وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ «إنّ الملائكة تلقت روح رجل كان قبلكم فقالوا له: هل عملت خيراً قط؟ قال: لا قالوا: تذكر قال: ألا إني رجل كنت أداين الناس فكنت آمر فتياني بأن ينظروا الموسر ويتجاوزوا عن المعسر. قال الله تعالى: تجاوزوا عنه» وقال ﷺ «من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله».
﴿واتقوا يوماً ترجعون﴾ أي: تصيرون ﴿فيه إلى الله﴾ هو يوم القيامة أي: فتأهبوا لمصيركم إليه. وقرأ أبو عمرو بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون بضم التاء وفتح الجيم ﴿ثم توفى﴾ فيه ﴿كل نفس﴾ جزاء ﴿ما كسبت﴾ أي: عملت من خير أو شر ﴿وهم لا يظلمون﴾ بنقص حسنة أو زيادة سيئة.
فائدة: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هذه آخر آية نزلت على رسول الله ﷺ فقال جبريل: ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة وعاش بعدها رسول الله ﷺ أحداً وعشرين يوماً» وقال ابن جريج: تسع ليالٍ وقال سعيد بن جبير: سبع ليالٍ ومات يوم الإثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأوّل وقيل: ثلاث ساعات. وقال الشعبي عن ابن عباس: آخر آية نزلت على رسول الله ﷺ آية الربا. ولما منع الله من الربا أذن في السلم والقرض بما يعمهما فقال:
﴿يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين﴾ كسلم وقرض ﴿إلى أجل مسمى﴾ أي: معلوم ولذا قال بعض العلماء: لا لذة ولا منفعة يتوصل إليها بالطريق الحرام إلا والله سبحانه وتعالى وضع لتحصيل مثل تلك اللذة طريقاً حلالاً وسبيلاً مشروعاً.
فإن قيل: المداينة مفاعلة وحقيقتها أن يحصل من كل واحد منهما دين وذلك هو بيع الدين بالدين وهو باطل بالإتفاق أجيب: بأن المراد من تداينتم تعاملتم والتقدير تعاملتم بما فيه دين.
فإن قيل: هلا اكتفى بقوله إذا تداينتم إلى أجل وأي حاجة إلى ذكر الدين؟ أجيب: بأنه ذكر ليرجع الضمير إليه في قوله: ﴿فاكتبوه﴾ إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال: فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن ولئلا يتوهم من الدائن المجازاة ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال، وفائدة قوله مسمى ليعلم أنّ من حق الأجل أن يكون معلوماً كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام، ولو قال: إلى الحصاد أو الدراس أو رجوع الحاج لم يجز للجهل بوقت الأجل، وإنما أمر بكتابة الدين؛ لأنّ ذلك أوثق وآمن من النسيان وأبعد من الجحود.
فإن قيل: إنّ كلمة إذا لا تفيد العموم والمراد من الآية العموم؛ لأنّ المعنى كلما تداينتم بدين فاكتبوه، فلم عدل عن كلما وقال: إذا تداينتم؟ أجيب: بأن كلمة إذا وإن كانت لا تقتضي العموم إلا أنها لا تمنع من العموم وههنا قام الدليل على أنّ المراد هو العموم، واختلفوا في هذه الكتابة، فقال بعضهم: هي واجبة والأكثرون على أنه أمر استحباب فإن ترك فلا بأس كقوله تعالى: ﴿فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض﴾ (الجمعة، ١٠) وقال بعضهم كانت كتابة الدين والإشهاد والرهن فرضاً ثم نسخ الكل بقوله تعالى: ﴿فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الذين ائتمن أمانته﴾ ثم بيّن كيفية الكتابة، فقال تعالى: ﴿وليكتب﴾ أي: كتاب الدين ﴿بينكم كاتب بالعدل﴾ أي: بالحق في كتابته لا يزيد في المال أو الأجل ولا ينقص وهو في الحقيقة أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه دين حتى يجيء مكتوبه موثوقاً به معدلاً بالشرع
لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا: نعم قال ابن عباس: قالت ذلك أمّ إسماعيل وهي تحب الأنس، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم فشب الغلام وتعلم العربية منهم، وألفهم وأعجبهم حتى شب، فلما أدرك زوّجوه امرأة منهم وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوّج إسماعيل وتقدّم تمام هذه القصة في سورة البقرة.
