والحث على المحاسن والنهي عن القبائح كالمن والأذى وإنفاق الخبيث.
وقوله تعالى: ﴿ولكن الله يهدي من يشاء﴾ أي: هداية التوفيق صريح بأنّ الهداية من الله وبمشيئته وإنما تخص بقوم دون قوم، أما هدى البيان فكان على رسول الله ﷺ فأعطوهم بعد نزول الآية ﴿وما تنفقوا من خير﴾ أي: من مال.
وقوله تعالى: ﴿فلأنفسكم﴾ خبر لمبتدأ محذوف أي: فهي لأنفسكم؛ لأنّ ثوابه لها فلا تمنوا به على غيركم ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم ولا تنفقوا الخبيث.
وقوله تعالى: ﴿وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله﴾ عطف على ما قبله أي: وليس نفقتكم إلا ابتغاء وجه الله، ولطلب ما عنده، فما لكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله تعالى ﴿وما تنفقوا من خير يوف إليكم﴾ ثوابه أضعافاً مضاعفة، فلا عذر لكم في أن ترغبوا على إنفاقه وأن يكون على أحسن الوجوه وأجلها، والجملتان تأكيد للأولى وهي وما تنفقوا من خير فلأنفسكم أو ما يخلف المنفق استجابه لقوله ﷺ «اللهمّ اجعل لمنفق خلفاً ولممسك تلفاً» رواه البخاري.
﴿وأنتم لا تظلمون﴾ أي: لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً تفضلاً من الله تعالى عليكم، وهذا في صدقة التطوّع أباح الله تعالى أن توضع في أهل الإسلام وأهل الذمة وقيل: حجت أسماء بنت أبي بكر فأتتها أمها تسألها وهي مشركة فأبت أن تعطيها فنزلت.
وروى النسائي والحاكم أنّ ناساً من المسلمين كانت لهم أصهار في اليهود ورضاع، وقد كانوا ينفقون عليهم قبل الإسلام فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوا عليهم فنزلت. وعن بعض العلماء: لو كان المنفق عليه أشر خلق الله كان لك ثواب نفقتك. وأمّا الصدقة المفروضة فلا يجوز وضعها إلا في المسلمين أهل السهمان المذكورين في سورة التوبة، لكن جوّز أبو حنيفة رحمه الله صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة.
وقوله تعالى:
﴿للفقراء﴾ خبر مبتدأ محذوف أي: صدقاتكم للفقراء أو متعلق بفعل مقدر كاجعلوا ما تنفقون للفقراء ﴿الذين أحصروا في سبيل الله﴾ أي: حبسوا أنفسهم على الجهاد وهم فقراء المهاجرين، كانوا نحواً من أربعمائة لم يكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر، كانوا يسكنون صفّة المسجد، يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والعبادة، وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله ﷺ وهم المشهورون بأصحاب الصّفّة، فحث الله عليهم الناس فكان من عنده فضل أتاهم به إذا أمسى.
﴿لا يستطيعون ضرباً﴾ أي: سفراً ﴿في الأرض﴾ للتجارة والمعاش لشغلهم عنه بالجهاد ﴿يحسبهم الجاهل﴾ بحالهم ﴿أغنياء من التعفف﴾ أي: لأجل تعففهم عن السؤال.
وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين، والباقون بكسرها ﴿تعرفهم﴾ أيها المخاطب ﴿بسيماهم﴾ أي: بعلامتهم من التخشع والتواضع، وصفرة الوجوه، ورثاثة الحالة ﴿لا يسألون الناس﴾ شيئاً فيلحفون ﴿إلحافاً﴾ أي: لا سؤال لهم أصلاً فلا يقع منهم إلحاف ومثل ذلك قول الشاعر:
*لا يفزع الأرنب أهوالها | ولا ترى الضب بها ينجحر* |
*محمد تفد نفسك كل نفس
... إذا ما خفت من شيء تبالا
أي تبالى به، أي: تكثرت به لدلالة قل عليه: ﴿سراً وعلانية﴾، أي: ينفقون أموالهم في حال السر والعلانية، وقيل: المراد بالسر صدقة التطوع، وبالعلانية إخراج الزكاة الواجبة.
