وبقوله تعالى: ﴿الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب﴾ (الكهف، ١) وبقوله تعالى: ﴿وبالحق أنزلناه﴾ (الإسراء، ١٠٥) ويرد الثاني بقوله تعالى: ﴿وقال الذين كفروا: لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة﴾ (الفرقان، ٣٢) أجيب: بأن القول بذلك جرى على الغالب ﴿وأنزل الفرقان﴾ أي: الكتب الفارقة بين الحق والباطل وذكره بعد الكتب الثلاثة ليعم ما عداها، فكأنه قال: وأنزل سائر ما يفرق به بين الحق والباطل ولم يجمع؛ لأنه مصدر بمعنى الفرق كالغفران والكفران وقيل: القرآن وكرّر ذكره بما هو نعت له مدحاً وتعظيماً وإظهاراً لفضله من حيث أنه يشاركهما في كونه وحياً منزلاً وتمييز بأنه معجز يفرق به بين المحق والمبطل.
وقيل: أراد الكتاب الرابع وهو الزبور كما قال تعالى: ﴿وآتينا داود زبوراً﴾ (النساء، ١٦٣) قال الزمخشريّ: وهو ظاهر ولما قرّر سبحانه جميع ما يتعلق بمعرفة الإله أتبع ذلك بالوعيد زجراً للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرة فقال: ﴿إنّ الذين كفروا بآيات الله﴾ من القرآن وغيره ﴿لهم عذاب شديد﴾ بسبب كفرهم ﴿وا عزيز﴾ أي: غالب على أمره فلا يمنعه شيء من إنجاز وعده ووعيده ﴿ذو انتقام﴾ ممن عصاه والنقمة عقوبة المجرم أي: يعاقبه عقوبة شديدة لا يقدر على مثلها أحد.
﴿إنّ الله لا يخفى عليه شيء﴾ كائن ﴿في الأرض ولا في السماء﴾ لعلمه بما يقع في العالم من كليّ وجزئيّ.
فإن قيل: لم خصهما بالذكر مع أنه عالم بجميع الأشياء أجيب: بأنه تعالى إنما خصهما؛ به لأنّ البصر لا يتجاوزهما.
فإن قيل: لم قدّم الأرض على السماء؟ أجيب: بأنها إنما قدمت ترقياً من الأدنى إلى الأعلى وهذه الآية كالدليل على كونه حياً وقوله تعالى:
﴿هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء﴾ أي: من ذكورة وأنوثة، وبياض وسواد، وحسن وقبح، وتمام ونقص، وغير ذلك كالدليل على القيومية والاستدلال على أنه تعالى عالم بإتقان فعله في خلق الجنين وتصويره، وفي هذا ردّ على وفد نجران من النصارى حيث قالوا: عيسى ولد الله واستدلوا على ذلك بأمور منها: العلم، فإنه كان يخبر عن الغيوب، ويقول لهذا إنك أكلت في دارك كذا، ويقول لذاك إنك صنعت في دارك كذا، ومنها القدرة وهي أنّ عيسى كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيراً، فكأنه تعالى يقول: كيف يكون ولد الله وقد صوّره في الرحم والمصوّر لا يكون أب المصوّر ثم إنه تعالى لما أجاب عن شبهتهم أعاد كلمة التوحيد زجراً للنصارى عن قولهم التثليث فقال: ﴿لا إله إلا هو العزيز﴾ في ملكه وفيه إشارة إلى كمال القدرة، فقدرته تعالى أكمل من قدرة عيسى على الإماتة والإحياء ﴿الحكيم﴾ في صنعه. وفيه إشارة إلى كمال العلم فعلمه أكمل من علم عيسى بالغيوب، وأنّ علم عيسى ببعض الصور، وقدرته على بعض الصور لا يدل على كونه إلهاً بل على أنّ الله أكرمه بذلك إظهاراً لمعجزته وعجزه عن الإحياء في بعض الصور يوجب قطعاً عدم الإلهية؛ لأنّ الإله هو الذي يكون قادراً على كل الممكنات عالماً بجميع الجزئيات والكليات.
