فالجسماني أشرفها تعديل البنية على أحسن شكل وهو المراد بقوله تعالى: ﴿هو الذي يصوّركم في الأرحام﴾ وأمّا الروحاني فأشرفها العلم وهو المراد بقوله: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب﴾ ولما حكى سبحانه وتعالى عن الراسخين في العلم أنهم يقولون: آمنا به حكى أنهم يقولون:
﴿ربنا لا تزغ﴾ أي: لا تمل ﴿قلوبنا﴾ عن طريق الحق إلى اتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه ﴿بعد إذ هديتنا﴾ وفقتنا لدينك والإيمان بالحكم والمتشابه. قال عليه الصلاة والسلام: «قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه ـ أي: القلب على الحق ـ وإن شاء أزاغه عنه» رواه الشيخان وغيرهما، وقيل: لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا وعلى هذا اقتصر الزمخشري ووجه بأنّ ما ذكر كناية أو مجاز إذ لا تحسن من الله الإزاغة ليشمل نفيها وهذا بناء على مذهبه من الإعتزال، وأمّا مذهب أهل السنة فالزيغ والهداية خلق الله تعالى وكان ﷺ يقول: «اللهمّ يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك» وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ «مثل القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهراً وبطناً» ﴿وهب لنا﴾ أي: أعطنا ﴿من لدنك﴾ أي: من عندك ﴿رحمة﴾ أي: توفيقاً وتثبيتاً للذي نحن عليه من الإيمان والهدى أو مغفرة للذنوب ﴿إنك أنت الوهاب﴾ لكل سؤل وفيه دليل على أنّ الهدى والضلال من الله تعالى وأنه متفضل بما ينعم على عباده لا يجب عليه شيء ما.
﴿ربنا إنك جامع الناس﴾ أي: تجمعهم ﴿ليوم﴾ أي: في يوم ﴿لا ريب﴾ أي: لا شك ﴿فيه﴾ أي: في وقوعه وما فيه من الحشر والجزاء وهو يوم القيامة فتجازيهم بأعمالهم كما وعدت وقوله تعالى: ﴿إنّ الله لا يخلف الميعاد﴾ أي: موعده بالبعث يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى، وأن يكون من كلام الراسخين فيكون فيه التفات عن الخطاب وكأنهم لما طلبوا من ربهم الصون عن الزيغ وأن يخصهم بالهداية والرحمة قالوا: ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها منقضية، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ووعدك حق فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبد الآباد ومن وفقته وهديته ورحمته بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد.
تنبيه: احتج الوعيدية بهذه الآية على القطع بوقوع وعيد الفساق قالوا: لأنّ الوعيد داخل تحت لفظ الوعد لقوله تعالى: ﴿قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً﴾ (الأعراف، ٤٤) والوعد والميعاد واحد وقد أخبر في هذه الآية أنه لا يخلف الميعاد. وأجيب: بأنا لا نسلم القول بالقطع بوقوع وعيد الفساق مطلقاً بل ذلك مشروط بعدم العفو كما هو مشروط بعدم التوبة بالإتفاق فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل، فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل سلمنا أنه توعدهم ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد ويكون قوله: ﴿فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً﴾ كقوله تعالى: ﴿فبشرهم بعذاب أليم﴾ (آل عمران، ٢١) وكقوله تعالى: ﴿ذق إنك أنت العزيز الكريم﴾ (الدخان، ٤٩) فيكون من باب التهكم، وذكر الواحدي في «البسيط» أنه يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء؛ لأنّ خلف الوعيد كرم عند العرب لأنهم يمدحون بذلك كما قال القائل:
