بعثني قالت: فإنّ عزيراً كان رجلاً مستجاب الدعوة يدعو للمريض وصاحب البلاء بالعافية، فادع الله أن يردّ عليّ بصري حتى أراك، فإن كنت عزيراً عرفتك، فدعا ربه ومسح يده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها فقال: قومي بإذن الله تعالى، فأطلق الله رجليها فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال، فنظرت إليه فقالت: أشهد أنك عزير فانطلقت إلى بني إسرائيل، وهم في أنديتهم ومجالسهم وابن العزير شيخ ابن مائة سنة وثمان عشرة سنة، وبنو بنيه شيوخ في المجلس، قال الضحاك: عاد إلى قريته شاباً وأولاده وأولاد أولاده شيوخ وعجائز، وهو أسود الرأس واللحية، فقالت: هذا عزير قد جاءكم فكذبوها فقالت: أنا فلانة مولاتكم دعا لي ربه فردّ عليّ بصري وأطلق رجلي، وزعم أنّ الله أماته مائة عام ثم بعثه، فنهض الناس وأقبلوا عليه ونظروا إليه، وقال ابنه: كان لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه، فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير، فقال بنو إسرائيل: فإنه لم يكن فينا أحد حفظ التوراة فيما حدثنا غير عزير، فقرأ لهم التوراة من الحفظ ولم يحفظها أحد قبله، فعرفوه بذلك وقالوا: هو ابن الله.u
وسيأتي الكلام على ذلك في سورة براءة إن شاء الله تعالى.
﴿فلما تبين له﴾ ذلك بالمشاهدة وفاعل تبين مضمر تقديره: فلما تبيّن له أنّ الله على كل شيء قدير ﴿قال أعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير﴾ فحذف من الأوّل لدلالة الثاني عليه كما في قولهم: ضربني وضربت زيداً، وقرأ حمزة والكسائيّ بوصل الهمزة قبل العين وسكون الميم، والباقون بقطع الهمزة ورفع الميم.
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَاكِن لِّيَطْمئِنَّ قَلْبِى قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا؟ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَن؟بَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُن؟بُلَةٍ مِّا؟ئَةُ حَبَّةٍ؟ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ؟ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُوا؟ مَنًّا وَ؟ أَذًى؟ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَخَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى؟ وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَلِيمٌ * يَ؟اأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا؟ تُبْطِلُوا؟ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَا؟ذَى كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ؟ رِئَآءَ النَّاسِ وَيُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ ا؟خِرِ؟ فَمَثَلُهُ؟ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ؟ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ؟ صَلْدًا؟ s يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا؟؟ وَاللَّهُ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾
﴿و﴾ اذكر ﴿إذ قال إبراهيم رب أرني﴾ أي: أبصرني، قرأ ابن كثير والسوسي بسكون الراء من أرني، وقرأ الدوريّ باختلاس الكسرة، والباقون بكسرة كاملة ﴿كيف تحيي الموتى﴾ قال الحسن وقتادة والضحاك: كان سبب هذا السؤال من إبراهيم عليه السلام أنه مرّ على دابة ميتة، قال ابن جرير: كانت جيفة حمار فرآها وقد توزعتها دواب البحر والبرّ، فكانت إذا مدّ البحر جاءت الحيتان ودواب البحر فأكلت منها، وما وقع منها، يصير في البحر وإذا انحسر البحر جاءت السباع فأكلت منها وما وقع منها يصير تراباً فإذا ذهبت السباع جاءت الطير فأكلت منها وما سقط قطعته الريح في الهواء، فلما رأى ذلك إبراهيم تعجب منها وقال: يا رب قد علمت أنك لتجمعها من بطون السباع وحواصل الطير وأجواف دواب البحر، فأرني كيف تحييها فأزداد يقيناً فعابه الله بقوله:
﴿قال أولم تؤمن﴾ بقدرتي على الإحياء سأله مع علمه بإيمانه بذلك ليجيب بما أجاب به، فيعلم السامعون غرضه ﴿قال بلى﴾ يا رب آمنت ﴿ولكن ليطمئن قلبي﴾ أي: ليسكن قلبي إلى المعاينة والمشاهدة، أراد أن يصير له بعد علم اليقين عين اليقين، فإن العيان يفيد في المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال.
