أخرى.
فإن قيل: بم تعلقت اللام في ليطمئن؟ أجيب: بأنها تعلقت بمحذوف تقديره: ولكن سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب.
وقيل: بل كان قصده بالسؤال رؤية المحيى ولكنه طلبها تلويحاً، فأجيب بالمنع منها تلويحاً، وموسى عليه الصلاة والسلام لما سألها تصريحا أجيب بالمنع تصريحاً.
قال تعالى: ﴿فخذ أربعة من الطير﴾ قال مجاهد وابن جرير: أخذ طاوساً وديكاً وحمامة وغراباً، وإنما خص الطير لأنه أقرب إلى الإنسان شبهاً، كتدوير الرأس والمشي على رجلين، وأجمع لخواص الحيوان لأنّ فيها ما يتكلم، وما يهتدي للطريق كالقطاة، وللمياه كالهدهد، وفي هذا إيماء إلى أنّ إحياء النفس بالحياة الأبدية إنما يتأتى بإماتة حب الشهوات والزخارف، التي هي صفة الطاوس والصولة المشهور بها الديك وخسة النفس، وبعد الأمل المتصف بهما الغراب والترفع والمسارعة إلى الهوى الموسوم بهما الحمام، ومنهم من ذكر النسر بدل الحمامة. وروي بدلها البطة وبدل الغراب الغرنوق.
﴿فصرهنّ﴾ أي: فأمسكهن واضممهنّ ﴿إليك﴾ قرأ حمزة بكسر الصاد والباقون بضمها.
فإن قيل: ما معنى أمره بضم الطير إلى نفسه بعد أن يأخذها؟ أجيب: بأنه ليتأمّلها ويعرف أشكالها وهيئاتها وحلاها، لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك، ولذلك قال: ﴿يأتينك سعياً﴾. وروي أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرّق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها وأن يمسك رؤوسها، ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال كما قال تعالى:
﴿ثم اجعل على كلّ جبل منهنّ جزأ﴾ واختلفوا في عدد الأجزاء والجبال، فقال ابن عباس وقتادة: أمره الله تعالى أن يجعل كل طائر أربعة أجزاء ويجعلها على أربعة أجبل، على كل جبل جزء من كل طائر، وقال السديّ وابن جريج: جزأها سبعة أجزاء ووضعها على سبعة أجبل، وأمسك رؤوسهنّ ثم دعاهنّ: تعالين بإذن الله، فجعل كل قطرة من دم طائر تصير إلى القطرة الأخرى، وكل ريشة إلى الريشة الأخرى، وكل عظم يصير إلى العظم الآخر، وإبراهيم ينظر حتى صارت جثثاً بغير رؤوس ثم أقبلن إلى رؤوسهن سعياً فالتقى كل طائر برأسه فذلك قوله تعالى: ﴿ثم أدعهنّ يأتينّك سعياً﴾ أي: سريعاً، وقيل: مشياً لأنها لو طارت لربما توهم متوهم أنها غير تلك الطير، وإنّ أرجلها غير سليمة قال البيضاويّ: وفي ذلك إشارة إلى أنّ من أراد إحياء نفسه بالحياة الأبدية فعليه أن يقبل على القوى البدنية كالشهوة والغضب فيقتلها، ويمزج بعضها ببعض حتى تنكسر سورتها فتطاوعنه مسرعات متى دعاهنّ بداعية العقل أو الشرع، وكفى لك شاهداً على فضل إبراهيم ويمنه أي: بركته حيث سلك مسلك الضراعة في الدعاء، وحسن الأدب في السؤال، أنه تعالى أراه ما أراد أن يريه في الحال على أيسر الوجوه، وأراه عزيراً بعد أن أماته مائة عام ﴿واعلم أنّ الله عزيز﴾ لا يعجز عما يريد ﴿حكيم﴾ ذو حكمة بالغة في كل ما يفعله.
﴿مثل الذين ينفقون﴾ أي: يبذلون ﴿أموالهم﴾ بطيب النفس ﴿في سبيل الله﴾ الذي له الكمال كله أي: في طاعته كمثل زراع ومثل ما ينفقون ﴿كمثل حبة﴾ مما زرعه فلا بدّ من حذف كما تقرّر أو يقال مثل نفقتهم كمثل حبة أو مثلهم كمثل باذر حبة ﴿أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة﴾ والمنبت هو الله سبحانه وتعالى، ولكن الحبة لما كانت سبباً أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم
﴿ويسقى﴾، أي: في جهنم ﴿من ماء صديد﴾ وهو ما يسيل من جوف أهل النار مختلطاً بالقيح والدم جعل ذلك شراب أهل النار. وقال محمد بن كعب: هو ما يسيل من فروج الزناة يسقاه الكافر. فإن قيل: علام عطف ﴿ويسقى﴾ ؟ أجيب: بأنه عطف على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقى من ماء صديد.
