وتضرب الأرض بقوائمها ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه إنه يخبط خبط عشواء وتخبطه الشيطان إذا مسه بخبل أو جنون؛ لأنه كالضرب على غير استواء في الإدهاش ﴿ذلك﴾ أي: الذي نزل بهم ﴿بأنهم﴾ أي: بسبب أنهم ﴿قالوا إنما البيع مثل الربوا﴾ في الجواز.
فإن قيل: ما الحكمة في قلب القصة ومن حق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق؛ لأنّ حل البيع متفق عليه وهم أرادوا قياس الربا عليه فكان نظم الكلام أن يقال إنما الربا مثل البيع؟ أجيب: بأنّ هذا من عكس التشبيه مبالغة إذ به صار المشبه مشبهاً به وبالعكس وشأن المشبه به أن يكون أقوى من المشبه أو بأنهم لم يكن مقصودهم أن يتمسكوا بنظم القياس بل كان غرضهم أنّ البيع والربا متماثلان في جميع الوجوه المطلوبة فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحل والآخر بالحرمة وعلى هذا التقدير فأيهما قدم أو أخر جاز وقوله تعالى: ﴿وأحل الله البيع وحرّم الربوا﴾ إنكار لتسويتهم وإبطال القياس لمعارضته النص.
تنبيه: أظهر قولي الشافعيّ أنّ هذه الآية عامّة في كل بيع إلا ما خص بالسنة وأنه ﷺ نهى عن بيوع، والثاني إنها مجملة والسنة مبينة لها أو تظهر فائدة الخلاف في الاستدلال بها في مسائل الخلاف فعلى الأوّل يستدل بها وعلى الثاني لا يستدل ﴿فمن جاءه﴾ أي: بلغه ﴿موعظة﴾ أي: وعظ ﴿من ربه﴾ وزجر بالنهي عن الربا ﴿فانتهى﴾ أي: فاتبع النهي وامتنع من أكله ﴿فله ما سلف﴾ أي: ما مضى قبل النهي فلا يستردّ منه ما أخذه من الربا وقيل: ما مضى من ذنبه قبل النهي مغفور له ﴿وأمره إلى الله﴾ بعد النهي إن شاء عصمه حتى يثبت على الإنتهاء وإن شاء خذله حتى يعود. وقيل: أمره إلى الله فيما يأمره وينهاه ويحل له ويحرم عليه وليس له من أمر نفسه شيء ﴿ومن عاد﴾ إلى تحليل الربا مشبهاً له بالبيع في الحل ﴿فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ لأنهم كفروا بذلك وورد أنه ﷺ لعن آكل الربا ومؤكله والواشمة والمستوشمة والمصوّر وأنه ﷺ قال: «الربا سبعون باباً أهونها عند الله عز وجل كالذي ينكح أمّه».
﴿يمحق الله الربوا﴾ أي: يذهب بركته ويهلك المال الذي يدخل فيه. وعن ابن مسعود الربا وإن كثر فإلى قل ﴿ويربي الصدقات﴾ أي: يضاعف ثوابها ويبارك فيما أخرجت منه.
روى الشيخان أنه ﷺ قال: «إنّ الله تعالى يقبل الصدقة ويربيها كما يربي أحدكم فلوه».
وروى الإمام أحمد: «ما نقص مال من صدقة» ﴿وا لا يحب كل كفار﴾ أي: مصرّ على تحليل المحرّمات كمن يحلّل الربا ﴿أثيم﴾ منهمك في ارتكابه.
﴿إنّ الذين آمنوا﴾ بالله وبرسوله ربما جاء لهم عنه ﴿وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة﴾ وإنما عطفهما على ما يعمهما لشرفهما ﴿لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم﴾ من آت ﴿ولا هم يحزنون﴾ على فائت وتقدّم مثل هذه الآية ولكن جرت عادة الله سبحانه وتعالى في القرآن مهما ذكر وعيداً ذكر بعده وعداً، فلما بالغ هنا في وعيد الربا أتبعه بهذا الوعد.