قال عبد الله بن مسعود: «حدّثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك ـ أو قال: يبعث إليه الملك ـ بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد وقال: وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع فيسبق الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها».
وروي أنه ﷺ قال: «يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم أربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول: يا رب شقي أم سعيد فيكتبان فيقول: أي رب ذكر أو أنثى فيكتبان فيكتب عمله وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص».
فإن قيل: لم خصهما بالذكر مع أنه عالم بجميع الأشياء أجيب: بأنه تعالى إنما خصهما؛ به لأنّ البصر لا يتجاوزهما.
فإن قيل: لم قدّم الأرض على السماء؟ أجيب: بأنها إنما قدمت ترقياً من الأدنى إلى الأعلى وهذه الآية كالدليل على كونه حياً وقوله تعالى:
﴿هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء﴾ أي: من ذكورة وأنوثة، وبياض وسواد، وحسن وقبح، وتمام ونقص، وغير ذلك كالدليل على القيومية والاستدلال على أنه تعالى عالم بإتقان فعله في خلق الجنين وتصويره، وفي هذا ردّ على وفد نجران من النصارى حيث قالوا: عيسى ولد الله واستدلوا على ذلك بأمور منها: العلم، فإنه كان يخبر عن الغيوب، ويقول لهذا إنك أكلت في دارك كذا، ويقول لذاك إنك صنعت في دارك كذا، ومنها القدرة وهي أنّ عيسى كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيراً، فكأنه تعالى يقول: كيف يكون ولد الله وقد صوّره في الرحم والمصوّر لا يكون أب المصوّر ثم إنه تعالى لما أجاب عن شبهتهم أعاد كلمة التوحيد زجراً للنصارى عن قولهم التثليث فقال: ﴿لا إله إلا هو العزيز﴾ في ملكه وفيه إشارة إلى كمال القدرة، فقدرته تعالى أكمل من قدرة عيسى على الإماتة والإحياء ﴿الحكيم﴾ في صنعه. وفيه إشارة إلى كمال العلم فعلمه أكمل من علم عيسى بالغيوب، وأنّ علم عيسى ببعض الصور، وقدرته على بعض الصور لا يدل على كونه إلهاً بل على أنّ الله أكرمه بذلك إظهاراً لمعجزته وعجزه عن الإحياء في بعض الصور يوجب قطعاً عدم الإلهية؛ لأنّ الإله هو الذي يكون قادراً على كل الممكنات عالماً بجميع الجزئيات والكليات.
قال عبد الله بن مسعود: «حدّثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك ـ أو قال: يبعث إليه الملك ـ بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد وقال: وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع فيسبق
بالسفاهة وقالوا: ﴿إنك لمجنون﴾ (الحجر، ٦)
. وكان عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء قال سبحانه وتعالى تسلية له على وجه رادّ عليهم:
﴿ولقد أرسلنا من قبلك﴾، أي: رسلاً فحذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه وقوله تعالى: ﴿في شيع﴾ أي: فرق ﴿الأوّلين﴾ من باب إضافة الصفة إلى الموصوف كقوله تعالى: ﴿حق اليقين﴾ (الواقعة، ٩٥)
سموا شيعاً لمتابعة بعضهم بعضاً في الأحوال التي يجتمعون عليها في الزمن الواحد، والشيع جمع شيعة وهي الفرقة المجتمعة المتفقة كلمتهم على مذهب وطريقة. وقال الفراء: الشيعة هم الأتباع وشيعة الرجل أتباعه، وقيل: الشيعة من يتقوى بهم الإنسان.
﴿وما يأتيهم﴾ عبر بالمضارع على حكاية الحال الماضية، فإن ما لا تدخل على مضارع إلا وهو في معنى الحال ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال، والأصل وما كان يأتيهم ﴿من رسول﴾، أي: على، أي: وجه كان ﴿إلا كانوا به﴾ جبلة وطبعاً ﴿يستهزؤون﴾ كاستهزاء قومك بك فصبروا فاصبر كما صبروا.