وأمّا قوله ﷺ «نحن أحق بالشك من إبراهيم ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي» فقال أبو سسليمان الخطابي: ليس فيه اعتراف بالشك على نفسه ولا على إبراهيم لكن فيه نفي الشك عنهما يقول: إذا لم أشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى بأن لا يشك، وقال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس، وكذلك قوله: ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف، وقيل: سبب سؤاله أنه لما قال له نمروذ أنا أحيي وأميت قال له: إن إحياء الله بردّ الروح إلى بدنها، فقال نمروذ: هل عاينته فلم يقدر أن يقول: نعم، وانتقل إلى تقرير آخر ثم سأل ربه أن يريه ليطمئن قلبه في الجواب إن سئل عنه مرّة
القول أو أجرى الايحاء مجرى القول؛ لأنه ضرب منه.
﴿ولنسكننكم الأرض﴾، أي: أرضهم ﴿من بعدهم﴾، أي: بعد هلاكهم ونظيره قوله تعالى: ﴿وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها﴾ (الأعراف، ١٣٧)
وقوله تعالى: ﴿وأورثكم أرضهم وديارهم﴾ (الأحزاب، ٢٧)
. قال الزمخشري: وعن النبيّ ﷺ «من آذى جاره ورثه الله داره». قال: ولقد عاينت هذا في مدّة قريبة كان لي خال يظلمه عظيم القرية التي أنا فيها ويؤذيني فيه فمات ذلك العظيم، وملكني الله ضيعته، فنظرت يوماً إلى أبناء خالي يتردّدون، منها ويأمرون وينهون فذكرت قول رسول الله ﷺ وحدثتهم به وسجدنا شكراً لله تعالى. ﴿ذلك﴾، أي: النصر وإيراث الأرض ﴿لمن خاف مقامي﴾، أي: موقفي وهو موقف الحساب؛ لأنّ ذلك الموقف موقف الله الذي يوقف فيه عباده يوم القيامة ونظيره ﴿وأمّا من خاف مقام ربه﴾ (النازعات، ٤٠)
وقوله تعالى: ﴿ولمن خاف مقام ربه جنتان﴾ (الرخمن، ٤٦)
وقيل: ﴿ذلك لمن خاف مقامي﴾ (إبراهيم، ١٤)، أي: خافني، فالمقام مقحم مثل ما يقال: سلام على المجلس العالي والمراد السلام على فلان ﴿وخاف وعيد﴾ قال ابن عباس: ما أوعدت من العذاب، وهذا يدل على أنّ الخوف من الله غير الخوف من وعيده؛ لأنّ العطف يقتضي المغايرة، وفي تفسير قوله تعالى:
﴿واستفتحوا﴾ قولان: أحدهما: طلب الفتح، أي: واستنصروا الله تعالى على أعدائهم وهو كقوله تعالى: ﴿إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح﴾ (الأنفال، ١٩)
والثاني: الفتح الحكم والقضاء، أي: واستحكموا الله وسألوه القضاء بينهم، وهو مأخوذ من الفتاحة، وهي الحكومة كقوله تعالى: ﴿ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق﴾ (الأعراف، ٨٩)
. فعلى القول الأول المستفتح هم الرسل؛ لأنهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب لما أيسوا من إيمانهم. قال نوح: ﴿رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً﴾ (نوح، ٢٦)
وقال موسى: ﴿ربنا اطمس على أموالهم﴾ (يونس، ٨٨)
وقال لوط: ﴿انصرني على القوم المفسدين﴾ (العنكبوت، ٣٠)
. وعلى القول الثاني: قال الرازي: فالأولى أن يكون المستفتح هم الأمم وذلك أنهم قالوا: اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين، فعذبنا، ومنه قول كفار ﴿قريش: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء﴾ (الأنفال، ٣٢)
. وكقول آخرين: ﴿ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين﴾ (العنكبوت، ٢٩)
. ﴿وخاب﴾، أي: خسر وهلك ﴿كل جبار﴾، أي: متكبر عن طاعة الله، وقيل: هو الذي لا يرى فوقه أحداً، وقيل: هو المتعظم في نفسه المتكبر على أقرانه، واختلفوا في قوله تعالى: ﴿عنيد﴾ فقال مجاهد: معاند للحق ومجانبه. وقال ابن عباس: هو المعرض عن الحق. وقال مقاتل: هو المتكبر. وقال قتادة: هو الذي يأبى أن يقول لا إله إلا الله، وقيل: هو المعجب بما عنده. ولما حكم تعالى على الكافر بالخيبة، ووصفه بكونه جباراً عنيداً وصف كيفية عذابه بأمور: الأوّل: قوله تعالى:
﴿من ورائه﴾، أي: أمامه ﴿جهنم﴾، أي: هو صائر إليها. قال أبو عبيدة: هو من الأضداد وقال الشاعر:
*عسى الكرب الذي أمسيت فيه
... يكون وراءه فرج قريب
ويقال أيضاً: الموت وراء كل أحد. وقال تعالى: ﴿وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً﴾ (الكهف، ٧٩)، أي: أمامهم. وقال ثعلب: هو اسم لما توارى عنك سواء كان خلفك أم قدامك، فيصح إطلاق لفظ الوراء على خلف وقدّام. وقال ابن الأنباري: وراء بمعنى بعد. قال الشاعر: وليس وراء الله للخلق مهرب.