وذلك خطأ فإنّ الله هو الرزاق يرزق المخدوم والخادم والمملوك والمالك لأنه تعالى خلق الأطعمة والأشربة وأعطى القوة الغاذية والهاضمة وإلا لم يحصل لأحد رزق. فإن قيل: صيغة من مختصة بمن يعقل؟ أجيب: بأنه تعالى أثبت لجميع الدواب رزقاً على الله تعالى حيث قال: ﴿وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها﴾ (هود: ٦)
﴿والأرض مددناها﴾ قال ابن عباس: بسطناها على وجه الماء. قال البغوي: يقال إنها مسيرة خمسمائة سنة في مثلها دحيت من تحت الكعبة. فإن قيل: فهل يدل ذلك على أنها بسيطة أو كرة عظيمة على ما يقوله أرباب الهيئة؟ أجيب: بأن ليس في الآية دلالة على شيء من ذلك، لأنّ الأرض على تقدير كونها كرة فهي في غاية العظمة والكرة العظيمة ترى كالسطح المستوي، وتقدّم الكلام على ذلك في سورة البقرة، وسيأتي زيادة على ذلك إن شاء الله تعالى في سورة والنازعات. النوع الثاني: قوله تعالى: ﴿وألقينا فيها رواسي﴾، أي: جبالاً ثوابت واحدها راس والجمع راسية وجمع الجمع رواسي. وهو كقوله تعالى: ﴿وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم﴾ (النحل، ١٥)
قال ابن عباس: لما بسط الله تعالى الأرض على الماء مالت بأهلها كالسفينة فأرساها الله تعالى بالجبال الثقال لكي لا تميد بأهلها، وقيل: إنّ الله تعالى خلقها لتكون دلالة للناس على طرق الأرض ونواحيها لأنها كالأعلام فلا تميل الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال. النوع الثالث: قوله تعالى: ﴿وأنبتنا فيها﴾ واختلف في عود ضمير فيها فقيل: يعود إلى الأرض لأنّ أنواع النبات المنتفع به يكون في الأرض وقيل: إلى الجبال لأنها أقرب مذكور ولقوله تعالى: ﴿من كل شيء موزون﴾ وإنما يوزن ما يتولد من الجبال والأولى عوده لهما، واختلفوا في المراد بالموزون فقال ابن عباس: ، أي: معلوم. وقال مجاهد: ، أي: مقدار معين تقتضيه حكمته. وقال الحسن: أعني به الشيء الموزون كالذهب والفضة والرصاص والحديد ونحو ذلك مما يستخرج من المعادن والأولى أنه جميع ما ينبت في الأرض والجبال، لأنّ ذلك نوعان أحدهما يستخرج من المعادن وجميع ذلك موزون. والثاني النبات فبعضه موزون وبعضه بالكيل وهو يرجع إلى الوزن لأنّ الصاع والمدّ مقدران بالوزن.
﴿وجعلنا لكم فيها﴾، أي: إنعاماً منا وتفضلاً عليكم ﴿معايش﴾ وهي بياء صريحة من غير مدّ جمع معيشة وهو ما يعيش به الإنسان مدّة حياته في الدنيا من المطاعم والملابس والمعادن وغيرها. ﴿و﴾ جعلنا لكم ﴿من لستم له برازقين﴾ من العبيد والأنعام والدواب والطير فإنكم تنتفعون بها ولستم لها برازقين لأنّ رزق جميع الخلق على الله تعالى وبعض الجهال يظنون في أكثر الأمر أنهم هم الذين يرزقون العيال والخدم والعبيد، وذلك خطأ فإنّ الله هو الرزاق يرزق المخدوم والخادم والمملوك والمالك لأنه تعالى خلق الأطعمة والأشربة وأعطى القوة الغاذية والهاضمة وإلا لم يحصل لأحد رزق. فإن قيل: صيغة من مختصة بمن يعقل؟ أجيب: بأنه تعالى أثبت لجميع الدواب رزقاً على الله تعالى حيث قال: ﴿وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها﴾ (هود: ٦)
فغلب من يعقل على غيره. حكي أنّ الماء قد قلّ في بعض الأودية والجبال واشتدّ الحرّ قال بعضهم: فرأيت بعض تلك الوحوش رفعت رؤوسها إلى السماء عند اشتداد عطشها قال: فرأيت الغيوم قد أقبلت وأمطرت وامتلأت الأودية. تنبيه: قيل لا يجوز أن يكون و ﴿من لستم له برازقين﴾ (الحجر، ٢٠)
مجروراً عطفاً على الضمير لا يقال: أخذت منك وزيد إلا بإعادة الخافض كما في قوله تعالى: ﴿وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح﴾ (الأحزاب، ٧)
والراجح الجواز كما قرئ قوله تعالى: ﴿تساءلون به والأرحام﴾ (النساء، ١)
بالخفض في القراءات السبع وهذا أعظم دليل.
