منهما أثراً في جلب الثواب كما قال تعالى في ضد هذا ﴿والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر﴾ (الفرقان، ٦٨) ثم قال تعالى: ﴿ومن يفعل ذلك يلق أثاماً﴾ ومعلوم أنّ من ادعى أنّ مع الله إلهاً آخر لا يحتاج في استحقاقه العذاب إلى عمل آخر وإنما جمع الله تعالى الزنا وقتل النفس مع دعاء غير الله تعالى إلهاً لبيان أنّ كل واحد من هذه الخصال يوجب العقوبة.
﴿يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا﴾ أي: اتركوا بقايا ما شرطتم على الناس من الربا الذي أخذتم بعضه قبل التحريم ﴿إن كنتم مؤمنين﴾ أي: بقلوبكم أو إن بمعنى إذ فإنّ دليل الإيمان امتثال ما أمرتم به. روي أنها نزلت لما طالب بعض الصحابة بعد النهي بربا كان له قبل.
﴿فإن لم تفعلوا﴾ أي: تذروا ما بقي من الربا ﴿فائذنوا﴾ أي: اعلموا، من أذن بالشيء إذا علم به أي: فاعلموا أنتم وأيقنوا ﴿بحرب من الله ورسوله﴾ لكم.
فإن قيل: هذا حكمهم إن تابوا، فما حكمهم إن لم يتوبوا؟ أجيب: بأنّ مقتضى ذلك أنهم يقاتلون إن لم يرجعوا قال سعيد بن جبير: عن ابن عباس يقال لآكل الربا يوم القيامة: خذ سلاحك للحرب، قال أهل المعاني: حرب الله تعالى النار وحرب رسوله ﷺ السيف. وقرأ شعبة وحمزة فآذنوا بفتح الهمزة ومدّها وكسر الذال أي: فأعلموا بها غيركم وهو من الإذن وهو الاستماع لأنه من طريق العلم والباقون بسكون الهمزة وفتح الذال ﴿وإن تبتم﴾ أي: تركتم استحلال الربا ورجعتم عنه ﴿فلكم رؤس أموالكم لا تظلمون﴾ بطلب الزيادة ﴿ولا تظلمون﴾ بالنقصان عن رأس المال.
فإن قيل: هلا قال تعالى بحرب الله ورسوله؟ أجيب: بأنّ هذا أبلغ؛ لأنّ المعنى فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
ولما نزلت هذه الآية قال المرابون: بل نتوب إلى الله، فإنه لا ثبات لنا بحرب من الله ورسوله، فرضوا برأس المال فشكا من عليه الدين العسرة وقال لمن لهم الدين: أخرونا إلى أن تدرك الغلات، فأبوا أن يؤخروا فأنزل الله تعالى:
﴿وإن كان ذو عسرة فنظرة﴾ له أي: عليكم تأخيره ﴿إلى ميسرة﴾ أي: وقت يسره.
تنبيه: في كان هذه وجهان: أظهرهما أنها تامّة بمعنى حدث ووجد أي: وإن حدث ذو عسرة، فتكتفي بفاعلها كسائر الأفعال، الثاني أنها ناقصة وخبرها محذوف، قال أبو البقاء تقديره: وإن كان ذو عسرة لكم عليه حق أو نحو ذلك، وقدره بعضهم وإن كان ذو عسرة غريماً، وقرأ نافع بضمّ السين والباقون بفتحها ﴿وأن تصدقوا﴾ أي: بالإبراء وقرأ عاصم بتخفيف الصاد والباقون بالتشديد على إدغام التاء في الأصل والتخفيف على حذفها ﴿خير لكم﴾ أي: أكثر ثواباً من الإنظار وهذا مما فضل المندوب فيه الواجب، فإنّ الإبراء مندوب إليه والإنظار واجب فيحرم حبس المعسر، وهل القول قوله في إعساره أو لا بدّ من بينة تشهد بذلك ينظر إن كان الدين عن عوض كالبيع والقرض فلا بدّ من بينة، وإن كان عن غير عوض كالضمان والإتلاف والصداق، فالقول قول المعسر بيمينه وعلى الغريم البينة إلا أن يعرف له مال فلا بدّ من بينة ﴿إن كنتم تعلمون﴾ فضل التصدق على الإنظار فافعلوا. وقيل: المراد بالتصدّق الإنظار نفسه ورد هذا كما قال الإمام: بأنّ الإنظار قد علم مما قبل فلا بدّ من حمله على فائدة جديدة قال عليه الصلاة والسلام: «لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة».l
وروي: «من أنظر معسراً أو وضع عنه أنجاه الله من كرب يوم القيامة»
الثالث قوله:
﴿ربنا إني أسكنت من ذريتي﴾ (إبراهيم، ٣٧)، أي: بعض ذريتي أو ذرّية من ذريتي، فحذف المفعول على هذا القول، وهم إسماعيل ومن ولد منه فإن إسكانه متضمن لإسكانهم ﴿بواد﴾ هو وادي مكة المشرفة لكونه في فضاء منخفض بين جبال تجري فيه السيول ﴿غير ذي زرع﴾، أي: لايكون فيه من الزرع قط، فإنه حجري لا ينبت كقوله تعالى: ﴿قرآناً عربياً غير ذي عوج﴾ (الزمر، ٢٨)
بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج ﴿عند بيتك المحرم﴾، أي: الذي حرمت التعرض له، والتهاون به، وجعلت ما حوله حرماً لمكانه؛ أو لأنه لم يزل ممنعاً عزيزاً يهابه كل جبار كالشيء المحرّم الذي حقه أن يجتنب؛ أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكه؛ أو لأنه حرّم على الطوفان، أي: منع منه كما سمي عتيقاً؛ لأنه أعتق منه فلم يستول عليه، أو لأنه أمر الصائرين إليه أن يحرموا على أنفسهم أشياء كانت تحل لهم من قبل، أو لأنه حرم موضع البيت حين خلق السموات والأرض، وحفه بسبعة أملاك، وهو مثل البيت المعمور الذي بناه آدم فرفع إلى السماء السادسة، وروي أن هاجر كانت أمة لسارة فوهبتها لإبراهيم عليه السلام فولدت منه إسماعيل، فقالت سارة: كنت أريد أن يهب الله لي ولداً من خليله فمنعنيه ورزقه خادمتي، وغارت عليهما، وقالت لإبراهيم: بعدهما مني وناشدته بالله أن يخرجهما من عندها، فنقلهما إلى مكة وإسماعيل رضيع حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هناك، ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفل إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل وقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولاشيء؟ فقالت له ذلك مراراً، وهو لا يلتفت إليها فقالت له آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم قالت: إذاً لايضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لايرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه وقال: ﴿ربنا إني أسكنت من ذريتي﴾ (إبراهيم، ٣٧)
حتى بلغ (يشكرون) وجعلت أم إسماعيل ترضعه وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يلتوي، أو قال: يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى من أحد، فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرّات قال النبي ﷺ فلذلك سعى الناس بينهما» فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صه، تريد نفسها ثم تسمعت، فسمعت أيضاً فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف قال ابن عباس: قال النبي ﷺ «يرحم الله أمّ إسماعيل لو تركت زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً» قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال الملك: لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وأنّ الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية يأتيه السيل فيأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كذا، فنزلوا في أسفل مكة، فنظروا طائراً: فقالوا إننّهذا الطائر ليدور على الماء
أبي هريرة أنّ النبيّ ﷺ قال: «الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها في العزلة وواحد في الصمت» وقال لقمان لا مال كصحة ولا نعيم كطيب نفس، وقال ضرب الوالد لولده كالسماد للزرع، ولما كانت الحكمة هي الإقبال على الله قال الله تعالى ﴿أن اشكر لله﴾ أي: وقلنا له أن أشكر لله على ما أعطاك من الحكمة ﴿ومن يشكر﴾ أي: يجدّد الشكر ويتعاهده بنفسه كائناً من كان ﴿فإنما يشكر لنفسه﴾ أي: لأنّ ثواب شكره له ﴿ومن كفر﴾ أي: النعمة ﴿فإن الله غني﴾ عن الشكر وغيره ﴿حميد﴾ أي: له جميع المحامد وإن كفره جميع الخلق.
﴿و﴾ اذكر ﴿إذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني﴾ تصغير إشفاق، وقرأ حفص بفتح الياء وسكنها ابن كثير، وكسرها الباقون ﴿لا تشرك بالله﴾ أي: الملك الأعظم ﴿إن الشرك﴾ أي: بالله ﴿لظلم عظيم﴾ فرجع إليه وأسلم ثم قال له أيضاً: يا بني اتخذ تقوى الله تعالى تجارة يأتيك الفرج من غير بضاعة، يا بني احضر الجنائز ولا تحضر العرس، فإنّ الجنائز تذكر الآخرة والعرس يشهيك الدنيا، يا بني لا تأكل شبعاً من شبع فاتك أن تلقيه للكلب خير من أن تأكله، يا بني لا تكونن أعجز من هذا الديك الذي يصوّت بالأسحار وأنت النائم على فراشك، يا بني لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتي بغتة، يا بنيّ لا ترغب في ودّ الجاهل فترى أنك ترضى عمله، يا بنيّ اتق الله ولا تُري الناس أنك تخشى ليكرموك بذلك وقلبك فاجر، يا بني ما ندمت على الصمت قط فإنّ الكلام إذا كان من فضة كان السكوت من ذهب، يا بني اعتزل الشر كيما يعتزلك فإنّ الشرّ للشرّ خلف، يا بني إياك وشدّة الغضب فإنّ شدّة الغضب ممحقة