﴿كذلك﴾، أي: مثل ادخالنا التكذيب في قلوب هؤلاء المستهزئين بالرسل ﴿نسلكه﴾، أي: ندخله ﴿في قلوب المجرمين﴾، أي: كفار مكة المستهزئين.
﴿لا يؤمنون به﴾، أي: بالنبيّ ﷺ وقيل: بالقرآن. وفي الآية دليل على أنّ الله تعالى يخلق الباطل في قلوب الكفار والسلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط والرمح في المطعون، ومنه قوله تعالى: ﴿ما سلككم في سقر﴾ (الدثر، ٤٢)
وقيل: الضمير في نسلكه يعود للذكر كما أنّ الضمير في به يعود إليه وجملة لا يؤمنون به حال من ذلك الضمير والمعنى على هذا مثل ذلك السلك نسلك الذكر في قلوب المجرمين مكذباً به غير مؤمن به قال البيضاوي: وهذا الاستدلال ضعيف إذ لا يلزم من تعاقب الضمائر توافقها في المرجوع إليه اه. وما أعدت الضمير عليه في ذلك هو ما قاله ابن الخازن، وجرى عليه الجلال السيوطي وقوله تعالى: ﴿وقد خلت سنة الأولين﴾، أي: سنة الله فيهم من تعذيبهم بتكذيبهم أنبياءهم وعيد شديد لكفار مكة بأنه ينزل بهم مثل ما نزل بالأمم الماضية المكذبة، وقال الزجاج: قد مضت سنة الله في أن يسلك الكفر والضلال في قلوبهم.I
قال الرازي: وهذا أليق بظاهر اللفظ. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام تاء التأنيث في السين والباقون بالإظهار وقوله تعالى:
﴿ولو فتحنا عليهم باباً من السماء﴾ الآية هو المراد في سورة الأنعام في قوله تعالى: ﴿ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس﴾ (الأنعام، ٧)
الآية، أي: الذين يقولون لو ما تأتينا بالملائكة فلو أنزلنا الملائكة ﴿فظلوا فيه﴾، أي: فظلت الملائكة ﴿يعرجون﴾، أي: يصعدون في الباب وهم يرونها عياناً.
﴿لقالوا﴾، أي: من عتوّهم في الكفر ﴿إنما سكرت أبصارنا﴾، أي: سدت عن الأبصار بالسحر من السكر ويدل عليه قراءة ابن كثير بالتخفيف أو حيرت من السكر يدل عليه قراءة الباقين بالتشديد. ﴿بل نحن قوم مسحورون﴾، أي: قد سحرنا محمد بذلك، أي: كما قالوه عند ظهور غيره من الآيات كانشقاق القمر وما جاء به النبيّ ﷺ من القرآن المعجز الذي لا يستطيع الجنّ والإنس أن يأتوا بمثله. وقيل: الضمير في يعرجون للمشركين، أي: فظل المشركون يصعدون في ذلك الباب فينظرون في ملكوت السموات وما فيها من العجائب لما آمنوا لعنادهم وكفرهم وقالوا: إنما سحرنا. وقرأ الكسائي بإدغام لام بل في النون والباقون بالإظهار. ولما أجاب الله تعالى عن شبهة منكري
لسان من ألسنة الأحوال والأقوال لأنه هو الذي أنطقها ومن قيد الخرس أطلقها، ولما قال تعالى ﴿لله ما في السموات والأرض﴾ أوهم تناهي ملكه لانحصار ما في السموات والأرض فيهما وحكم العقل الصريح بتناهيهما، بين تعالى أنه لأحد ولا ضبط لمعلوماته ومقدوراته الموجبة لحمده بقوله تعالى:
﴿ولو أن ما في الأرض﴾ أي: كلها، ودل على الاستغراق وتقضي كل فرد فرد من أفراد الجنس بقوله تعالى: ﴿من شجرة﴾ حيث وحدها ﴿أقلام﴾ أي: والشجرة يمدّها من بعدها على سبيل المبالغة سبع شجرات وأنّ ما في الأرض من البحر مداد لتلك الأقلام ﴿والبحر﴾ أي: والحال أنّ البحر ﴿يمده﴾ أي: يكون مداداً له وزيادة فيه ﴿من بعده﴾ أي: من ورائه ﴿سبعة أبحر﴾ تكتب بتلك الأقلام وذلك المداد الذي الأرض كلها له دواة ﴿ما نفدت كلمات الله﴾ وفنيت الأقلام والمداد، قال المفسرون: نزل بمكة قوله تعالى.
