*إذا وعد السرّاء أنجز وعده | وإن وعد الضرّاء فالعفو مانعه* |
*وإني وإن أوعدته أو وعدته | لمخلف إيعادي ومنجز موعدي* |
﴿إنّ الذين كفروا﴾ وهو عام في الكفرة، وقيل: المراد بهم وفد نجران أو اليهود أو مشركو العرب ﴿لن تغنيَ﴾ أي: لن تنفع ولن تدفع ﴿عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً﴾ أي: من عذابه وقيل: من رحمته أو من طاعته على معنى البدلية قاله البيضاوي: أي: على أنّ من للبدل والمعنى لن تغني عنهم من رحمة الله أو من طاعته شيئاً أي: بدل رحمته وطاعته. قال أبو حيان: وإثبات البدلية جمهور النحاة تأباه ﴿وأولئك هم وقود النار﴾ أي: حطبها وفي ذلك كمال العذاب؛ لأنّ كماله أن يزول عنه ما ينتفع به ثم يجتمع عليه الأسباب المؤلمة، فالأوّل هو المراد بقوله تعالى: ﴿لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم﴾ فإن المرء عند الشدّة يفزع إلى المال والولد؛ لأنهما أقرب الأمور التي يفزع إليها في دفع النوائب، فبين تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالفة لصفة الدنيا وإذا تعذر عليه الإنتفاع بالمال والولد وهما أقرب الطرق فما عداه بالتعذر أولى ونظيره ﴿يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم﴾ (الشعراء، ٨٩)، وأمّا الثاني من أسباب كمال العذاب وهو اجتماع الأسباب المؤلمة فهو المراد بقوله تعالى: ﴿وأولئك هم وقود النار﴾ وهذا هو النهاية في العذاب، فإنه لا عذاب أعظم من أن تشتعل النار فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس وقوله تعالى:
﴿كدأب آل فرعون﴾ إمّا استئناف مرفوع المحلّ خبر لمبتدأ مضمر تقديره دأبهم في ذلك كدأب آل فرعون، وإمّا متصل بما قبله أي: لن تغني عنهم كما لم تغن عن أولئك أو توقد النار بهم كما توقد النار بآل فرعون وقوله تعالى: ﴿والذين من قبلهم﴾ عطف على آل فرعون فيكون في محل جر وقيل: استئناف فيكون في محل رفع على الإبتداء والخبر، وقوله تعالى: ﴿كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم﴾ وعلى الأوّل تكون هذه الجملة مفسرة لما قبلها وقوله تعالى: ﴿وا شديد العقاب﴾ فيه تهويل للمؤاخذة وزيادة تخويف للكفرة.
«ولما أصاب رسول الله ﷺ قريشاً ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع وقال: يا معشر اليهود احذروا من الله تعالى أن ينزل بكم مثل ما نزل بقريش يوم بدر، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نبيّ مرسل تجدون ذلك في كتابكم فقالوا: يا محمد لا يغرّنك أنك لقيت أقواماً أغماراً أي: جهالاً جمع غمر لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة وإنا والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس» نزل.