تنبيه: في انتصاب سرّاً وعلانية وجوه: أحدها: أن يكون على الحال، أي: ذوي سر وعلانية بمعنى مسرّين ومعلنين. والثاني: على الظرف، أي: وقت سر وعلانية. وثالثها: على المصدر، أي: إنفاق سر وإنفاق علانية. ولما أمرهم الله تعالى بإقامة الصلاة والإنفاق أشار إلى عدم التهاون بذلك بقوله عز وجل: ﴿من قبل أن يأتي يوم﴾، أي: عظيم جدّاً ليس كشيء من الأيام التي تعرفونها ﴿لا بيع فيه﴾، أي: فيشتري المقصر ما يتدارك به تقصيره، أو يفدي به نفسه ﴿ولا خلال﴾، أي: مخالة، أي: صداقة تنفع في ذلك اليوم.
قال مقاتل: إنما هو يوم لا بيع فيه ولا شراء ولا مخالة ولا قرابة، فكأنه تعالى يقول: أنفقوا أموالكم في الدنيا حتى تجدوا ثواب ذلك الإنفاق في مثل هذا اليوم الذي لا يحصل فيه مبايعة ولا مخالة، ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة﴾ (البقرة، ٢٥٤)
. فإن قيل: كيف نفى الله تعالى المخالة في هاتين الآيتين مع أنه تعالى أثبتها في قوله تعالى: ﴿الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين﴾ (الزخرف، ٦٧)
أجيب: بأن الآية الدالة على نفي المخالة محمولة على نفي المخالة بسبب ميل الطبع ورغبة النفس، والآية الدالة على حصول المخالة محمولة على حصول المخالة الحاصلة بسبب عبودية الله تعالى ومحبة الله تعالى. ولما طال الكلام في وصف أحوال السعداء وأحوال الأشقياء، وكانت العمدة العظمى والمنزلة الكبرى في حصول السعادات معرفة الله تعالى بذاته وصفاته، وفي حصول الشقاوة فقدان ذلك ختم تعالى أحوال الفريقين بقوله تعالى:
﴿الله﴾، أي: الملك الأعلى المحيط بكل شيء، ثم اتبعه بالدلائل الدالة على وجوده وكمال علمه وقدرته، وذكر هنا عشرة أنواع من الدلائل: أوّلها: قوله تعالى: ﴿الذي خلق السموات﴾ وثانيها: قوله تعالى: ﴿والأرض﴾ وهما أكبر خلقاً منكم وأعظم شأناً. وثالثها قوله تعالى: ﴿وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم﴾ تعيشون به وهو يشمل المطعوم والملبوس.
تنبيه: الله مبتدأ، وخبره الذي خلق، ورزقاً مفعول لأخرج، ومن الثمرات بيان له حال منه، ويصح أن يكون المراد بالسماء هنا السحاب اشتقاقاً من السمو والارتفاع، وأن يكون الجرم المعهود فينزل من السماء إلى السحاب، ومن السحاب إلى الأرض، وقد ذكرت ذلك في سورة البقرة، وفي غيرها، ورابعها قوله تعالى: ﴿وسخر لكم الفلك﴾، أي: السفن ﴿لتجري في البحر﴾، أي: بالركوب والحمل ﴿بأمره﴾، أي: بمشيئته وإرادته، وخامسها: قوله تعالى: ﴿وسخر لكم الأنهار﴾، أي: ذللها لكم تجرونها حيث شئتم؛ لأنّ ماء البحر لا ينتفع به في سقي الزروع والثمرات ولا في الشراب فكان ذلك نعمة من الله تعالى، وسادسها وسابعها: قوله تعالى:
﴿وسخر لكم الشمس والقمر﴾ حال كونهما ﴿دائبين﴾، أي: جاريين في فلكهما لا يفتران في سيرهما وإنارتهما وتأثيرهما في إنارة الظلمة، وإصلاح النبات والحيوان إلى آخر الدهر، وهو انقضاء عمر الدنيا وذهابها، والشمس سلطانها النهار، وبها تعرف فصول السنة، وهي أفضل من القمر لكثرة نفعها، والقمر سلطانه الليل، وبه يعرف انقضاء
﴿أولئك﴾ أي: هؤلاء البعداء البغضاء ﴿لهم عذاب مهين﴾ لإهانتهم الحق باستثناء الباطل عليه، ولما كان الإنسان قد يكون غافلاً فإذا نبه انتبه نبه سبحانه وتعالى على أن هذا الإنسان المنهمك في أسباب الخسران لا يزداد على ممرّ الزمان إلا مفاجأة لكل ما يرد عليه من البيان بقوله تعالى:
