هو أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلما كان أي: الكتمان إثماً مقترفاً أي: مختلطاً بالقلب أسند إليه؛ لأنه محل كتمان الشهادة وإسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، ألا ترى أنك تقول: إذا أردت التوكيد: هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي، ولأنّ القلب هو رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله، فكأنه قيل: فقد تمكن الإثم في أصل نفسه وملك أشرف مكان فيه، ولئلا يظنّ أنّ كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط وليعلم أنّ القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه واللسان ترجمان عنه، ولأنّ أفعال القلوب أعظم من سائر أفعال الجوارح وهي لها كالأصول التي تتشعب منها، ألا ترى أنّ أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر وهما من أفعال القلوب وإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب، فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «أكبر الكبائر الإشراك بالله لقوله تعالى: فقد حرم الله عليه الجنة وشهادة الزور وكتمان الشهادة».
تنبيه: آثم خبر إن وقلبه رفع بآثم على الفاعلية كأنه قيل: فإنه يأثم قلبه ويجوزن أن يرتفع قلبه بالإبتداء وآثم خبر مقدّم والجملة خبر إن وقوله تعالى: ﴿والله بما تعملون عليم﴾ تهديد؛ لأنه لا يخفى عليه منه شيء ﴿لله ما في السموات وما في الأرض﴾ خلقاً وملكاً قال الجلال السيوطي وعبيداً: ولعل ذكره بعد ملكاً لئلا يتوهم أنّ ما لما لا يعقل ﴿وإن تبدوا﴾ أي تظهروا ﴿ما في أنفسكم﴾ من السوء والعزم عليه ﴿أو تخفوه﴾ أي: تسروه ﴿يحاسبكم﴾ أي: يجزكم ﴿به الله﴾ يوم القيامة، والآية حجة على من أنكر الحساب كالمعتزلة والروافض ﴿فيغفر لمن يشاء﴾ مغفرته ﴿ويعذب من يشاء﴾ تعذيبه وهذا صريح في نفي وجوبه، وقرأ ابن عامر وعاصم برفع الراء: من يغفر ورفع الباء من يعذب على الإستئناف، والباقون بجزمهما عطفاً على جواب الشرط، وأدغم الراء المجزومة في اللام السوسي، واختلف عن الدوري وقول الزمخشري: ومدغم الراء في اللام لاحن مخطىء خطأ فاحشاً. ورواية عن أبي عمرو يعني السوسي مخطىء مرّتين؛ لأنه يلحن وينسب اللحن إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو مردود؛ لأنه مبنيّ على القول بأنّ الراء إنما تدغم في الراء لتكرّره الفائت بإدغامها في اللام ورد بأنّ ذلك قراءة أبي عمرو وهي متواترة مع أنّ القول بامتناع إدغام الراء في اللام إنما هو مذهب البصريين وأمّا الكوفيون بل وبعض البصريين كأبي عمرو فقائلون بالجواز كما نقله عنهم أبو حيان، ونقل أبو عمرو والكسائي وأبو جعفر صحة إدغام صار لي وصار لك عن العرب ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، ووجه الجعبري إدغام الراء في اللام بتقارب مخرجيهما على رأي سيبويه وتشاركهما على رأي الفرّاء وتجانسهما في الجهر والإنفتاح والإستفال ﴿وا على كل شيء قدير﴾ فيقدر على جزائكم ومحاسبتكم وقوله تعالى:
﴿آمن﴾ أي: صدق ﴿الرسول﴾ أي: محمد ﷺ ﴿بما أنزل إليه من ربه﴾ أي: من القرآن فيه شهادة وتنصيص من الله تعالى على صحة إيمانه والإعتداد به وأنه جازم في أمره غير شاك فيه وقوله تعالى: ﴿والمؤمنون﴾ عطف على الرسول