ولما بين سبحانه وتعالى أنه أنبت لهم كل شيء موزون وجعل لهم معايش أشعر بذكر ما هو السبب لذلك فقال تعالى: ﴿وإن﴾، أي: وما ﴿من شيء﴾، أي: مما ذكر وغيره من الأشياء الممكنة وهي لا نهاية لها. ﴿إلا عندنا خزائنه﴾، أي: قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه فضرب الخزائن مثلاً لاقتداره على كل مقدور. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عند جدّه قال: في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البحر والبرّ والخزائن جمع خزانة وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه للحفظ. وقيل: أراد مفاتيح الخزائن، وقيل: المطر لأنه سبب الأرزاق لبني آدم والوحش والطير والدواب ومعنى عندنا، أي: في حكمه تعالى وتصرّفه وأمره وتدبيره ﴿وما ننزله﴾ من يفاع القدرة ﴿إلا بقدر معلوم﴾، أي: على حسب المصالح وقيل: إنّ لكل أرض حدّاً ومقداراً من المطر يقال: لا ينزل من السماء قطرة مطر إلا ومعها ملك يسوقها إلى حيث يشاء الله ولما أتم ما أراد من آيتي السماء والأرض وختمه بشمول قدرته لكل شيء أتبعه ما ينشأ عنهما مما هو بينهما مودعاً في خزائن قدرته بقوله تعالى:
﴿وأرسلنا الرياح﴾ جمع ريح وهو جسم لطيف منبث في الجوّ سريع الممر ﴿لواقح﴾، أي: حوامل لأنها تحمل الماء إلى السحاب فهي لاقحة، يقال: ناقة لاقحة إذا حملت الولد. وقال ابن مسعود: يرسل الله تعالى الريح فتحمل الماء فتمجه في السحاب ثم تمرّ به فتدرّ كما تدر اللقحة ثم تمطر. وقال عبيد بن عمير: يبعث الله تعالى الريح المثيرة فتثير السحاب ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب بعضه إلى بعض فتجعله ركاماً ثم يبعث الله اللواقح تلقح الشجر. وعن ابن عباس قال: ما هبت ريح قط إلا جثا النبيّ ﷺ على ركبتيه وقال: «اللهمّ اجعلها رحمة ولا تجعلها ريحاً». وعن عائشة رضي الله عنها «أنّ رسول الله ﷺ كان إذا عصفت الريح قال: اللهمّ إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها وشرّ ما أرسلت به». وقرأ حمزة بالإفراد والباقون بالجمع. ﴿فأنزلنا﴾، أي: بعظمتنا بسبب تلك السحاب التي حملتها الريح ﴿من السماء﴾، أي: الحقيقية أو جهتها أو السحاب لأنّ الأسباب المترقبة يسند الشيء تارة إلى القريب منها وتارة إلى البعيد ﴿ماء﴾ وهو جسم مائع سيال به حياة كل حيوان من شأنه الاغتذاء ﴿فأسقيناكموه﴾، أي: جعلناه لكم سقياً، يقال: سقيته ماء يشربه وأسقيته، أي:
عظمة الله ما كان يعرفه في الشدّة إلا من طبعهم الله تعالى على ذلك ووفقهم له وأعانهم عليه، ولهذا قال تعالى ﴿وقليل من عبادي الشكور﴾ (سبأ: ١٣)
وها أنا أسأل الله الحنان المنان من فضله أن يجعلني منهم ويفعل ذلك بأهلي وأحبابي فإنه كريم جواد، ولما ذكر تعالى أن في ذلك لآيات ذكر أنّ الكل معترفون غير أنّ البصير يدركه أوّلاً ومن في بصيرته ضعف لا يدركه أوّلاً كما قال تعالى:
