارة ههنا وقعت إلى كل أحد فقال: ويبقى وجه ربك أيها السامع ليعلم كل أحد أنّ غيره فان فلو قال: ويبقى وجه ربكما لكان كل أحد يخرج نفسه ورفيقه؛ المخاطب عن الفناء، فإن قيل: فلو قال: ويبقى وجه الرب من غير خطاب كان أدل على فناء الكل؛ أجيب: بأن كاف الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف، والإبقاء إشارة إلى القهر والموضع موضع بيان اللطف وتعديد النعم، فلهذا قال: بلفظ الرب وكاف الخطاب
ولما ذكر تعالى مباينته للمخلوقات وصف نفسه بالإحاطة الكاملة فقال تعالى: ﴿ذو الجلال﴾ أي: العظمة التي لا ترام وهو صفة ذاته التي تقتضي إجلاله عن كل ما لا يليق به ﴿والإكرام﴾ أي: الإحسان العام وهو صفة فعله مع جلاله وعظمته.
﴿فبأي آلاء﴾ أي: نعم ﴿ربكما﴾ أي: المربى لكما على هذا الوجه الذي مآله إلى العدم إلى أجل مسمى ﴿تكذبان﴾ أبتلك النعم من بقاء الرب وفناء الكل والحياة الدائمة والنعيم المقيم أم بغيرها؟.
وقوله تعالى: ﴿كل من عليها فان﴾ أي: هالك غلب فيه من يعقل على غيره وجميعهم مراد؛ والضمير في عليها للأرض قال بعضهم: وإن لم يجر لها ذكر كقوله تعالى: ﴿حتى توارت بالحجاب﴾ (ص: ٣٢)
ورد هذا بأنه قد تقدّم ذكرها في قوله تعالى: ﴿والأرض وضعها﴾ (الرحمن: ١٠)
وقيل: الضمير عائد إلى الجواري.
قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة: هلكت أهل الأرض فنزل: ﴿كل شيء هالك إلا وجهه﴾ فأيقنت الملائكة بالهلاك.
فإن قيل: الكلام في تعدّد النعم فأين النعمة في فناء الخلق؟ أجيب: بأنها التسوية بينهم في الموت والموت سبب للنقل إلى دار الجزاء والثواب.
﴿ويبقى﴾ أي: بعد فناء الكل بقاء مستمرّا إلى ما لا نهاية له ﴿وجه ربك﴾ أي: ذاته فالوجه عبارة عن وجود ذاته. قال ابن عباس: الوجه عبارة عنه.
فإن قيل كيف خاطب الاثنين بقوله: ﴿فبأي آلاء ربكما تكذبان﴾ وخاطب ههنا الواحد فقال: ﴿ويبقى وجه ربك﴾ ولم يقل وجه ربكما؟ أجيب: بأنّ الإشارة ههنا وقعت إلى كل أحد فقال: ويبقى وجه ربك أيها السامع ليعلم كل أحد أنّ غيره فان فلو قال: ويبقى وجه ربكما لكان كل أحد يخرج نفسه ورفيقه؛ المخاطب عن الفناء، فإن قيل: فلو قال: ويبقى وجه الرب من غير خطاب كان أدل على فناء الكل؛ أجيب: بأن كاف الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف، والإبقاء إشارة إلى القهر والموضع موضع بيان اللطف وتعديد النعم، فلهذا قال: بلفظ الرب وكاف الخطاب
ولما ذكر تعالى مباينته للمخلوقات وصف نفسه بالإحاطة الكاملة فقال تعالى: ﴿ذو الجلال﴾ أي: العظمة التي لا ترام وهو صفة ذاته التي تقتضي إجلاله عن كل ما لا يليق به ﴿والإكرام﴾ أي: الإحسان العام وهو صفة فعله مع جلاله وعظمته.
﴿فبأي آلاء﴾ أي: نعم ﴿ربكما﴾ أي: المربى لكما على هذا الوجه الذي مآله إلى العدم إلى أجل مسمى ﴿تكذبان﴾ أبتلك النعم من بقاء الرب وفناء الكل والحياة الدائمة والنعيم المقيم أم بغيرها؟.
وقوله تعالى: ﴿كل من عليها فان﴾ أي: هالك غلب فيه من يعقل على غيره وجميعهم مراد؛ والضمير في عليها للأرض قال بعضهم: وإن لم يجر لها ذكر كقوله تعالى: ﴿حتى توارت بالحجاب﴾ (ص: ٣٢)
ورد هذا بأنه قد تقدّم ذكرها في قوله تعالى: ﴿والأرض وضعها﴾ (الرحمن: ١٠)
وقيل: الضمير عائد إلى الجواري.
قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة: هلكت أهل الأرض فنزل: ﴿كل شيء هالك إلا وجهه﴾ فأيقنت الملائكة بالهلاك.