﴿قل﴾ يا محمد ﴿للذين كفروا ستغلبون﴾ في الدنيا بالقتل والأسر وضرب الجزية، وقد وقع ذلك بقتل قريظة وإجلاء النضير وفتح خيبر وضرب الجزية على من عداهم ﴿وتحشرون﴾ في الآخرة ﴿إلى جهنم وبئس المهاد﴾ أي: الفراش والمخصوص بالذم محذوف أي: بئس المهاد جهنم. وفي هذه الآية إخبار عن أمر يحصل في المستقبل وقد وقع خبره على موافقته فكان هذا إخباراً بالغيب فكان معجزة ولهذا لما نزلت هذه الآية قال لهم ﷺ «إنّ الله غالبكم وحاشركم إلى جهنم» وقرأ حمزة والكسائي بالياء فيهما على
مكنته منه ليسقي به ماشيته ومن يريد، ونفى سبحانه وتعالى عن غيره ما أثبته أولاً لنفسه بقوله: ﴿وما أنتم له﴾، أي: لذلك الماء ﴿بخازنين﴾، أي: ليست خزائنه بأيديكم والخزن وضع الشيء في مكان مهيأ للحفظ فثبت أنّ القادر عليه واحد مختار ومن دلائل التوحيد الإحياء والإماتة كما قال تعالى:
﴿وإنا لنحن نحيي﴾، أي: لنا هذه الصفة على وجه العظمة فنحيي بها من نشاء من الحيوان بروح البدن ومن الروح بالمعارف ومن النبات بالنمو وإن كان أحدهما حقيقة والآخر مجازاً لأنّ الجمع جائز ﴿ونميت﴾، أي: لنا هذه الصفة فنبرز بها من عظمتنا ما نشاء. ﴿ونحن الوارثون﴾، أي: الإرث التام إذا مات الخلائق الباقون بعد كل شيء كما كنا ولا شيء فليس لأحد تصرّف بإماتة ولا إحياء، فثبت بذلك الوحدانية والفعل بالاختيار فلما ثبت بهذا كمال قدرته وكانت آثار القدرة لا تكون محكمة إلا بالعلم قال تعالى:
﴿ولقد علمنا المستقدمين منكم﴾ وهو من قضينا بموته أولاً من لدن آدم فيكون في موته كأنه يسارع إلى التقدّم إليه وإن كان هو وكل من أهله مجتهداً بالعلاج في تأخيره ﴿ولقد علمنا المستأخرين﴾، أي: الذين نمدّ في أعمارهم فنؤخر موتهم حتى يكونوا كأنهم يسابقون إلى ذلك وإن عالجوا الموت بشرب سم أو نحوه أو عالجه لهم غيرهم بضربهم بسيف أو غيره فعرف من ذلك قطعاً أن الفاعل واحد مختار. وقال ابن عباس: أراد بالمستقدمين الأموات وبالمستأخرين الأحياءز وقال عكرمة: المستقدمين من خلق الله تعالى والمستأخرين من لم يخلق. وقال الحسن: المستقدمين في الطاعة والخير والمستأخرين المستبطؤون عنه. وقيل: المستقدمين من القرون الأولى والمستأخرين أمّة محمد ﷺ وقيل: المستقدمين في الصفوف والمستأخرين فيها وذلك أنّ النساء كنّ يخرجن إلى الجماعة فيقفن خلف الرجال فربما كان في الرجال من في قلبه ريبة فيتأخر إلى آخر صف الرجال ومن النساء من في قلبها ريبة فتتقدم إلى أوّل صف النساء لتقرب من الرجال فقال النبيّ ﷺ «خير صفوف الرجال أوّلها وشرّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرّها أولها». تنبيه: في سبب نزول هذه الآية قولان أحدهما: أنّ امرأة حسناء كانت تصلي خلف النبيّ ﷺ فكان بعضهم يستقدم حتى يكون في أوّل صف حتى لا يراها ويتأخر بعضهم حتى يكون آخر صف، فإذا ركع نظر من تحت إبطه فنزلت. والثاني: أنّ النبيّ ﷺ حرّض على الصف الأوّل فازدحموا عليه، وقال قوم بيوتهم قاصية عن المسجد لنبيعنّ دورنا ولنشترين دوراً قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المقدم فنزلت.