فإن قيل: إن الإنسان إذا بلغ عارفاً بالله وقبل وجوب الصلاة والزكاة عليه مات فهو من أهل الثواب بالاتفاق، فدل على أن استحقاق الثواب لا يتوقف على حصول العمل أجيب: بأنه تعالى إنما ذكر هذه الخصال لا لأجل أن استحقاق الثواب مشروط بهذا بل لأجل أن لكل
من التجأ إلى مكة أمن على نفسه وماله، وحتى أنّ الوحوش إذا كانت خارجة الحرم استوحشت، وإذا كانت داخلة الحرم استأنست؛ لعلمها أنه لا يهجيها أحد في الحرم، وهذا القدر من الأمن حاصل بحمد الله بمكة وحرمها ﴿واجنبني﴾، أي: بعدني ﴿وبنيّ أن﴾، أي: عن أن ﴿نعبد الأصنام﴾، أي: اجعلنا في جانب غير جانب عبادتها.
فإن قيل: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون فما الفائدة في قوله: ﴿واجنبني﴾ عن عبادة الأصنام؟ أجيب: بأنه عليه الصلاة والسلام إنما سأل ذلك هضماً لنفسه، وإظهاراً للحاجة والفاقة إلى فضل الله في كل المطالب، وفي ذلك دليل على أنّ عصمة الأنبياء بتوفيق الله تعالى وحفظه إياهم. فإن قيل: كان كفار قريش من أبنائه مع أنهم كانوا يعبدون الأصنام فكيف أجيب دعاؤه؟ أجيب: بأنّ المراد من كان موجوداً حال الدعاء، ولا شبهة أنّ دعوته كانت مجابة فيهم، أو أنّ هذا الدعاء مخصوص بالمؤمنين من أولاده، والدليل عليه أنه قال عليه السلام في آخر الآية: ﴿فمن تبعني فإنه مني﴾ (إبراهيم، ٣٦)
وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه، ونظيره قوله تعالى: ﴿إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح﴾ (هود، ٤٦)، والصنم المنحوت على خلقة البشر وما كان منحوتاً على غير خلقة البشر فهو وثن، قاله الطبري. ولذا لما سئل ابن عيينة كيف عبدت العرب الأصنام؟ فقال: ما عبد أحد من بني إسماعيل صنماً، واحتج بقوله تعالى: ﴿واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام﴾ (إبراهيم، ٣٥)
وإنما كانت أنصاب الحجارة لكل قوم قالوا: البيت حجر فحينما نصبنا حجراً فهو بمنزلة البيت فكانوا يدورون بذلك الحجر، أي: يطوفون به أسابيع تشبيهاً بالكعبة، ويسمونه الدوّار بضم الدال مشدّدة، وقد تفتح، قال الجوهري: دوّار بالضم صنم وقد تفتح فاستحب أن يقال طاف بالبيت، ولا يقال دار بالبيت. قال الرازي: وهذا الجواب ليس بقوي؛ لأنه عليه السلام لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله، والحجر كالصنم في ذلك. ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم أنه قال:
﴿رب إنهن﴾، أي: الأصنام ﴿أضللن كثيراً من الناس﴾ بعبادتهم لها.
تنبيه: اتفق كل الفرق على أن قوله: أضللن مجاز؛ لأنها جمادات، والجماد لايفعل شيئاً البتة إلا أنه لما حصل عند عبادتها أضيف إليها كما تقول: فتنتهم الدنيا وغرّتهم، أي: افتتنوا بها واغتروا بسببها ثم قال: ﴿فمن تبعني﴾، أي: على التوحيد ﴿فإنه مني﴾، أي: فإنه جار مجرى بعضي لفرط اختصاصه وقربه مني ﴿ومن عصاني﴾، أي: في غير الدين ﴿فإنك غفور رحيم﴾ وهذا صريح في طلب الرحمة والمغفرة لأولئك العصاة، وإذا ثبت حصول هذه الشفاعة في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثبت حصولها في حق محمد ﷺ لأنه مأمور بالإقتداء به كما قال تعالى: ﴿واتبع ملة إبراهيم﴾ (النساء، ١٢٥)
وقيل: إنّ هذا الدعاء كان قبل أن يعلم إبراهيم أنّ الله لايغفر الشرك، وقيل: إنك قادر أن تغفر له وترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام، وقيل: المراد من هذه المغفرة أن لا يعاجلهم بالعقاب، فلا يمهلهم حتى يتوبوا، قال الرازي: واعلم أنّ هذه الأوجه ضعيفة، وارتضى ما تقرّر أولاً.