ثم قال: ﴿ربنا ليقيموا الصلاة﴾ اللام لام كي متعلقة بأسكنت، أي: ما أسكنتهم بهذا الوادي المقفر الذي لا شيء فيه إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرّم، ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك متبرّكين بالبقعة التي شرفتها على البقاع مستعبدين بجوارك الكريم متقرّبين إليك بالعكوف عند بيتك والطواف به والركوع والسجود حوله مستنزلين الرحمة التي آثرت بها سكان حرمك، وتكرير النداء وتوسطه للإشعار بأنهما المقصود بالذات من إسكانهم هناك، والمقصود من الدعاء توفيقهم لها ﴿فاجعل أفئدة﴾، أي: قلوباً محترقة بالأشواق ﴿من الناس﴾ ومن للتبعيض، والمعنى: واجعل أفئدة بعض الناس ﴿تهوي﴾، أي: تميل ﴿إليهم﴾ ويدلّ عليه ما روي عن مجاهد لو قال: أفئدة الناس لزحمتكم عليه فارس والروم والترك والهند. وقال سعيد بن جبير: لو قال أفئدة الناس لحجت اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه قال: ﴿أفئدة من الناس﴾ فهم المسلمون. وقال ابن عباس: لو قال: أفئدة الناس لحنت إليه فارس والروم والناس كلهم. ولما دعا لهم بالدين دعا لهم بالرزق فقال: ﴿وارزقهم من الثمرات﴾ ولم يقل: وارزقهم الثمرات، وذلك يدل على أنّ المطلوب بالدعاء إيصال بعض الثمرات إليهم، ويحتمل أن يكون المراد بإيصال بعض الثمرات إليهم إيصالها إليهم على سبيل التجارات كما قال تعالى: ﴿يجبى إليه ثمرات كل شيء﴾ (القصص، ٥٧)
حتى توجد فيه الفواكه الصيفية والربيعية والخريفية في يوم واحد، وليس ذلك من آياته بعجب، وأن يكون المراد عمارة القرى بالقرب منها لتحصل تلك الثمار. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كانت الطائف من أرض فلسطين، فلما قال إبراهيم ذلك رفعها الله فوضعها حيث وضعها رزقاً للحرم. ﴿لعلهم يشكرون﴾ يدلّ على أنّ المقصود للعاقل من منافع الدنيا أن يتفرّغ لأداء العبادات وإقامة الطاعات، فإنّ إبراهيم عليه السلام بين أنه إنما طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن يتفرّغوا لإقامة الطاعات وأداء الواجبات. ولما طلب عليه السلام من الله تعالى تيسير المنافع لأولاده وتسهيلها عليهم ذكر أنه لا يعلم عواقب الأحوال ونهاية الأمور في المستقبل، فإنه تعالى هو العالم بها والمحيط بأسرارها فقال: ﴿ربنا إنك تعلم ما نخفي﴾، أي: نسر ﴿وما نعلن﴾ وهذا هو المطلوب الرابع: والمعنى: أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ومفاسدنا منا، قيل: ما نخفي من الوجد بسبب حصول الفرقة بيني وبين إسماعيل، وما نعلن من البكاء، وقيل: ما نخفي من الحزن المتمكن في القلب وما نعلن يريد ما جرى بينه وبين هاجر حين قال، ت له عند الوداع: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله أكلكم قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا. واختلف في قوله تعالى: {وما يخفى على
منذ نزلت إلى الدنيا استدبرتها واستقبلت الآخرة فدار أنت إليها تسير أقرب من دار أنت عنها تباعد، يا بني عود لسانك أن يقول: اللهم اغفر لي فإن لله ساعات لا ترد، يا بني إياك والدين فإنه ذل النهار وهم الليل، يا بني ارج الله رجاء لا يجرئك على معصيته وخف الله خوفاً لا يؤيسك من رحمته ا. هـ. وإنما أكثرت من ذلك لعل الله ينفعنى ومن طالعه بذلك، وسيأتي في كلام الله تعالى زيادة على ذلك واقتصرت على هذا القدر وإلا فمواعظه لابنه لو أراد شخص الإكثار منها لجعل منها مجلدات.