﴿وإذا تتلى عليه آياتنا﴾ أي: تتجدّد عليه تلاوتها أي: تلاوة القرآن من كل تال كان ﴿ولى﴾ أي: بعد السماع مطلق التولية سواء كان على المجانبة أو مدبراً ﴿مستكبراً﴾ أي: طالباً للكبر موجداً له بالإعراض عن الطاعة ﴿كأن﴾ أي: كأنه لم ﴿يسمعها﴾ فهو لم يزل على حالة الكبر ﴿كأن في أذنيه وقراً﴾ أي: صمماً يستوي معه تكليم غيره له وسكوته (تنبيه) : جملتا التشبيه حالان من ضمير ولى، أو الثانية بيان للأولى. وقرأ نافع بسكون الذال، والباقون بضمنها، ولما تسبب عن ذلك استحقاقه لما يزيل كبره وعظمته قال تعالى ﴿فبشره﴾ أي: أعلمه ﴿بعذاب أليم﴾ أي: مؤلم، وذكر البشارة تهكم به وهو النضر بن الحارث كما مرّت الإشارة إليه، ولما بين تعالى حال المعرض عن سماع الآيات بين حال من يقبل على تلك الآيات بقوله تعالى:
﴿إن الذين آمنوا﴾ أي: أوجدوا الإيمان ﴿وعملوا﴾ أي: تصديقاً له ﴿الصالحات لهم جنات﴾ أي: بساتين ﴿النعيم﴾ أي: نعيم جنات فعكس للمبالغة كما أنّ لهؤلاء العذاب المهين، ووحد العذاب وجمع الرحمة إشارة إلى أنّ الرحمة واسعة أكثر من الغضب، ولما كان ذلك قد لا يكون دائماً وكان السرور بشيء قد ينقطع قال تعالى:
﴿خالدين فيها﴾ أي: دائماً، وقوله تعالى ﴿وعد الله﴾ أي: الذي لا شيء أجل منه مصدر مؤكد لنفسه؛ لأنّ قوله تعالى جنات في معنى وعدهم الله تعالى ذلك وقوله تعالى ﴿حقاً﴾ مصدر مؤكد لغيره أي: لمضمون تلك الجملة الأولى وعاملهما مختلف، فتقدير الأولى: وعد. الله ذلك وعداً. وتقدير الثانية: أحق ذلك حقاً فأكد نعيم الجنات ولم يؤكد العذاب المهين ﴿وهو العزيز﴾ أي: فلا يغلبه شيء ﴿الحكيم﴾ أي: الذي لا يضع شيئاً إلا في محله، ولما ختم بصفتي العزة وهي غاية القدرة والحكمة وهي ثمرة العلم دل عليهما بإتقان أفعاله بقوله تعالى:
﴿خلق السموات﴾ على علوّها وكبرها وضخامتها ﴿بغير عمد﴾ وقوله تعالى ﴿ترونها﴾ فيه وجهان: أحدهما: أنه راجع إلى السموات إذ ليست بعمد أصلاً وأنتم ترونها كذلك بغير عمد، الثاني: أنه راجع إلى العمد ومعناه بغير عمد مرئية، وعلى كلا الوجهين هي ثابتة لا تزول وليس ذلك إلا بقدرة قادر مختار، تنبيه: أكثر المفسرين أنّ السموات مبسوطة كصحف مستوية لقوله تعالى ﴿يوم نطوي السماء كطيّ السجلّ للكتب﴾ (الأنبياء: ١٠٤)
وقال بعضهم: إنها مستديرة وهو قول جميع المهندسين والغزالي رحمه الله تعالى حيث قال: ونحن نوافقهم في ذلك فإنّ لهم عليّ دليلاً من المحسوسات ومخالفة الحس لا تجوز، وإن كان في الباب خبر يؤّول بما يحتمله فضلاً عن أن ليس في القرآن والخبر ما يدل على ذلك صريحاً بل فيه ما يدل على الاستدارة كقوله تعالى ﴿كل في فلك يسبحون﴾ (الأنبياء: ٣٣)
والفلك اسم لشيء مستدير بل الواجب أنّ السموات سواء كانت مستديرة أو صفيحة مستقيمة هي مخلوقة لله تعالى باختيار لا بإيجاب وطبع، ولما ذكر تعالى العمد المقلة ذكر الأوتاد المقرّة بقوله تعالى: ﴿وألقى في الأرض﴾ أي: التي أنتم عليها جبالاً ﴿رواسي﴾ والعجب أنها من فوقها
قوله عليه الصلاة والسلام: «أمتي يكثرون سائر الأمم». لجواز أن يكون سابقو سائر الأمم أكثر من سابقي هذه الأمة، وتابعوا هذه الأمّة أكثر من تابعيهم.