﴿ويسئلونك عن الروح﴾ (الإسراء، ٨٥)
الآية فلما هاجر رسول الله ﷺ أتاه أحبار اليهود فقالوا يا محمد بلغنا أنك تقول وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أفعنيتنا أم قومك فقال ﷺ «كلاً قد عنيت، فقالوا: ألست تتلو فيما جاءك أنّا أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فقال: ﷺ هي في علم الله تعالى قليل وقد أتاكم ما إن عملتم به انتفعتم، قالوا: يا محمد كيف تزعم هذا وأنت تقول ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً فكيف يجتمع هذا علم قليل وخير كثير؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية»، وقال قتادة إنّ المشركين قالوا: إن القرآن وما يأتي به محمد يوشك أن ينفد فينقطع فنزلت، فإن قيل كان مقتضى الكلام أن يقال: ولو أنّ الشجر أقلام والبحر مداد؟ أجيب: بأنه أغنى عن ذكر المداد قوله تعالى يمدّه لأنه من مدّ الدواة وأمدّها جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة وجعل الأبحر السبعة مملوأة مداداً فهي تصب فيه مدادها أبداً صباً لا ينقطع، والمعنى: ولو أن أشجار الأرض أقلام، والبحر ممدود بسبعة أبحر وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله ما نفدت كلماته ونفدت الأقلام والمداد كقوله تعالى ﴿قل لو كان البحر مداد الكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي﴾ (الكهف: ١٠٩)
لأنّ المحصور لا يفي بما ليس بمحصور، فيا لها من عظمة لا تتناهى، ومن كبرياء لا يجارى ولا يضاهى.
فإن قيل لم قيل من شجرة على التوحيد دون اسم الجنس؟ أجيب: بأنه أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا وقد بريت أقلاماً، فإن قيل الكلمات جمع قلة والموضع موضع التكثير لا التقليل فهلا قيل كلم الله؟ أجيب: بأنّ معناه أنّ كلماته لا تفي بها البحار فكيف بكلمه، وقرأ أبو عمرو: والبحر بنصب الراء وذلك من وجهين: أحدهما: العطف على اسم أن، أي: ولو أنّ البحر، ويمدّه الخبر، والثاني: النصب بفعل مضمر يفسره يمدّه والواو حينئذ للحال والجملة حالية، ولم يحتج إلى ضمير رابط بين الحال وصاحبها للاستغناء عنه بالواو، والتقدير: ولو أنّ الذي في الأرض حال كون البحر ممدوداً بكذا، وقرأ الباقون برفع الراء وذلك من وجهين: أيضاً أحدهما: العطف على أن وما في حيزها، والثاني: أنه مبتدأ، ويمدّه الخبر، والجملة حالية والرابط الواو تنبيه: قوله تعالى سبعة، ليس لانحصارها في سبعة وإنما الإشارة إلى المدد والكثرة ولو بألف بحر، وإنما خصصت السبعة
ليعلم وقال بعضهم أنها حرف نفي وإنّ المنفي بها محذوف وهو كلام الكافر الجاهل والتقدير فلا حجة بما يقوله الكافر؛ ثم ابتدأ قسماً بما ذكر وضعف هذا بأنّ فيه حذف اسم لا وخبرها قال أبو حيان: ولا ينبغي فإنّ القائل بذلك مثل سعيد بن جبير تلميذ حبر القرآن وهو عبد الله بن عباس، ويبعد أن يقول سعيد إلا بتوقيف، وقال بعضهم: إنها لام الابتداء والأصل: فلأقسم فأشبعت الفتحة فتولد منها ألف كقول بعضهم: أعوذ بالله من العقراب قال الزمخشري: ولا يصح أن تكون اللام لام القسم لأمرين: أحدهما: أن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة والإخلال بها ضعيف قبيح، والثاني: أن لأفعلنّ في جواب القسم للاستقبال وفعل القسم يجب أن يكون للحال.