﴿يتجرّعه﴾، أي: يتكلف أن يبتلعه مرّة بعد مرّة لمرارته وحرارته ونتنه ﴿ولا يكاد يسيغه﴾، أي: ولا يقدر على ابتلاعه. قال الزمخشري: دخل كاد للمبالغة يعني ولا يقارب أن يسيغه فكيف تكون الإساغة؟ كقوله تعالى: ﴿لم يكد يراها﴾ (النو، ٤٠)، أي: لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها؟ فإن قيل: كيف الجمع على هذا الوجه بين ﴿يتجرّعه﴾ و ﴿لا يكاد يسيغه﴾ ؟ أجيب بجوابين: أحدهما: أنّ المعنى ولا يسيغ جميعه كأنه يتجرّع البعض وما أساغ الجميع. والثاني: إنّ الدليل الذي ذكر إنما دل على وصول ذلك الشراب إلى جوف ذلك الكافر؛ لأنّ ذلك ليس بإساغة؛ لأنّ الإساغة في اللغة إجراء الشراب في الحلق واستطابة المشروب، والكافر يتجرّع ذلك الشراب على كراهية ولا يسيغه، أي: لا يستطيبه ولا يشربه شرباً بمرة واحدة، وعلى هذين الوجهين يصح حمل لا يكاد على نفي المقاربة.
الأمر الثالث: ما ذكره تعالى بقوله تعالى: ﴿ويأتيه الموت﴾، أي: أسبابه المقتضية له من أنواع العذاب ﴿من كل مكان﴾، أي: من سائر الجهات، وقيل: من كل مكان من جسده حتى أصول شعره وإبهام رجله. ﴿وما هو بميت﴾ فيستريح. وقال ابن جريج: تتعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكان من جوفه فتنفعه الحياة.
الأمر الرابع: ما ذكره تعالى بقوله تعالى: ﴿ومن ورائه﴾، أي: ومن بين يديه بعد ذلك العذاب ﴿عذاب غليظ﴾، أي: شديد كل وقت يستقبله أشدّ مما قبله، وقيل: هو الخلود في النار، وقيل: هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد. ولما ذكر تعالى أنواع عذابهم بين بعده أنّ سائر أعمالهم تصير باطلة ضائعة، وذلك هو الخسران الشديد بقوله تعالى:
﴿س١٤ش١٨/ش٢٣ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا؟ بِرَبِّهِمْ؟ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ؟ s يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا؟ عَلَى شَىْءٍ؟ ذالِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَا؟رْضَ بِالْحَقِّ؟ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَبَرَزُوا؟ لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَا؟ؤُا؟ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُو؟ا؟ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَىْءٍ؟ قَالُوا؟ لَوْ هَدَ؟ـانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ؟ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ * وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِىَ ا؟مْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ؟ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِ؟ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى؟ فَ تَلُومُونِى وَلُومُو؟ا؟ أَنفُسَكُمْ؟ مَّآ أَنَا؟ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُم بِمُصْرِخِىَّ؟ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ؟ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَأُدْخِلَ الَّذِينَءَامَنُوا؟ وَعَمِلُوا؟ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ا؟نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ؟ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾
﴿مثل﴾، أي: صفة ﴿الذين كفروا بربهم أعمالهم﴾، أي: الصالحة كصدقة وصلة رحم وفك أسير، وإقراء ضيف، وبر والد في عدم الانتفاع بها ﴿كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف﴾، أي: شديد هبوب الريح، فجعلته هباء منثوراً لا يقدر عليه كما قال تعالى: ﴿لا يقدرون﴾، أي: الكفار يوم الجزاء ﴿مما كسبوا﴾، أي: عملوا في الدنيا ﴿على شيء﴾، أي: لا يجدون لهم ثواباً لفقد شرطه وهو الإيمان. وقرأ نافع (الرياح) بالجمع، والباقون بالإفراد. ﴿ذلك﴾ إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنهم محسنون ﴿هو الضلال البعيد﴾، أي: الخسران الكبير لأنّ أعمالهم ضلت وهلكت فلا يرجى عودها.
تنبيه: في ارتفاع قوله تعالى: ﴿مثل﴾ أوجه: أحدها: وهو مذهب سيبويه أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا، وتكون الجملة من قوله تعالى: ﴿أعمالهم كرماد﴾ مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول: كيف مثلهم؟ فقيل أعمالهم كرماد.
والثاني: وهو مذهب الفراء التقدير: مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد، فحذف المضاف اعتماداً على ذكره بعد المضاف إليه، وهو قوله تعالى: ﴿أعمالهم﴾ ومثله قوله تعالى: ﴿ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودّة﴾ (الزمر، ٦٠)
المعنى: ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودّة.