الهواء، فطارت يوماً حتى أبعدت في الهواء، فقال نمروذ لصاحبه: افتح الباب الأسفل، وانظر إلى الأرض كيف تراها؟ ففعل فقال: أرى الأرض مثل اللجة والجبال مثل الدخان قال: فطارت النسور، يوماً آخر وارتفعت حتى حالت الريح بينها وبين الطيران، فقال نمروذ لصاحبه: افتح الباب الأعلى، ففتح فإذا السماء كهيئتها، وفتح الباب الأسفل، فإذا الأرض سوداء مظلمة، ونودي أيها الطاغي أين تريد؟ قال عكرمة: كان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب، فرمى بسهم فعاد إليه السهم ملطخاً بالدم بدم سمكة قذفت نفسها من بحر في الهواء، وقيل: طائر أصابه السهم فقال: كفيت إله السماء، فنكس تلك العصيّ التي علق عليها اللحوم، فتسفلت النسور، وهبطت إلى الأرض، فسمعت الجبال حفيف التابوت والنسور، ففزعت وظنت أن قد حدث في السماء حدث وأن القيامة قد قامت، فكادت تزول عن أماكنها فذلك قوله تعالى: ﴿وإن كان مكرهم﴾، أي: من القوّة والضخامة ﴿لتزول منه الجبال﴾ قال الرازي: ولا حاجة في تأويل الآية إلى هذا، فإنه لم يجيء فيه خبر صحيح معتمد انتهى. والمراد بالجبال هنا قيل: حقيقتها وقيل شرائع الإسلام المشبهة بها في القرار والثبات. وقرأ الكسائيّ بفتح اللام الأولى ورفع الأخيرة، والباقون بكسر الأولى وفتح الثانية، والتقدير على القراءة الأولى: وإن كان بحيث أنه تزول منه
الجبال، وقيل: أن نافية واللام لتأكيد النفي.
﴿فلا تحسبنّ الله﴾ الخطاب له ﷺ والمراد منه أمّته ﴿مخلف وعده رسله﴾ من النصر وإعلاء الكلمة، وإظهار الدين كما قال تعالى: ﴿إنا لننصر رسلنا﴾ (غافر، ٥١)
. وقال تعالى: ﴿كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي﴾ (المجادلة، ٢١)
. فإن قيل: هلا قال مخلف رسله وعده ولم قدّم المفعول الثاني على الأوّل؟ أجيب: بأنه تعالى قدّم ذلك ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً كقوله تعالى: ﴿إنّ الله لا يخلف الميعاد﴾ (آل عمران، ٩)
ثم قال: رسله ليدل به على أنه تعالى لما لم يخلف وعده أحداً، وليس من شأنه إخلاف المواعيد، فكيف يخلف رسله الذين هم خيرته وصفوته؟ ﴿إنّ الله﴾، أي: ذو الجلال والإكرام ﴿عزيز﴾، أي: غالب يقدر ولا يقدر عليه ﴿ذو انتقام﴾، أي: ممن عصاه وقوله تعالى:
﴿س١٤ش٤٨/ش٥٢ يَوْمَ تُبَدَّلُ ا؟رْضُ غَيْرَ ا؟رْضِ وَالسَّمَاوَاتُ؟ وَبَرَزُوا؟ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَـ؟ـ؟ِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى ا؟صْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ؟ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَاذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا؟ بِهِ؟ وَلِيَعْلَمُو؟ا؟ أَنَّمَا هُوَ اله وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا؟ ا؟لْبَابِ﴾
بدل من يوم يأتيهم، أو ظرف للانتقام، والمعنى: يوم تبدل هذه الأرض التي تعرفونها أرضاً أخرى غير هذه المعروفة، وقوله تعالى: ﴿والسموات﴾ عطف على الأرض وتقديره والسموات غير السموات، والتبديل التغيير، وقد يكون في الذوات كقولك بدلت الدراهم دنانير، ومنه ﴿بدلناهم جلوداً غيرها﴾ (النساء، ٥٦)
﴿وبدلناهم بجنتيهم جنتين﴾ (سبأ، ١٦)