تنبيه: حكى الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع أنه طلب من الله تعالى سبعة أمور: الأوّل: طلب من الله تعالى نعمة الأمان، وهو (رب اجعل هذا البلد آمناً) المطلوب الثاني: أن يرزقه الله تعالى التوحيد ويصونه عن الشرك وهو قوله: ﴿واجنبني وبني أن نعبد الأصنام﴾ المطلوب
مع مولاه إذ دخل المخرج وأطال فيه الجلوس فنادى لقمان أنّ طول الجلوس على الحاجة يسيح منه الكبد ويكون منه الباسور ويصعد الحرّ إلى الرأس فخرج وكتب حكمته على الحش. قال: وسكر مولاه فخاطر قوماً على أن يشرب ماء بحيرة فلما أفاق عرف ما وقع منه فدعا لقمان فقال لمثل هذا كنت أخبؤك قال اجمعهم فلما اجتمعوا قال على أي. شيء خاطرتموه. قالوا: على أن يشرب ماء هذه البحيرة. قال: فإن لها موادّاً فاحبسوا موادها عنه، قال: وكيف نستطيع أن نحبس موادها. قال: فكيف يستطيع أن يشربها ولها مواد.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي مسلم الخولاني قال: قال رسول الله ﷺ «إن لقمان كان عبداً كثير التفكر، حسن الظنّ، كثير الصمت، أحب الله فأحبه الله فمنّ عليه بالحكمة نودي بالخلافة قبل داوود فقيل له يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس. قال لقمان: إن أجبرني ربي قبلت فإني أعلم أنه إن فعل ذلك أعانني وعلمني وعصمني، وإن خيرني اخترت العافية ولم أسأل البلاء فقالت الملائكة: يا لقمان لم؟ قال: لأنّ الحاكم بأشدّ المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كل مكان فيخذل أو يعان، فإن أصاب فبالحري أن ينجو وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلاً فهو خير من أن يكون شريفاً ضائعاً، ومن تخير الدنيا على الآخرة. نفته الدنيا ولا يصيب الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه وهو يتكلم بها، ثم نودي داود بعده بالخلافة فقبلها ولم يشترط ما اشترط لقمان فوقع في الذي حكاه الله عنه فصفح الله تعالى عنه وتجاوز، وكان لقمان يؤازره أي: يساعده بعلمه وحكمته فقال داود طوبى لك يا لقمان أوتيت الحكمة فصرفت عنك البلية وأوتي داود الخلافة فابتلى بالذنب والفتنة».
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: «خير الله تعالى لقمان بين الحكمة والنبوّة فاختار الحكمة فأتاه جبريل وهو نائم فذرّ عليه الحكمة فأصبح ينطق بها فقيل له: كيف اخترت الحكمة على النبوّة وقد خيرك ربك؛ فقال إنه لو أرسل إلي بالنبوّة عزمة لرجوت فيها الفوز منه ولكنت أرجو أن أقوم بها ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوّة فكانت الحكمة أحب إليّ». وروي أنه دخل على داود وهو يصنع الدروع وقد لين الله له الحديد كالطين فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت. فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله. فقال له داود لحق ما سميت حكيماً، وروي أنّ مولاه أمره بذبح شاة وبأن يخرج منها أطيب مضغتين فأخرج اللسان والقلب ثم أمره بمثل ذلك وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج اللسان والقلب فسأله عن ذلك فقال: هما أطيب ما فيها إذا طابا وأخبث ما فيها إذا خبثا، وروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة فقال ألست فلان الراعي فيم بلغت ما بلغت قال بصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني، وعن ابن المسيب أنه قال لأسود: لا تحزن فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان بلال ومهجع مولى عمر ولقمان كان أسود نوبياً ذا مشافر، وروي سادات السودان أربعة لقمان الحبشي والنجاشي وبلال ومهجع.