﴿وإذا غشيهم﴾ أي: علاهم وهم في الفلك حتى صار كالمغطي لهم ﴿موج﴾ أي: هذا الجنس وأفرده لشدّة اضطرابه وإتيانه شيئاً في أثر شيء متابعاً يركب بعضه بعضاً كأنه شيء واحد، وأصله من الحركة والازدحام واختلف في قوله تعالى ﴿كالظلل﴾ فقال مقاتل: كالجبال، وقال الكلبي: كالسحاب. والظلل جمع ظلة شبه بها الموج في كثرتها وارتفاعها، فإن قيل: كيف جعل الموج وهو واحد كالظلل وهو جمع؟ أجيب: بأنّ الموج يأتي منه شيء بعد شيء فلما صاروا إلى هذه الحالة ﴿دعوا الله﴾ أي: مستحضرين لما يقدر عليه الإنسان من كماله بجلاله وجماله عالمين بجميع مضمون الآية السابقة من حقيته وعلوّه وكبريائه وبطلان ما يدعونه من دونه ﴿مخلصين له الدّين﴾ أي: الدعاء بأن ينجيهم لا يدعون شيئاً سواه بأنفسهم ولا قلوبهم لما اضطرّهم إلى ذلك ﴿فلما نجاهم﴾ أي: خلصهم من تلك الأهوال ﴿إلى البر﴾ نزلوا عن تلك المرتبة التي أخلصوا فيها الدين وانقسموا قسمين ﴿فمنهم﴾ أي: تسبب عن نعمة الإنجاء أنه كان منهم ﴿مقتصد﴾ أي: عدل موف في البرّ بما قد عاهد الله عليه في البحر من التوحيد له، بمعنى أنه ثبت على ذلك وهم قليل كما دل عليه التصريح بالتبعيض، قيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل هرب في عام الفتح إلى البحر فجاءتهم ريح عاصف فقال عكرمة: لئن نجاني الله من هذه لأرجعنّ إلى محمد ﷺ ولأضعنّ يدي في يده فسكنت الريح فرجع عكرمة إلى مكة فأسلم وحسن إسلامه، قال مجاهد: مقتصد في القول مضمر للكفر، قال الكلبي: مقتصد في القول أي: من الكفار لأنّ بعضهم كان أشدّ قولاً وأعلى في الافتراء من بعض ومنهم جاحد للنعمة ملق لجلبات الحياء في التصريح بذلك وهو الأكثر كما دل عليه ترك التصريح فيه بالتبعيض.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى في العنكبوت ﴿فلما نجاهم إلى البرّ إذا هم يشركون﴾ (العنكبوت: ٦٥)
وقال هنا ﴿فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد﴾ ؟ أجيب: بأنه لما ذكر ههنا أمراً عظيماً وهو الموج الذي كالجبال بقي أثر ذلك في قلوبهم فخرج منهم مقتصد، وهناك لم يذكر مع ركوب البحر معاينة مثل ذلك الأمر، فذكر إشراكهم حيث لم يبق عندهم أثر وقوله تعالى ﴿وما يجحدنا بآياتنا إلا كل ختار﴾ أي: غدّار فإنه نقض للعهد الفطري أي: لما كان في البحر والختر أشدّ الغدر ﴿كفور﴾ أي: للنعم في مقابله قوله تعالى إن في ذلك لآيات أي: يعترف بها الصبار الشكور، ويجحدها الختار الكفور، فالصبار في موازنة الختار لفظاً ومعنى، والكفور في موازنة الشكور كذلك أما لفظا فيهما فظاهر، وأمّا كون الختار في موازنة الصبار معنى فلأن الختار هو الغدّار الكثير الغدر أو شديد الغدر مثال مبالغة من الختر وهو أشدّ الغدر، والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر؛ لأنّ الصبور لا يعهده منه الإضرار فإنه يصبر ويفوّض الأمر إلى الله تعالى، وأما الغدّار ليعاهدك ولا يصبر على العهد فينقضه. وأما أن الكفور في
كفر من شك في كفر طائفة ابن العربي الذين ظاهر كلامهم عند غيرهم الاتحاد، وهو بحسب ما فهمه من ظاهر كلامهم، ولكن كلام هؤلاء جار على اصطلاحهم إذا اللفظ المصطلح عليه حقيقة في معناه الاصطلاحي مجاز في غيره، والمعتقد منهم لمعناه معتقد لمعنى صحيح؛ وأمّا من اعتقد ظاهره من جهلة الصوفية الذين لا علم عندهم بل أكثرهم يدعي أنّ العلم حجاب ومدعي ذلك هو المحجوب فإنه يعرّف فإن استمرّ على ذلك بعد معرفته صار كافراً. فنسأل الله تعالى التوفيق والعصمة.