. وفي الأوصاف كقولك: بدلت الحلقة خاتماً، إذا أذبتها وسويتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل آخر، ومنه قوله تعالى: ﴿فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات﴾ (الفرقان، ٧٠)
والآية محتملة لكل واحد من هذين المفهومين، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هي تلك الأرض، وإنما تغير أوصافها، وأنشد:
*وما الناس بالناس الذين عهدتهم | ولا الدار بالدار التي كنت تعلم* |
عنه، وقيل هو الذي إذا سلم عليه لوى عنقه تكبراً، وقيل معناه: لا تحقر الفقير، ليكن الفقير والغني عندك سواء، ثم أتبع ذلك ما يلزمه بقوله ﴿ولا تمش﴾ وأشار بقوله ﴿في الأرض﴾ إلى أنّ أصله تراب وهو لا يقدر أن يعدوه وسيصير إليه وأوقع المصدر موقع الحال والعلة في قوله ﴿مرحاً﴾ أي: اختيالاً وتبختراً أي: لا تكن منك هذه الحقيقة لأن ذلك مشي أشر بطر متكبر فهو جدير بأن يظلم صاحبه ويفحش ويبغي بل أمش هوناً فإن ذلك يفضي بك إلى التواضع فتصل إلى كل خير فترفق بك الأرض إذا صرت في بطنها ﴿إنّ الله﴾ أي: الذي له الكبرياء والعظمة ﴿لا يحب﴾ أي: يعذب ﴿كل مختال﴾ أي: مراء للناس في مشيه متبختر يرى له فضلاً على الناس ﴿فخور﴾ على الناس بنفسه يظن أن إسباغ النعم الدنيوية من محبة الله تعالى له وذلك من جهله، فإن الله يسبغ نعمه على الكافر الجاحد فينبغي للعارف أن لا يتكبر على عباده فإن الكبر هو الذي تردى به سبحانه فمن نازعه فيه قصمه، ولما كان النهي عن ذلك أمراً بضدّه قال:
﴿واقصد﴾ أي: اقتصد واسلك الطريق الوسطى ﴿في مشيك﴾ بين ذلك قواماً أي: ليكن مشيك قصداً لا تخيلاً ولا إسراعاً أي: بين مشيين لا تدب دبيب المتماوتين ولا تثب وثب الشطار، قال ﷺ «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن» وأمّا قول عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما: كان إذا مشى أسرع، فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت، وقال عطاء: امش بالوقار والسكينة لقوله تعالى يمشون: على الأرض هوناً وعن ابن مسعود: كانوا ينهون عن وثب اليهود ودبيب النصارى، والقصد في الأفعال كالقسط في الأوزان، قاله الرازي: في اللوامع وهو المشي الهون الذي ليس فيه تصنع للخلق لا بتواضع، ولا بتكبر ﴿واغضض﴾ أي: انقص ﴿من صوتك﴾ لئلا يكون صوتك منكراً وتكون برفع الصوت فوق الحاجة كالأذان فهو مأمور به، وكانت الجاهلية يتمدحون برفع الصوت قال القائل:
*جهير الكلام جهير العطاس | جهير الروى جهير النغم* |
على الصغيرة ويدل على ذلك قولهم: بلغ الحنث أي: بلغ مبلغاً تلحقه فيه الكبيرة، ووصفه بالعظيم يخرج الصغائر فإنها لا توصف بذلك؛ قال الرازي: والحكمة في ذكره سبب عذابهم ولم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم فلم يقل إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين وذلك تنبيه على أنّ الثواب منه فضل والعقاب منه عدل، والفضل سواء ذكر سببه أو لم يذكر يتوهم بالتفضل نقص وظلم، وأما العدل إن لم يعلم سبب العقاب يظن أنّ هناك ظلماً، ويدل على ذلك أنه تعالى لم يقل في حق أصحاب اليمين ﴿جزاء بما كانوا يعملون﴾ كما قال في السابقين لأنّ أصحاب اليمين نجوا بالفضل العظيم لا بالعمل بخلاف من كثرت حسناته يحسن إطلاق الجزاء في حقه.