ومعنى الآية على هذا: أن الكافر بعد الخيبة يدخل جهنم.
الأمر الثاني: ما ذكره تعالى بقوله:
«اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» وقوله تعالى ﴿وليذيقكم﴾ أي: بها ﴿من رحمته﴾ أي: من نعمته من المياه العذبة والأشجار الرطبة وصحة الأبدان وما يتبع ذلك من أمور لا يحصيها إلا خالقها، معطوف على مبشرات على المعنى كأنه قيل: ليبشركم وليذيقكم، أو على علة محذوفة دل عليها مبشرات، أو على يرسل بإضمار فعل معلل دل عليه أي: وليذيقكم أرسلها ﴿ولتجري الفلك﴾ أي: السفن في جميع البحار وما جرى مجراها عند هبوبها، وإنما زاد ﴿بأمره﴾ لأن الريح قد تهب ولا تكون موافقة فلا بدّ من إرساء السفن والاحتيال لحبسها، وربما عصفت وأغرقتها ﴿ولتبتغوا﴾ أي: تطلبوا ﴿من فضله﴾ من رزقه بالتجارة في البحر ﴿ولعلكم﴾ أي: ولتكونوا إذا فعل بكم ذلك على رجاء من أنكم ﴿تشكرون﴾ على ما أنعم عليكم من نعمه ودفع عنكم من نقمه.
تنبيه: قال تعالى في ظهر الفساد ﴿ليذيقهم بعض الذي عملوا﴾ (الروم: ٤١)
وقال ههنا ﴿وليذيقكم من رحمته﴾ فخاطبهم ههنا تشريفاً ولأنّ رحمته قريب من المحسنين وحينئذ فالمحسن قريب فيخاطب، والمسيء بعيد فلم يخاطب، وقال هناك ﴿بعض الذي عملوا﴾ فأضاف ما أصابهم إلى أنفسهم وأضاف ما أصاب المؤمن إلى رحمته فقال تعالى: ﴿من رحمته﴾ لأنّ الكريم لا يذكر لرحمته وإحسانه عوضاً فلا يقول: أعطيتك لأنك فعلت كذا بل يقول: هذا لك مني، وأما ما فعلت من الحسنة فجزاؤه بعد عندي. وأيضاً فلو قال: أرسلت لسبب فعلكم لا يكون بشارة عظيمة، وأما إذا قال: من رحمته كان غاية البشارة، وأيضاً فلو قال: بما فعلتم لكان ذلك موهماً لنقصان ثوابهم في الآخرة، وأما في حق الكفار فإذا قال: بما فعلتم أنبأ عن نقصان عقابهم وهو كذلك وقال هناك ﴿لعلهم يرجعون﴾ وقال هنا: ﴿ولعلكم تشكرون﴾ فالواو إشارة إلى توفيقهم للشكر في النعم، وعطف على النعم قوله تعالى:
﴿ولقد أرسلنا﴾ أي: بما لنا من القوة. وقال تعالى ﴿من قبلك رسلاً﴾ تنبيهاً على أنه خاتم النبيين بتخصيص إرسال غيره بما قبل زمانه وقال ﴿إلى قومهم﴾ إعلاماً بأنّ أمر الله إذا جاء لا ينفع فيه قريب ولا بعيد ﴿فجاؤهم بالبينات﴾ فانقسم قومهم إلى مسلمين ومجرمين ﴿فانتقمنا﴾ أي: فكانت معاداة المسلمين للمجرمين فينا سبباً؛ لأنا انتقمنا بما لنا من العظمة ﴿من الذين أجرموا﴾ أي: أهلكنا الذين كذبوهم لإجرامهم وهو قطع ما أمرناهم بوصله، ولما كان محط الفائدة إلزامه سبحانه لنفسه بما تفضل به قدمه تعجيلاً للسرور وتطييباً للنفوس فقال تعالى ﴿وكان﴾ أي: على سبيل الثبات والدوام ﴿حقاً علينا﴾ أي: مما أوجبناه بوعدنا الذي لا خلف فيه ﴿نصر المؤمنين﴾ أي: العريقين في ذلك الوصف في الدنيا والآخرة، ولم يزل هذا دأبنا في كل ملة على مدى الدهر فليعتدّ هؤلاء لمثل هذا وليأخذوا لمثل ذلك أهبة لينظروا من المغلوب وهل ينفعهم شيء، روى الترمذي وحسنه عن رسول الله ﷺ أنه قال: «ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله أن يردّ عنه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا قوله تعالى ﴿وكان حقاً علينا نصر المؤمنين﴾ قال البقاعي: فالآية من الاحتباك أي: وهو أن يؤتى بكلامين يحذف من كل منهما شيء يكون نظمهما بحيث يدل ما أثبت في كلٍ على ما حذف من الآخر، فحذف أوّلاً الإهلاك الذي هو أثر الخذلان لدلالة النصر عليه، وثانياً الإنعام لدلالة الانتقام عليه، ثم نبه تعالى على كمال قدرته فهو
أي: بأي نوع من أنواع هذا الإحسان أم غيره.