الثالث: أن يكون التقدير: صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد كقوله: صفة
الناصر للمؤمنين بقوله تعالى:
﴿الله﴾ أي: وحده ﴿الذي يرسل﴾ مرة بعد أخرى ﴿الرياح﴾ مضطربة هائجة بعد أن كانت ساكنة ﴿فتثير سحاباً﴾ أي: تزعجه وتنشره ﴿فيبسطه﴾ بعد اجتماعه ﴿في السماء﴾ أي: جهة العلو ﴿كيف يشاء﴾ في أيّ ناحية شاء قليلاً تارة كمسير ساعة وكثيراً أخرى كمسير أيام على حسب إرادته واختياره لا مدخل فيه لطبيعة ولا غيرها ﴿ويجعله﴾ إذا أراد ﴿كسفاً﴾ أي: قطعاً غير متصل بعضها ببعض اتصالاً يمنع نزول الماء، وقرأ ابن عامر بسكون السين بخلاف عن هشام، والباقون بفتحها ﴿فترى﴾ بسبب إرسال الله له أو بسبب جعله ذا مسامّ وفروج يا من هو من أهل الرؤية، أو يا أشرف خلقنا الذي لا يعرف هذا حق معرفته سواه ﴿الودق﴾ أي: المطر ﴿يخرج من خلاله﴾ أي: السحاب الذي هو اسم جنس في حالتي الاتصال والانفصال ﴿فإذا أصاب﴾ أي: الله ﴿به﴾ أي: بالودق ﴿من﴾ أي: أرض من ﴿يشاء﴾ ونبه على أن ذلك فضل منه لا يجب عليه لأحد شيء أصلاً بقوله تعالى: ﴿من عباده﴾ أي: الذين لم تزل عبادته واجبة عليهم جديرون بملازمة شكره والخضوع لأمره ﴿إذا هم يستبشرون﴾ أي: يظهر عليهم البشر وهو السرور الذي تشرق له البشرة حال الإصابة ظهوراً بالغاً عظيماً بما يرجونه مما يحدث عنه من الأثر النافع من الخصب والرطوبة واللين، ثم بين تعالى عجزهم بقوله تعالى:
﴿وإن﴾ أي: والحال أنهم ﴿كانوا﴾ في الزمن الماضي ﴿من قبل أن ينزل عليهم﴾ أي: المطر، وقرأ أبو عمرو وابن كثير بسكون النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي. وقوله تعالى ﴿من قبله﴾ من باب التكرير والتأكيد كقوله تعالى ﴿فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها﴾ (الحشر: ١٧)
ومعنى التوكيد فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول بعدما استحكم بأسهم. وقوله تعالى ﴿لمبلسين﴾ إشارة إلى أنه تمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اهتمامهم بذلك، وقبل الأولى ترجع إلى المطر والثانية إلى إنشاء السحاب فلا تأكيد.
﴿فانظر إلى آثار رحمت الله﴾ والرحمة: هي الغيث وأثرها هو النبات، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بألف بعد الثاء المثلثة، والباقون بغير ألف ورسمت رحمت هذه مجرورة، فوقف ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء والباقون بالتاء ﴿كيف يحيى﴾ أي: الله ﴿الأرض﴾ بإخراج النبات ﴿بعد موتها﴾ أي: يبسها ﴿إن ذلك﴾ أي: القادر العظيم الشأن الذي قدر على إحياء الأرض ﴿لمحيي الموتى﴾ كلها من الحيوانات والنباتات أي: ما زال قادراً على ذلك كما قال تعالى ﴿وهو على كل شيء﴾ من ذلك وغيره ﴿قدير﴾ لأنّ نسبة القدرة منه سبحانه وتعالى إلى كل ممكن على حد سواء، ولما بين أنهم عند توقف الخير يكونون آيسين وعند ظهوره يكونون مستبشرين بين أن تلك الحالة أيضاً لا يدومون عليها بقوله تعالى:
﴿ولئن أرسلنا﴾ أي: بعد وجود هذا الأثر الحسن ﴿ريحاً﴾ عقيماً ﴿فرأوه﴾ أي: الأثر لأنّ الرحمة هي الغيث وأثرها هو النبات أو الزرع لدلالة السياق عليه ﴿مصفراً﴾ قد بدل وأخذ في التلف من شدّة يبس الريح إمّا بالحرّ أو البرد، وقيل: رأوا السحاب لأنه إذا كان مصفراً لم يمطر، ويجوز أن يكون الضمير للريح من التعبير بالسبب عن المسبب.
تنبيه: اللام موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط. وقوله تعالى ﴿لظلوا﴾ أي: لصاروا ﴿من بعده﴾ أي: اصفراره
﴿فبأي آلاء﴾ أي: نعم ﴿ربكما﴾ أي: المحسن بنعمه لجميع خلقه ﴿تكذبان﴾ أبشيء مما تفضل به عليكم أم بغيره؟.