لفؤاد الحكيم، يا بني عليك بمجالس العلماء واستمع كلام الحكماء فإن الله تعالى يحي القلب الميت بنور الحكمة كما يحي الأرض بوابل المطر فإن من كذب ذهب ماء وجهه ومن ساء خلقه كثر غمه، ونقل الصخور من مواضعها أيسر من إفهام من لا يفهم، يا بني لا ترسل رسولاً جاهلاً فإن لم تجد حكيماً فكن رسول نفسك، يا بني لا تنكح أمة غيرك فتورث بنيك حزناً طويلاً، يا بني يأتي على الناس زمان لا تقرّ فيه عين حليم، يا بني اختر المجالس على عينك فإذا رأيت المجلس يذكر فيه الله عز وجلّ فاجلس معهم فإنك إن تك عالماً ينفعك علمك، وإن تك غبياً يعلموك، وإن يطلع الله عز وجلّ عليهم برحمة تصبك معهم، يا بنيّ لا تجلس في المجلس الذي لا يذكر فيه الله تعالى فإنك إن تكن عالماً لا ينفعك علمك، وإن تكن غبياً يزيدوك غباوة وإن يطلع الله تعالى عليهم بعد ذلك بسخط يصبك معهم، يا بني لا يأكل طعامك إلا الأتقياء وشاور في أمرك
العلماء، يا بني إنّ الدنيا أمر عميق وقد غرق فيها ناس كثير فاجعل سفينتك فيها تقوى الله وحشوها الإيمان بالله، وشراعها التوكل على الله لعلك أن تنجو ولا أراك ناجياً، يا بني إني حملت الجندل والحديد فلم أحمل شيئاً أثقل من جار السوء، وذقت المرارة كلها فلم أذق أشد من الفقر، يا بني كن ممن لا يبتغي محمدة الناس ولا يكسب مذمتهم فنفسه عنهم في غنى والناس منه في راحة، يا بُنَّي إنّ الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك، يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإنّ الله ليحي القلوب بنور الحكمة كما يحي الأرض الميتة بوابل السماء، يا بني لا تتعلم ما لا تعلم حتى تعمل بما تعلم، يا بني إذا أردت أن تواخي رجلاً فأغضبه قبل ذلك، فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذره، يا بني إنك
استثناء منقطع وهذا واضح لأنه لم يندرج تحت اللغو والتأثيم، والثاني: أنه متصل وفيه بعد؛ قال
ابن عادل فكان هذا رأى أنّ الأصل لا يسمعون فيها كلاماً فاندرج عنده فيه؛ ثم بين تعالى ذلك بقوله: ﴿سلاماً سلاما﴾ أي قولاً سلاماً، قال عطاء: يحيى بعضهم بعضاً بالسلام، أو تحيهم الملائكة، أو يحييهم ربهم؛ ودل على دوامه بتكريره فقال تعالى: ﴿سلاما﴾ ففيه إشارة إلى كثرة السلام عليهم ولهذا لم يكرر في قوله تعالى ﴿سلام قولاً من رب رحيم﴾ (يس: ٥٨)
وقال القرطبي: السلام الثاني بدل من الأوّل، والمعنى: إلا قولاً يسلم فيه من اللغو.
ولما بين حال السابقين شرع في بيان حال أصحاب اليمين فقال تعالى:
﴿وأصحاب اليمين﴾ ثم فخم أمرهم وأعلى مدحهم لتعظيم جزائهم فقال تعالى: ﴿ما أصحاب اليمين﴾ فإن قيل: ما الحكمة في ذكرهم بلفظ أصحاب الميمنة عند تقسيم الأزواج الثلاثة وبلفظ أصحاب اليمين عند ذكر الإنعام؟ أجيب: بأن ذلك تفنن في العبارة والمعنى واحد ﴿في سدر﴾ أي: شجر نبق ﴿مخضود﴾ أي: لا شوك فيه كأنه خضد شوكه أي: قطع ونزع منه؛ قال ابن المبارك: أخبرنا صفوان عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب النبيّ ﷺ يقولون: إنا لينفعنا الأعراب ومسائلهم؛ قال: أقبل أعرابي يوماً فقال: يا رسول الله لقد ذكر الله تعالى في القرآن شجرة مؤذية، وما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذى صاحبها، فقال رسول الله ﷺ «وما هي؟» قال: السدر فإن له شوكاً مؤذياً؛ فقال رسول الله ﷺ «أو ليس يقول سدر مخضود خضض الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة، فإنها تنبت ثمراً على اثنين وسبعين لوناً من الطعام ما فيه لون يشبه الآخر» ؛ وقال أبو العالية والضحاك: نظر المسلمون إلى وج وهو واد بالطائف مخصب فأعجبهم سدره فقالوا يا ليت لنا مثل هذا فنزلت. قال أمية بن أبي الصلت يصف الجنة وما فيها:
*إن الحدائق في الجنان ظليلة | فيها الكواعب سدرها مخضود* |
كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس؛ وقيل: الظل ليس ظلّ أشجار بل ظلّ يخلقه الله تعالى، قال الربيع بن أنس رضى الله عنه: يعني ظلّ العرش؛ وقال عمرو بن ميمون رضى الله عنه: مسيرة سبعين ألف سنة؛ وقال أبو عبيدة: تقول العرب للدهر