﴿وإنّ ربك هو يحشرهم﴾، أي: المستقدمين والمستأخرين للجزاء وتوسط الضمير للدلالة على أنه القادر والمتولي لحشرهم لا غيره وتصدير الجملة بأنّ لتحقيق الوعد والتنبيه على أنّ ما سبق من الدلالة على كمال قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء يدل على صحة الحكم كما صرّح به بقوله تعالى: ﴿إنه حكيم﴾، أي: باهر الحكمة متقن في أفعاله ﴿عليم﴾ وسع علمه كل شيء، ولما استدل سبحانه وتعالى بتخليق الحيوانات على صحة التوحيد في الآية المتقدّمة أردفه بالاستدلال بتخليق الإنسان على هذا المطلوب بقوله تعالى:
﴿ولقد خلقنا الإنسان﴾ قال الرازي والمفسرون: أجمعوا على أنّ المراد منه آدم عليه السلام. ونقل
مقابلة الشكور معنى فظاهر، ولما ذكر تعالى الدلائل من أول السورة إلى هنا وعظ بالتقوى بقوله تعالى:
﴿يا أيها الناس﴾ أي: عامّة. وقيل: أهل مكة ﴿اتقوا ربكم﴾ أي: الذي لا محسن إليكم غيره ﴿واخشوا﴾ أي: خافوا ﴿يوماً﴾ لا يشبه الأيام ولا يعدّ هول البحر ولا غيره عند أدنى هول من أهواله شيئاً بوجه ﴿لا يجزي﴾ أي: لا يقضي ولا يغني ﴿والد عن ولده﴾ والراجع إلى الموصوف محذوف أي: لا يجزي فيه. وفي التعبير بالمضارع إشارة إلى أنّ الوالد لا تزال تدعوه الوالدية إلى الشفقة على الولد ويتجدّد عنده العطف والرقة. والمفعول إما محذوف لأنه أشدّ في النفي وإما مدلول عليه بما في الشق الذي بعده. وقوله تعالى ﴿ولا مولود﴾ عطف على والد أو مبتدأ وخبره ﴿هو جاز عن والده﴾ أي: فيه ﴿شيئاً﴾ من الجزاء وتغيير النظم للدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزي، وقطع طمع من توقع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة ﴿إنّ وعد الله﴾ أي: الذي له معاقد العز والجلال ﴿حق﴾ أي: أنّ هذا اليوم الذي هذا شأنه هو كائن؛ لأنّ الله تعالى وعد به ووعده حق، وقيل: إنّ وعد الله حق بأن لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً لأنه وعد بأن لا تزر وازرة وزر أخرى ووعد الله حق ﴿فلا تغرّنكم الحياة الدنيا﴾ بزخرفها ورونقها فإنها زائلة لوقوع اليوم المذكور بالوعد الحق ﴿ولا يغرّنكم بالله﴾ أي: الذي لا أعظم منه ولا مكافئ مع ولايته معكم ﴿الغرور﴾ أي: الكثير الغرور المبالغ فيه وهو الشيطان الذي لا أحقر منه لما جمع من البعد والطرد والاحتراق مع عداوته بما يزين لكم من أمرها ويلهيكم به من تعظيم قدرها وينسيكم كيدها وغدرها وتعبها وأذاها فيوجب ذلك لكم الإعراض عن ذلك اليوم فلا تعدّونه معاداً فلا تتخذون له زاد لما اقترن بغروره من حلم الله تعالى وإمهاله، قال سعيد بن جبير: الغرة بالله أن يعمل المعصية ويتمنى المغفرة، وروي أنّ الحارث بن عمرو أتى رسول الله ﷺ فقال متى قيام الساعة وإني قد ألقيت حباً في الأرض فمتى السماء تمطر، وحمل امرأتي أذكر أم
أنثى وما أعمل غداً وأين أموت؟ فنزل قوله تعالى:
﴿إن الله﴾ أي: بما له من العظمة وجميع أوصاف الكمال ﴿عنده﴾ أي: خاصة ﴿علم الساعة﴾ أي: وقت قيامها لا علم لغيره بذلك أصلاً ﴿وينزل الغيث﴾ أي: في أوانه المقدّر له والمحل المعين له في علمه، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بفتح النون وتشديد الزاي، والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي ﴿ويعلم ما في الأرحام﴾ أي: من ذكر أو أنثى أحيّ أو ميت تامّ أو ناقص ﴿وما تدري نفس﴾ أي: من الأنفس البشرية وغيرها ﴿ماذا تكسب غداً﴾ أي: من خير أو شرّ وربما تعزم على شيء وتفعل خلافه.