فقد أخرج ابن أبي الدنيا عن حفص بن عمر الكندي قال: وضع لقمان عليه السلام جراباً من خردل إلى جنبه وجعل يعظ ابنه موعظة ويخرج خردلة فنفذ الخردل فقال: يا بني وعظتك موعظة لو وعظتها جبلاً لتفطر فتفطر ابنه. فسبحان من يعز ويذل، ويغني ويفقر، ويشفي ويمرض، ويرفع من يشاء وإن كان عبداً فلا بدع أن يخص محمداً ﷺ ذا النسب العالي والمنصب المنيف بالرسالة من بين قريش وإن لم يكن من أهل الدنيا المتعظمين بها، ولما ذكر سبحانه ما أوصى به ولده من شكر المنعم الأوّل الذي لم يشركه في إيجاده أحد وذكر ما عليه الشرك من الفظاعة والشناعة أتبعه وصيته سبحانه للولد بالوالد لكونه المنعم الثاني بالسببية في وجوده بقوله تعالى:
﴿ووصينا الإنسان بوالديه﴾ أي: أمرناه أن يبرهما ويطيعهما ويقوم بهما، ثم بين تعالى السبب في ذلك بقوله تعالى: ﴿حملته أمه وهناً﴾ أي: حال كونها ذات وهن بحمله وبالغ في جعلها نفس الفعل دلالة على شدّة ذلك الضعف ﴿على وهن﴾ أي: ضعف الحمل، وضعف الطلق، وضعف الولادة، ثم أشار إلى ما لها عليه من المنة بعد ذلك بالشفقة وحسن الكفالة وهو لا يملك لنفسه شيئاً بقوله تعالى: ﴿وفصاله﴾ أي: فطامه من الرضاعة بعد وضعه ﴿في عامين﴾ تقاسي فيهما في منامه وقيامه ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى، فإن قيل وصى الله تعالى بالوالدين وذكر السبب في حق الأم مع أن الأب وجد منه أكثر من الأم لأنه حمله في صلبه سنين ورباه بكسبه سنين فهو أبلغ؟ أجيب: بأن المشقة الحاصلة للأم أعظم فإن الأب حمله خفيفاً لكونه من جملة جسده والأم حملته ثقيلاً آدمياً مودعاً فيها وبعد وضعه وتربيته ليلاً ونهاراً وبينهما ما لا يخفى من المشقة، ومن ثم قال ﷺ لمن قال له: من أبر؟: «أمك ثم أمك ثم أمك ثم قال بعد ذلك ثم أباك» وقوله تعالى ﴿أن اشكر لي﴾ لأني المنعم في الحقيقة ﴿ولوالديك﴾ أي: لكوني جعلتهما سبباً لوجودك والإحسان بتربيتك تفسير لوصينا أو عدة له، ثم علل الأمر بالشكر محذراً بقوله تعالى: ﴿إليّ﴾ لا إلى غيري ﴿المصير﴾ فأحاسبك على شركك ومعاصيك، وعن القيام بحقوقهما، قال سفيان بن عيينة في هذه الآية: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر لله، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر للوالدين، ولما ذكر تعالى وصيته بهما وأكد حقهما أتبعه الدليل على ما ذكر لقمان من قباحة الشرك بقوله تعالى:
﴿وإن جاهداك﴾ أي: مع ما أمرتك به من طاعتهما ﴿على أن تشرك بي﴾ وقوله تعالى ﴿وما ليس لك به علم﴾ موافق للواقع لأنه لا يمكن أن يدل علم من أنواع العلوم على شيء من الشرك بل العلوم كلها دالة على الوحدانية، ولما قرر ذلك على هذا المنوال البديع قال مسبباً عنه ﴿فلا تطعهما﴾ أي: في ذلك
الطويل والعمر الطويل والشيء الذي لا ينقطع ممدود قال الشاعر:

*غلب العزاء وكان غير مغلب دهر طويل دائم ممدود*