ثم وصف تلك الجنتين بقوله تعالى: ﴿مدهامّتان﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما: خضراوان. وقال مجاهد: سوداوان لأنّ الخضرة إذا اشتدت تضرب إلى السواد، وهذا مشاهد بالنظر ولذلك قالوا: سواد العراق لكثرة شجره وزرعه، والأرض إذا اخضرّت غاية الخضرة تضرب إلى سواد؛ قال الرازي: والتحقيق فيه أنّ ابتداء الألوان هو البياض وانتهاءها هو السواد فإن الأبيض يقبل كل لون والأسود لا يقبل شيئاً من الألوان.
﴿فبأي آلاء﴾ أي: نعم ﴿ربكما﴾ أي: المحسن إليكما بالرزق وغيره ﴿تكذبان﴾ أبشيء من تلك النعم أم بغيرها.
ثم وصف تلك الجنتين أيضاً بقوله تعالى: ﴿فيهما﴾ أي: في جنتي كل شخص منهم ﴿عينان نضاختان﴾ قال ابن عباس: أي: فوّارتان بالماء، والنضخ بالخاء المعجمة أكثر من النضح بالحاء المهملة لأنّ النضح بالمهملة الرشح والرش، وبالمعجمة فورانُ الماء وقال مجاهد: المعنى نضاختان بالخير والبركة، وعن ابن مسعود: تنضخ على أولياء الله تعالى بالمسك والكافور والعنبر في دور أهل الجنة كما ينضخ رش المطر، وقال سعيد بن جبير بأنواع الفواكه والماء.
﴿فبأي آلاء﴾ أي: نعم ﴿ربكما﴾ المربي البليغ الحكمة في التربية ﴿تكذبان﴾ أبتلك النعمة أم بغيرها؟.
ثم وصف الجنتين أيضاً بقوله تعالى: ﴿فيهما فاكهة﴾ وخص أشرفها وأكثرها وجداناً في الخريف والشتاء، كما في جنان الدنيا التي جعلت مثالاً لهاتين بقوله تعالى: ﴿ونخل ورمان﴾ فإن كلاً منهما فاكهة وأدام، فلهذا خصا تشريفاً وتنبيهاً على ما فيهما من التفكه، وأولهما أعمّ نفعاً، وأعجب خلقاً، ولذا قدمه فعطفهما على الفاكهة من باب ذكر الخاص بعد العامّ تفضيلاً له؛ كقوله تعالى: ﴿وملائكته ورسله وجبريل وميكال﴾ (البقرة: ٩٨)
وقوله تعالى: ﴿حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى﴾ (البقرة: ٢٣٨)
وقال بعض العلماء: ليس ذلك من الفاكهة. ولهذا قال أبو حنيفة: إذا حلف لا يأكل الفاكهة فأكل رطباً أو رماناً لم يحنث، وخالفه صاحباه. وقال القرطبي: وقيل: إنما كررها لأنّ النخل والرمان كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البر عندنا، لأن النخل عامة قوتهم، والرمان كالثمرات فكان يكثر غرسها عندهم لحاجتهم إليه، وكانت الفواكه عندهم من ألوان الثمار التي يعجبون بها فإنما ذكر الفاكهة ثم ذكر النخل والرمان لعمومها وكثرتها عندهم من المدينة إلى مكة إلى ما والاها من أرض اليمن فأخرجهما من الذكر من الفواكه وأفرد الفواكه على حدتها.
وقيل: أفردا بالذكر لأنّ النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء فلم يخلصا للتفكه قال البغوي: وعن ابن عباس قال: نخل الجنة جذوعهما زمرّد أخضر وورقها ذهب أحمر، وسعفها كسوة أهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم وثمرها أمثال القلال، والدلاء أشدّ بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، وألين من الزبد ليس له عجم.
وروي أنّ الرمانة من رمان الجنة ملء جلد البعير المقتب؛ وقيل: إنّ نخل الجنة نضيد، وثمرها كالقلال كلما نزعت عادت مكانها أخرى؛ العنقود منها اثنا عشر ذراعاً.
﴿فبأي آلاء﴾ أي نعم ﴿ربكما﴾ المحسن إلى الثقلين بجليل التربية ﴿تكذبان﴾ أبتلك النعم أم بغيرها مما أحسن به إليكم؟.
﴿فيهنّ﴾ أي: الجنان الأربع، أو الجنتين وقصورهما ﴿خيرات حسان﴾ أي: نساء الواحدة خيرة على معنى ذوات خير، وقيل: خيرات بمعنى خيرات فخفف كهين ولين.
روى الحسن عن أمّه عن