فإن قيل: الكلام في تعدّد النعم فأين النعمة في فناء الخلق؟ أجيب: بأنها التسوية بينهم في الموت والموت سبب للنقل إلى دار الجزاء والثواب.
﴿ويبقى﴾ أي: بعد فناء الكل بقاء مستمرّا إلى ما لا نهاية له ﴿وجه ربك﴾ أي: ذاته فالوجه عبارة عن وجود ذاته. قال ابن عباس: الوجه عبارة عنه.
فإن قيل كيف خاطب الاثنين بقوله: ﴿فبأي آلاء ربكما تكذبان﴾ وخاطب ههنا الواحد فقال: ﴿ويبقى وجه ربك﴾ ولم يقل وجه ربكما؟ أجيب: بأنّ الإشارة ههنا وقعت إلى كل أحد فقال: ويبقى وجه ربك أيها السامع ليعلم كل أحد أنّ غيره فان فلو قال: ويبقى وجه ربكما لكان كل أحد يخرج نفسه ورفيقه؛ المخاطب عن الفناء، فإن قيل: فلو قال: ويبقى وجه الرب من غير خطاب كان أدل على فناء الكل؛ أجيب: بأن كاف الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف، والإبقاء إشارة إلى القهر والموضع موضع بيان اللطف وتعديد النعم، فلهذا قال: بلفظ الرب وكاف الخطاب
ولما ذكر تعالى مباينته للمخلوقات وصف نفسه بالإحاطة الكاملة فقال تعالى: ﴿ذو الجلال﴾ أي: العظمة التي لا ترام وهو صفة ذاته التي تقتضي إجلاله عن كل ما لا يليق به ﴿والإكرام﴾ أي: الإحسان العام وهو صفة فعله مع جلاله وعظمته.
﴿فبأي آلاء﴾ أي: نعم ﴿ربكما﴾ أي: المربى لكما على هذا الوجه الذي مآله إلى العدم إلى أجل مسمى ﴿تكذبان﴾ أبتلك النعم من بقاء الرب وفناء الكل والحياة الدائمة والنعيم المقيم أم بغيرها؟.
الكتاب: السراج المنير للخطيب الشربينى
وقوله تعالى: ﴿يسأله من في السموات﴾ أي: كلها كلهم ﴿والأرض﴾ كذلك مستأنف وقيل: حال من وجه والعامل فيه يبقى أي: يبقى مسؤولاً من أهل السموات والأرض بلسان الحال أو المقال أو بهما. قال ابن عباس وأبو صالح: أهل السموات يسألونه المغفرة ولا يسألونه الرزق، وأهل الأرض يسألونهما جميعاً. وقال ابن جريج: يسأله الملائكة الرزق لأهل الأرض فكانت المسألتان جميعاً من أهل السماء وأهل الأرض لأهل الأرض كما في الحديث، قال القرطبي: وفي الحديث: «إن من الملائكة ملكاً له أربعة أوجه وجه كوجه الإنسان يسأل الله تعالى الرزق لبني آدم، ووجه كوجه الأسد وهو يسأل الله تعالى الرزق للسباع، ووجه كوجه الثور وهو يسأل الله تعالى الرزق للبهائم، ووجه كوجه النسر وهو يسأل الله تعالى الرزق للطير». وقال ابن عطاء: إنهم يسألوه القوّة على العبادة. وقوله تعالى: ﴿كل يوم﴾ منصوب بالاستقرار الذي تضمنه الخبر وهو قوله تعالى: ﴿هو في شان﴾ والشأن الأمر روى أبو الدرداء: عن النبيّ ﷺ قال: «كل يوم هو في شان قال من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كربة ويرفع أقواماً ويضع آخرين». وعن ابن عمر: عن النبيّ ﷺ قال: «يفغر ذنباً ويكشف كرباً ويجيب داعياً». وقال أكثر المفسرين من شأنه أنه يحيي ويميت ويرزق ويعزّ قوماً ويذل قوماً ويشفي قوماً ويفرج مكروباً ويجيب داعياً ويعطي سائلاً ويغفر ذنباً إلى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء. وروى البغوي: عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: «إنّ مما خلق الله عز وجل لوحاً من درّة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور وكلماته نور ينظر الله تعالى فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعزّ ويذلّ ويفعل ما يشاء»، فذلك قوله تعالى: ﴿كل يوم هو في شان﴾.
وقال سفيان بن عيينة: الدهر كله عند الله تعالى يومان أحدهما: اليوم الذي هو مدّة عمر الدنيا فشأنه فيه أي: في كل يوم من أيامها الأمر والنهي والإماتة والإحياء والاعطاء والمنع، والثاني: يوم القيامة وشأنه فيه الجزاء والحساب والثواب والعقاب. وقال أبو سليمان الداراني: في هذه الآية له في كل يوم إلى العبيد برّ جديد.
وقال بعض المفسرين: شأنه تعالى أنه يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر عسكراً من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمّهات، وعسكراً من الأرحام إلى الدنيا، وعسكراً