واختلف أيضاً في معنى قوله عز وجلّ: ﴿بمواقع النجوم﴾ فقال أكثر المفسرين: بمساقطها لغروبها، قال الزمخشري: ولعل الله تعالى في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالاً عظيمة مخصوصة وللملائكة عبادات موصوفة، أو لأنه وقت قيام المجتهدين والمبتهلين إليه من عباده الصالحين ونزول الرحمة والرضوان عليهم، فلذلك أقسم بمواقعها واستعظم ذلك بقوله تعالى: ﴿وإنه لقسم لو تعلمون عظيم﴾ وقال عطاء بن رباح: أراد بمواقعها منازلها، قال الزمخشري: وله في ذلك من الدليل على عظيم القدرة والحكمة ما لا يحيط به الوصف، وقال الحسن: مواقعها انكدارها وانتثارها يوم القيامة؛ وقال ابن عباس والسدي: المراد نجوم القرآن أي أوقات نزولها؛ وقال الضحاك: هي الأنواء التي كانت الجاهلية تقول إذا مطروا: مطرنا بنوء كذا، وقال القشيري: هو قسم ولله أن يقسم بما يريد وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفاته القديمة فإن قيل لو تعلمون جوابه ماذا؟ أجيب: بأنه مقدّر تقديره لعظمتموه أي: لو كنتم من ذوي العلم لعلمتم عظم هذا القسم ولكنكم ما علمتموه فعلم أنكم لا تعلمون، وقرأ بموقع حمزة والكسائي بسكون الواو ولا ألف بعدها والباقون بفتح الواو ألف بعدها.
وقوله تعالى: ﴿إنه﴾ أي: القرآن الذي أفهمته النجوم بعموم إفهامها ﴿لقرآن﴾ أي: جامع سهل ذو أنواع جليلة ﴿كريم﴾ أي: بالغ الكرم منزه عن كل شائبة لؤم ودناءة هو المقسم عليه، وفي الكلام اعتراضان أحدهما: الاعتراض بقوله تعالى: ﴿وإنه لقسم﴾ بين القسم والمقسم عليه، والثاني الاعتراض بقوله تعالى: ﴿لو تعلمون﴾ بين الصفة الموصوف.
تنبيه: من كرم هذا القرآن العظيم كونه من الملك الأعلى إلى خير الخلق بسفارة روح القدس، مشتملاً على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش والمعاد وبلسان العرب الذين اتفقت علماء الفرق على أنّ لسانهم أفصح الألسن، وعلى وجه أعجز العرب كافة وبقية الخلق أجمعين واختلف في معنى قوله تعالى: ﴿في كتاب﴾ أي: مكتوب ﴿مكنون﴾ أي: مصون فالذي عليه الأكثر أنه المصحف سمي قرآنا لقرب الجوار على الاتساع ولأنّ النبي ﷺ «نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدوّ». أراد به المصحف وقوله تعالى: ﴿لا يمسه﴾ خبر بمعنى النهي ولو كان باقياً على خبرتيه لزم منه الخلف لأنّ غير المطهر يمسه وخبر الله تعالى لا يقع فيه خلف لأنّ المراد بقوله تعالى: ﴿إلا المطهرون﴾ لا المحدثون وهو قول عطاء وطاوس وسالم والقاسم وأكثر أهل العلم وبه قال مالك والشافعي رضى الله عنهما؛ وقال