﴿وما تدري نفس بأي: أرض تموت﴾ أي: كما لا تدري في أي: وقت تموت ويعلمه الله تعالى، وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: جاء رجل من أهل البادية فقال: يا رسول الله إنّ امرأتي حبلى فأخبرني ما تلد، وبلادنا مجدبة فأخبرني متى ينزل الغيث، وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وعن عكرمة أنّ رجلاً يقال له الوارث من بني حازن جاء إلى النبيّ ﷺ فقال: يا محمد متى قيام الساعة وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب، وقد تركت امرأتي حبلى فمتى تلد، وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غداً، وقد علمت بأيّ أرض ولدت
وفي الحديث: «أن ملك الموت له أعوان يقطعون العروق ويجمعون الروح شيئاً فشيئاً حتى تنتهي إلى الحلقوم فيتوفاها ملك الموت». والحلقوم مجرى الطعام في الحلق والحلق مساغ الطعام والشراب معروف فكان الحلقوم أدنى الحلق إلى جهة اللسان ﴿وأنتم﴾ أي: والحال أنكم أيها العاكفون حول المحتضر المتوجعون له ﴿حينئذ﴾ أي: بلغت الروح ذلك الموضع ﴿تنظرون﴾ أي: إلى أمري وسلطاني، أو إلى الميت ولا حيلة لكم ولا فعل بغير النظر ولم يقل: تبصرون لئلا يظنّ أنّ لهم إدراكاً بالبصر لشيء من البواطن من حقيقة الروح ونحوها ﴿ونحن﴾ أي: والحال أنا نحن بما لنا من العظمة ﴿أقرب إليه﴾ أي: المحتضر بعلمنا وقدرتنا ﴿منكم﴾ على شدّة قربكم منه، قال عامر بن قيس: ما نظرت إلى شيء إلا رأيت الله أقرب إليّ منه ﴿ولكن لا تبصرون﴾ من البصيرة أي: لا تعلمون ذلك ﴿فلولا﴾ أي: فهلا ﴿إن كنتم﴾ أيها المكذبون بالعبث ﴿غير مدينين﴾ أي: مربوبين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم، أو مقهورين مملوكين مجزيين محاسبين بما عملتم في دار البلاء التي أقامكم فيها أحكم الحاكمين، من دانه إذا ذله واستعبده، وأصل تركيب دان للذل والإنقياد قاله البيضاوي ﴿ترجعونها﴾ أي: الروح إلى ما كانت عليه ﴿إن كنتم﴾ كوناً ثابتاً ﴿صادقين﴾ فيما زعمتم فلولا الثانية تأكيد للأولى، وإذ ظرف لترجعون المتعلق به الشرطان؛ والمعنى: أنكم في جحودكم أفعال الله تعالى وآياته في كل شيء أن أنزل عليكم كتاباً معجزاً قلتم سحر وافتراء، وإن أرسل إليكم رسولاً صادقاً قلتم ساحر كذاب، وإن رزقكم مطراً يحييكم به قلتم صدق نوء كذا على مذهب يؤدي إلى الإهمال والتعطيل، فما لكم لا
ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثم قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدئ المعيد.
ثم ذكر تعالى طبقات الخلق عند الموت وبين درجاتهم فقال عز من قائل: ﴿فأما إن كان﴾ المتوفى ﴿من المقرّبين﴾ السابقين الذين اجتذبهم الحق من أنفسهم فقرّبهم منه فكانوا مرادين قبل أن يكونوا مريدين، وليس القرب قرب مكان لأنه تعالى منزه عنه وإنما هو بالتخلق بالصفات الشريفة على قدر الطاقة البشرية ليصير الإنسان روحاً خالصاً كالملائكة لا سبيل إلى الحظوظ والشهوات عليها وقوله تعالى: ﴿فروح﴾ مبتدأ خبره مقدّر قبله أي: فله روح، أي: راحة ورحمة وما ينعشه من نسيم الريح. وقال سعيد بن جبير: فله فرج، وقال الضحاك: مغفرة ورحمة ﴿وريحان﴾ أي: رزق عظيم ونبات حسن بهيج وأزاهير طيبة الرائحة، وقال مقاتل: هو بلسان حمير رزق، يقال: خرجت أطلب ريحان الله أي: رزقه؛ وقيل: هو الريحان الذي يشم؛ قال أبو العالية: لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه ثم تقبض روحه؛ وقال أبو بكر الوراق: الروح النجاة من النار والريحان دخول دار القرار ﴿وجنت﴾ أي: بستان جامع الفواكه والرياحين ﴿نعيم﴾ أي: ذات تنعم ليس فيها غيره وأهله مقصورة عليهم.
تنبيه: جنت هنا مجرورة التاء ووقف عليها بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، فالكسائي بالأمالة في الوقف على أصله، والباقون بالتاء على المرسوم.
﴿وأما إن كان﴾ المتوفى ﴿من أصحاب اليمين﴾ أي: الذين هم في الدرجة الثانية من أصحاب الميمنة ﴿فسلام لك﴾ أي: يا صاحب اليمين