﴿وكانوا﴾ أي: زيادة على ما ذكر ﴿يقولون﴾ أي: إنكاراً مجددين لذلك دائماً عناداً ﴿أئذا﴾ أي أنبعث إذا ﴿متنا وكنا﴾ أي كوناً ثابتاً ﴿تراباً وعظاماً﴾ ثم أعادوا الاستفهام تأكيداً لإنكارهم فقالوا: ﴿أئنا لمبعوثون﴾ أي: كائن وثابت بعثنا ساعة من الدهر وأكدوا ليكون إنكارهم لما دون ذلك بطريق الأولى وقرأ قالون أئذا بتحقيق الهمزة الأولى، المفتوحة وتسهيل الثانية المكسورة وإدخال ألف بينهما وكسر الميم من متنا وهمزة واحدة مكسورة في أئناء، وقرأ ورش بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية ولا إدخال بينهما وكسر ميم متنا وهمزة واحدة مكسورة في أئنا مع النقل عن أصله؛ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بالاستفهام فيهما مع تسهيل الثانية إلا أنّ أبا عمرو يدخل بينهما ألفاً فيهما وابن كثير لا يدخل ألفاً وضما ميم متنا ﴿أو آباؤنا﴾ أي: أو تبعث آباؤنا ﴿الأولون﴾ أي: الذين قد بليت مع لحومهم عظامهم فصاروا كلهم تراباً ولا سيما أن حملتهم السيول ففرّقت أعضاءهم وذهبت بها في الآفاق؛ فإن قيل: كيف حسن العطف على المضمر في لمبعوثون من غير تأكيد بنحن؟ أجيب بأنه حسن للفاصل الذي هو الهمزة كما حسن في قوله تعالى: ﴿ما أشركنا ولا آباؤنا﴾ (الأنعام: ١٤٨)
لفصل لا المؤكدة للنفي، وقرأ قالون وابن عامر: بسكون الواو من أو والباقون بفتحها.
ثم ردّ الله تعالى عليهم قولهم ذلك بقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
﴿قل﴾ أي: لهؤلاء ولكل من كان مثلهم وأكد لإنكارهم ﴿إن الأولين﴾ أي: الذين جعلتم الاستبعاد فيهم وهم الآباء ﴿والآخرين﴾ وهم الأبناء ﴿لمجموعون﴾ أي: في المكان الذي يكون فيه الحساب ﴿إلى ميقات يوم﴾ أي: زمان ﴿معلوم﴾ أي: معين عند الله تعالى وهو يوم القيامة إذ هو من شأنه أن يعلم بما عليه من الأمارات والميقات ما وقت به الشيء من زمان أو مكان إلى حد ﴿ثم إنكم﴾ أي: بعد هذا الجمع ﴿أيها الضالون﴾ أي: الذين غلبت عليهم الغباوة فهم لا يفهمون فضلوا عن الهدى ثم اتبع ذلك ما أوجب الحكم عليهم بالضلال فقال تعالى: ﴿المكذبون﴾ بالبعث والخطاب لأهل مكة ومن في مثل حالهم ﴿لآكلون من شجر من زقوم﴾ وهو من أخبث الشجر المر بتهامة ينبتها الله تعالى في الجحيم فهو في غاية الكراهة وبشاعة المنظر ونتن الرائحة وقد مرّ الكلام على ذلك في الصافات
تنبيه: من الأولى لابتداء الغاية والثانية لبيان الشجر ﴿فمالؤن﴾ أي: ملأ هو في غاية الثبات وأنتم في غاية الإقبال عليه مع ما هو عليه من عظيم الكراهة ﴿منها﴾ أي: الشجر وأنثه لأنه جمع شجرة وهو اسم جنس، قال البقاعي: وهم يكرهون الإناث فتأنيثه والله أعلم زيادة في تنفيرهم؛ وقال الزمخشري: أنت ضمير الشجر على المعنى وذكره على اللفظ في قوله: ﴿منها﴾ وعليه وهو