وفي صحيح الترمذي وغيره، عن أبي هريرة رضى الله عنه: عن النبيّ ﷺ أنه قال: «في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها، واقرؤوا إن شئتم ﴿وظلّ ممدود﴾ » في هذا الحديث ردّ على من يقول: إنّ الأشجار لا ظل لها وقد سئل السبكي عن الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولاً إذا تراءت له شجرة يقول: يا رب أدنني من هذه لأستظل في ظلها، الحديث من أيّ شيء يستظل والشمس قد كورت؟ أجاب بقوله تعالى: ﴿وظلّ ممدود﴾ وبقوله تعالى: ﴿هم وأزواجهم في ظلال﴾ (يس: ٥٦)
إذ لا يلزم من تكوير الشمس عدم الظل لأنه مخلوق لله تعالى وليس بعدم بل أمر وجودي له نفع بإذن الله تعالى في الأبدان وغيرها. فليس الظل عدم الشمس كما قد يتوهم؛ وروى عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما في قوله تعالى: ﴿وظلّ ممدود﴾ قال شجرة في الجنة يخرج إليها أهل الجنة فيتحدّثون، ويشتهي بعضهم لهو الدنيا فيرسل الله تعالى عليهم ريحاً من الجنة فتتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا ﴿وماء مسكوب﴾ أي: جار في منازلهم في غير أخدود لا يحتاجون فيه إلى جلب ماء من الأماكن البعيدة ولا إدلاء في بئر كأهل البوادي، فإن العرب كانت أصحاب بادية وبلاد حارّة، وكانت الأنهار في بلادهم عزيزة لا يصلون إلى الماء إلا بالدلو والرشاء فوعدوا في الجنة خلاف ذلك ﴿فاكهة كثيرة﴾ أي: أجناسها وأنواعها وأشخاصها ﴿لا مقطوعة ولا ممنوعة﴾ قال ابن عباس رضى الله عنهما: لا تنقطع إذا جنيت، ولا تمتنع من أحد إذ أراد أخذها، وقال بعضهم: لا مقطوعة بالأزمان ولا ممنوعة بالأثمان كما تنقطع أكثر ثمار الدنيا إذا جاء الشتاء، ولا يتوصل إليها إلا بالثمن؛ وقيل: لا يمنع من أرادها شوك ولا بعد ولا حائط بل إذا اشتهاها العبد دنت منه حتى يأخذها، قال تعالى ﴿قطوفها دانية﴾ (الحاقة: ٢٣)
وجاء في الحديث: «ما قطع من ثمار الجنة إلا أبدل الله تعالى مكانها ضعفين».
ولما كان التفكه لا يكمل الإلتذاذ به إلا مع الراحة قال تعالى: ﴿وفرش مرفوعة﴾ أي: رفيعة القدر يقال: ثوب رفيع، أي: عزيز مرتفع القدر والثمن بدليل قوله تعالى: ﴿متكئين على فرش بطائنها من استبرق﴾ (الرحمن: ٥٤)
فكيف ظهائرها أو مرفوعة فوق السرر بعضها فوق بعض؛ روى الترمذي عن أبي سعيد عن النبيّ ﷺ في قوله تعالى: ﴿وفرش مرفوعة﴾ قال: «ارتفاعها كما بين السماء والأرض مسيرة خمس مئة عام». قال: حديث غريب؛ وقيل: هي كناية عن النساء كما كنى عنهن باللباس، أي: ونساء مرتفعات الأقدار في حسنهن وكمالهن، والعرب تسمى المرأة فراشاً ولباساً على الاستعارة.
دليل هذا التأويل قوله تعالى: ﴿إنا﴾ أي: بمالنا من العظمة التي لا يتعاظمها شيء ﴿أنشاناهن﴾ أي: الفرش التي معناها النساء من أهل الدنيا بعد الموت بالبعث وزاد في التأكيد فقال تعالى: ﴿إنشاء﴾ أي: خلقاً جديداً من غير ولادة بل جمعناهن من التراب كسائر بني آدم، ليكونوا كأبيهم آدم عليه السلام في خلقه من تراب، لتكون الإعادة كالبداءة ولذلك يكون الكل عند دخول الجنة على شكله عليه السلام، وروى النحاس بإسناده أن أم سلمة سألت النبيّ ﷺ عن قوله تعالى: ﴿إنا أنشأناهن إنشاء﴾ فقال: «هن اللواتي قبضن في الدنيا عجائز شمطاً عمشاً


الصفحة التالية
Icon