﴿كأنهنّ الياقوت﴾ أي: صفاء ﴿والمرجان﴾ أي: اللؤلؤ بياضاً، والياقوت جوهر نفيس يقال إنّ النار لا تؤثر فيه، والمرجان صغار اللؤلؤ وأشدّه بياضاً؛ وقيل: شبه لونهنّ ببياض اللؤلؤ مع حمرة الياقوت لأنّ أحسن الألوان البياض المشرب بحمرة. قال ابن الخازن: والأصح أنه شبههن بالياقوت لصفائه فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكاً ثم استضأته لرأيت السلك من ظاهره لصفائه. قال عمرو بن ميمون: إنّ المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من وراء الحلل كما يرى الشراب الأحمر من الزجاجة البيضاء: يدل على صحة ذلك ما روي عن ابن مسعود عن النبيّ ﷺ أنه قال: «إنّ المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها»، وذلك لأنّ الله تعالى يقول: ﴿كأنهنّ الياقوت والمرجان﴾، فأمّا الياقوت: فإنه حجر لو أدخلت فيها سلكاً ثم استضأته لرأيته من ورائه، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر» ؛ زاد في رواية «ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دريّ في السماء إضاءة لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوّطون؛ آنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ومجامرهم الألوّة» أي: بخورهم العود ورشحهم المسك ولكلّ واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقها من وراء لحمها من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم على قلب رجل واحد».
﴿فبأي آلاء﴾ أي: نعم ﴿ربكما﴾ أي: المالك الملك المربي ببدائع التربية ﴿تكذبان﴾ أبما جعله مثالاً لما ذكر من وصفهنّ أم بغيره؟.
﴿هل جزاء الإحسان﴾ أي: بالطاعة من الإنس والجن وغيرهما ﴿إلا الإحسان﴾ أي: بالثواب؛ وقال ابن عباس: هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد ﷺ إلا الجنة؛ وعن أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله ﷺ ﴿هل جزاء الإحسان إلا الإحسان﴾ ثم قال: «أتدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: يقول: هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة».
ورى الواحدي بغير سند عن ابن عمر وابن عباس: أنّ رسول الله ﷺ قال: في هذه الآية يقول الله عز وجل هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلا أن أسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي.
﴿فبأي آلاء﴾ أي: نعم ﴿ربكما﴾ الكريم الرحيم الجامع لأوصاف الكمال ﴿تكذبان﴾ أبشيء من هذه النعم الجزيلة أم بغيرها؟.
﴿ومن دونهما﴾ أي: من أدنى مكان ورتبة تحت جنتي هؤلاء المحسنين المقربين ﴿جنتان﴾ أي: لكل واحد ممن دون هؤلاء المحسنين من الخائفين، وهم أصحاب اليمين؛ وقال أبو موسى الأشعري: جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من فضة للتابعين؛ وقال ابن جريج هي أربع جنان جنتان للمقرّبين السابقين فيهما من كل فاكهة زوجان؛ وجنتان: لأصحاب اليمين والتابعين فيهما فاكهة ونخل ورمان. وقال الكسائي ومن دونهما أي أمامهما وقبلهما يدلّ عليه قول الضحاك: الجنتان الأوليان من ذهب وفضة والأخريان من ياقوت؛ وعلى هذا فهما أفضل من الأوليين؛ وإلى هذا القول ذهب أبو عبد الله الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وقال: ومعنى ﴿ومن دونهما جنتان﴾ أي: دون هذا إلى العرش أي: أقرب وأدنى إلى العرش. وقال مقاتل: الجنتان الأوليان جنة عدن، وجنة النعيم، والأخريان الفردوس، وجنة المأوى.


الصفحة التالية
Icon