ولما كان هذا القرآن متكفلاً بسعادة الدارين قال تعالى: ﴿وتجعلون رزقكم﴾ أي: حظكم ونصيبكم وجميع ما تنتفعون به من هذا الكتاب وهو نفعكم كله ﴿أنكم تكذبون﴾ فتضعون الكذب مكان الشكر كقوله تعالى: ﴿وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية﴾ (الأنفال: ٣٥)
أي: لم يكونوا يصلون ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصلاة، قال القرطبي: وفيه بيان أنّ ما أصاب العباد من خير فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسباباً بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة أو صبر إن كان مكروهاً تعبداً له وتذللاً، وعن ابن عباس: أنّ المراد به الاستسقاء بالأنواء، وهو قول العرب مطرنا بنوء كذا؛ ورواه علي بن أبي طالب عن النبيّ ﷺ وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: «مطر الناس على عهد رسول الله ﷺ فقال النبيّ ﷺ أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر فقال بعضهم: هذه رحمة الله تعالى وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا قال: فنزلت هذه الآية ﴿فلا أقسم بمواقع النجوم﴾ حتى بلغ ﴿وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون﴾ ».
وفيه أيضاً «أنّ النبيّ ﷺ خرج في سفر فعطشوا فقال النبيّ ﷺ أرأيتم إن دعوت الله تعالى لكم فسقيتم لعلكم أن تقولوا هذا المطر بنوء كذا فقالوا: يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء فصلى ركعتين ودعا الله تعالى، فهاجت ريح ثم هاجت سحابة فمطروا، فمر النبيّ ﷺ ومعه عصابة من أصحابه برجل يغترف بقدح له وهو يقول سقينا بنوء كذا ولم يقل هذا من رزق الله تعالى فنزلت ﴿وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون﴾ ». أي: شكراً الله على رزقه إياكم أنكم تكذبون بالنعمة، وتقولون: سقينا بنوء كذا كقول القائل: جعلت إحساني إليك إساءة منك إليّ وجعلت إنعامي لديك أن اتخذتني عدوّاً، قال الشافعي: لا أحب لأحد أن يقول مطرنا بنوء كذا وإن كان النوء عندنا الوقت لا يضرّ ولا ينفع ولا يمطر ولا يحبس شيئاً من المطر، والذي أحب أن يقول: مطرنا وقت كذا كما يقول مطرنا شهر كذا، ومن قال مطرنا بنوء كذا وهو يريد أن النوء أنزل الماء كما يقول أهل الشرك فهو كافر حلال دمه إن لم يتب. وحاصله إن اعتقد أنّ النوء هو الفاعل حقيقة فهو كافر وإلا فيكره له ذلك كراهة تنزيه، وسبب الكراهة: أنها كلمة مترددة بين الكفر وغيره فيساء الظنّ بقائلها ولأنها من شعار الجاهلية ومن سلك مسلكهم
ثم بين سبحانه أنه لا فاعل لشيء في الحقيقة سواه بقوله تعالى: ﴿فلولا﴾ وهي: أداة تفهم طلباً بزجر وتوبيخ وتقريع بمعنى فهلا ولم لا ﴿إذا بلغت الحلقوم﴾ أي: بلغت الروح منكم ومن غيركم عند الاحتضار الحلقوم، أضمرت من غير ذكر لدلالة الكلام عليها دلالة ظاهرة،


الصفحة التالية
Icon