قيل: لما نزلت هذه الآية شق على أصحاب النبي ﷺ فنزلت ﴿ثلة من الأوّلين وثلة من الآخرين﴾ فقال النبيّ ﷺ «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة بل نصف أهل الجنة وتقاسمونهم في النصف الثاني». رواه أبو هريرة رضي الله عنه. ذكره الماوردي وغيره ومعناه ثابت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود وكأنه أراد أنها منسوخة؛ قال الرازي: وهذا في غاية الضعف لأنّ عدد أمة محمد ﷺ كان في ذلك الزمان بل إلى آخر الزمان بالنسبة إلى ما مضى في غاية القلة والمراد بالأولين الأنبياء وكبار أصحابهم وهم إذا اجتمعوا كانوا أكثر من السابقين من هذه الأمّة ولأنّ هذا خبر والخبر لا ينسخ، وقال الحسن: سابقوا من مضى أكثر من سابقينا فلذا قال تعالى: ﴿وقليل من الآخرين﴾ وقال في أصحاب اليمين: وهم سوى السابقين ﴿ثلة من الأولين وثلة من الآخرين﴾ ولذا قال ﷺ «إنى لأرجو أن تكون أمتي شطر أهل الجنة ثم تلا ﴿ثلة من الأولين وثلة من الآخرين﴾ ». وروى الطبراني: أنّ الثلة والقليل كلاهما من هذه الأمة فتكون الصحابة كلهم من هذه الثلة، وكذا من تبعهم بإحسان إلى رأس القرن الثالث وهم لا يحصيهم إلا الله تعالى؛ ومن المعلوم أنه تناقص الأمر بعد ذلك إلى أن صار السابق في الناس أقل من القليل لرجوع الإسلام إلى الحال التي بدأ عليها من الغربة، «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء أي وهم الذين إذا فسد الناس صلحوا، كما فسر به النبيّ ﷺ ذلك، وقال أبو بكر: كلا الثلتين من أمة محمد ﷺ فمنهم من هو في أول أمته، ومنهم من هو في آخرها، وهو مثل قوله تعالى: ﴿فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات﴾ (فاطر: ٣٢)
وقيل: المراد بالأولين ﴿الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ وبالآخرين ﴿ذرياتهم﴾ الملحقون بهم في قوله تعالى: ﴿وأتبعتهم ذريتهم بإيمان﴾ (الطور: ٢١)
ألحقنا بهم ذرياتهم، واشتقاق الثلة وهي مبتدأ من الثل وهو القطع والخبر ﴿على سرر﴾ جمع سرير وهو ما يجعل الإنسان من المقاعد العالية المصنوعة للراحة والكرامة ﴿موضونة﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما: منسوجة بالذهب، وقال عكرمة: مشبكة بالدرّ والياقوت؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً: موضونة، أي: مصفوفة لقوله تعالى في موضع آخر: ﴿على سرر مصفوفة﴾ وقيل: منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدرّ والياقوت، والموضونة المنسوجة، وأصله: من وضنت الشيء أي: ركبت بعضه على بعض، ومنه قيل للدرع موضونة لتركب حلقها قال الأعشى:
*ومن نسج داود موضونة | تسير مع الحيّ عيراً فعيراً* |
*إليك تعد وقلقاً وضينها | معترضاً في بطنها جنينها* |
رواه البيهقي. ومناه أن ناقتي تعدو إليك مسرعة في طاعتك قلقاً، وضينها وهو حبل كالجزام من كثرة السير والإقبال التام والاجتهاد البالغ في طاعتك؛ والمراد: صاحب الناقة فيسنّ للمار