وعن
بعقولهم بوجه من الوجوه أي: يفرغ شرابهم من نزفت البئر إذا نزح ماؤها كله؛ وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بكسر الزاي والباقون بفتحها ﴿وفاكهة مما يتخيرون﴾ أي: يختارون ما يشتهون من الفواكه لكثرتها؛ وقيل: المعنى: وفاكهة متخيرة مرضية والتخير الاختيار ﴿ولحم طير مما يشتهون﴾ أي: يتمنون؛ قال ابن عباس رضى الله عنهما: يخطر على قلبه لحم الطير فيصير ممثلاً بين يديه على ما اشتهى، ويقال: إنه يقع على صحفة الرجل فيأكل منه ما يشتهي ثم يطير فيذهب؛ فإن قيل: ما الحكمة في تخصيص الفاكهة بالتخيير، واللحم بالاشتهاء؟ أجيب: بأنّ اللحم والفاكهة إذا حضرا عند الجائع تميل نفسه إلى اللحم، وإذا حضرا عند الشبعان تميل نفسه إلى الفاكهة، فالجائع مشته، والشبعان غير مشته بل هو مختار، وأهل الجنة إنما يأكلون لا من جوع بل للتفكه فميلهم للفاكهة أكثر فيتخيرونها، ولهذا ذكرت في مواضع كثيرة في القرآن بخلاف اللحم، وإذا اشتهاه حضر بين يديه على ما يشتهيه فتميل نفسه إليه أدنى ميل، ولهذا قدم الفاكهة على اللحم.
فإن قيل: الفاكهة واللحم لا يطوف بهما الولدان، والعطف يقتضي ذلك؟ أجيب: بأنّ الفاكهة واللحم في الدنيا يطلبان في حال الشرب فجاز أن يطوف بهما الولدان فيناولونهم الفواكه الغريبة واللحوم العجيبة لا للأكل بل للإكرام كما يضع المكرم للضيف أنواع الفواكه بيده، أو يكون معطوفاً على المعنى في قوله: ﴿جنات النعيم﴾ أي: مقرّبون في جنات النعيم وفاكهة ولحم، أي: في هذا النعيم يتقلبون.
ولما لم يكن بعد الأكل والشراب أشهى من النساء قال تعالى: ﴿وحور﴾ أي: نساء شديدات سواد العيون وبياضها ﴿عين﴾ أي: ضخام العيون وقرأ حمزة والكسائي بخفض الاسمين عطفاً على سرر، فإنّ النساء في معنى المتكأ لأنهن يسمين فراشاً، والباقون بالرفع عطفاً على ولدان ﴿كأمثال اللؤلؤ المكنون﴾ أي: المخزون في الصدف المصون الذي لم تمسه الأيدي ولم تقع عليه الشمس والهواء، فيكون في نهاية الصفاء؛ قال البغوي: ويروى أنه يسطع نور في الجنة فيقولون: ما هذا؟ فيقال: ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها ويروى أنّ الحوراء إذا مشت يسمع تقديس الخلاخل من ساقها، وتمجيد الأسورة من ساعديها، وأنّ عقد الياقوت يضحك في نحرها، وفي رجليها نعلان من ذهب شراكهما من لؤلؤ يصران بالتسبيح. ولما بالغ في وصف جزائهم بالحسن والصفاء دل على أنّ أعمالهم كانت كذلك لأنّ الجزاء من جنس العمل فقال تعالى: ﴿جزاء﴾ أي: فعل ذلك لهم لأجل الجزاء ﴿بما كانوا يعملون﴾ أي: يجدّدون عمله على جهة الاستمرار، قالت المعتزلة: هذا يدل على أنّ إيصال الثواب واجب على الله تعالى، لأنّ الجزاء لا يجوز الإخلال به، وأجيبوا بأنه لو صح ما ذكروه لما كان في الوعد بهذه الأشياء فائدة، لأنّ العقل إذا حكم بأنّ ترك الجزاء قبيح، وعلم بالعقل أنّ القبيح من الله تعالى لا يوجد علم أنّ الله تعالى يعطى هذه الأشياء لأنها جزاؤه، وإيصال الجزاء واجب، فكان لا يصح التمدح به ﴿لا يسمعون فيها لغواً﴾ أي: شيئاً مما لا ينفع واللغو
الساقط ﴿ولا تأثيماً﴾ أي: ما يحصل به الإثم أو النسبة إلى الأثم بل حركاتهم وسكناتهم كلها في رضا الله تعالى؛ وقال ابن عباس رضى الله عنهما: باطلاً وكذباً؛ قال محمد بن كعب: ولا تأثيماً أي: لا يؤثم بعضهم بعضاً؛ وقال مجاهد: لا يسمعون شتماً ولا مأثماً وقوله تعالى: ﴿إلا قيلاً﴾ فيه قولان أحدهما: أنه