أنياب الكلاب ـ أي: في بياضها وصفرتها وانضمام بعضها إلى بعض، واللابتان حرّتان يكتنفانها والحرّة كل أرض ذات حجارة سوداء كأنها محترقة من الحرّ ثم ضرب الثانية فقال: أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم، ثم ضرب الثالثة فقال: أضاءت لي قصور صنعاء وأخبرني جبريل أنّ أمّتي ظاهرة على كلها أي: الأراضي التي أضاءت ـ فأبشروا، فقال المنافقون: ألا تعجبون يمنيكم أيها المؤمنون ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب ـ أي: المدينة ـ قصور الحيرة وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق ـ أي: الخوف ـ فنزلت». ونبه أيضاً على أن الشرّ بيده بقوله: ﴿إنك على كل شيء قدير﴾ والشرّ شيء ثم عقب ذلك ببيان قدرته على تعاقب الليل والنهار والموت والحياة وسعة فضله فقال:
﴿تولج﴾ أي: تدخل ﴿الليل في النهار﴾ حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات ﴿وتولج﴾ أي: تدخل ﴿النهار في الليل﴾ حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة، والنهار تسع ساعات فيزيد كل منهما بما نقص من الآخر ﴿وتخرج الحيّ من الميت﴾ كالإنسان من النطفة والطائر من البيضة ﴿وتخرج الميت من الحيّ﴾ كالنطفة من الإنسان والبيضة من الطائر، وقال الحسن وعطاء: تخرج المؤمن من الكافر، وتخرج الكافر من المؤمن فالمؤمن حيّ الفؤاد والكافر ميت الفؤاد قال الله تعالى: ﴿أومن كان ميتاً فأحييناه﴾ (الأنعام، ١٢٢) وقال الزجاج: تخرج النبات الغض الطريّ من الحب اليابس وتخرج الحب اليابس من النبات الحيّ النامي، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة: ﴿الميت﴾ بسكون الياء والباقون بكسر الياء مشدّدة.
﴿وترزق من تشاء بغير حساب﴾ أي: رزقاً واسعاً. عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ «إنّ فاتحة الكتاب وآية الكرسي والآيتين من آل عمران شهد الله إلى قوله: ﴿إنّ الدين عند الله الإسلام﴾، ﴿وقل اللهمّ مالك الملك﴾ إلى قوله ﴿بغير حساب﴾ معلقات ما بينهنّ وبين الله عز وجل حجاب قلن يا رب تهبطنا إلى أرضك وإلى من يعصيك؟ قال الله عز وجل بي حلفت لا يقرأكنّ أحد دبر كل صلاة إلا جعلت الجنة مثواه على ما كان فيه ولأسكننه حظيرة قدسي ولأنظرن إليه بعيني المكنونة كل يوم سبعين مرّة ولأقضينّ له كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة ولأعيذنه من كل عدوّ وحاسد ولأنصرنه منه».
﴿لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء﴾ يوالونهم. عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في المنافقين عبد الله بن أبيّ وأصحابه كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار يرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله ﷺ فأنزل الله هذه الآية ونهى المؤمنين أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها ويتعاشر وقوله تعالى: ﴿من دون﴾ أي: غير ﴿المؤمنين﴾ إشارة إلى أنهم الأحقاء بالموالاة وأنّ في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان ﴿ومن يفعل ذلك﴾ أي: يوالي الكفرة ﴿فليس من الله﴾ أي: من ولاية الله ﴿في شيء﴾ يصح أن يسمى ولاية شرعية فإنّ ولاية المتعاديين لا يجتمعان لما بينهما من التضاد كما قال القائل:


فيه وجهان أحدهما: أنه استثناء متصل على أنه مستثنى من الضمير المستكن في مجرمين بمعنى أجرموا كلهم إلا آل لوط فإنهم لم يجرموا، ويكون معنى قوله تعالى: ﴿إنا لمنجوهم أجمعين﴾ أي: لإيمانهم استئناف إخبار بنجاتهم لكونهم لم يجرموا أو يكون الإرسال حينئذ شاملاً للمجرمين ولآل لوط لا هلاك أولئك وإنجاء هؤلاء. والثاني: أنه استثناء منقطع لأنّ آل لوط لم يندرجوا في المجرمين البتة فيكون قوله تعالى: ﴿إنا لمنجوهم أجمعين﴾ جرى مجرى خبر لكن في اتصاله بآل لوط لأن المعنى لكن آل لوط منجوهم وقرأ حمزة والكسائي بسكون النون وتخفيف الجيم والباقون بفتح النون وتشديد الجيم وقوله تعالى:
﴿إلا امرأته﴾ استثناء من آل لوط أو من ضميرهم على الأوّل وعلى الثاني لا يكون إلا من ضميرهم لاختلاف الحكمين اللهم إلا أن يجعل ﴿إنا لمنجوهم﴾ اعتراضاً وقوله تعالى:
﴿قدّرنا﴾ قرأ شعبة بتخفيف الدال والباقون بالتشديد ﴿إنها لمن الغابرين﴾ أي: من الباقين في العذاب لكفرها.
تنبيه: معنى التقدير في اللغة جعل الشيء على مقدار غيره يقال: قدر هذا الشيء لهذا، أي: اجعله على مقداره وقدّر الله تعالى الأقوات، أي: جعلها على مقدار الكفاية ويفسر التقدير بالقضاء فيقال: قضى الله تعالى عليه وقدره عليه، أي: جعله على مقدار ما يكفي في الخير والشر وقيل: معنى قدّرنا كتبنا. وقال الزجاج: دبرنا. فإن قيل: لم أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله عز وجلّ؟ أجيب: بأنهم إنما ذكروا هذه العبارة لما لهم من القرب والاختصاص بالله تعالى كما تقول خاصة الملك دبرنا كذا وأمرنا بكذا والمدبر والآمر هو الملك لا هم وإنما يريدون بهذا الكلام إظهار ما لهم من الاختصاص بذلك الملك فكذا هنا. ولما بشر الملائكة عليهم السلام إبراهيم عليه السلام بالولد وأخبروه بأنهم مرسلون بعذاب قوم مجرمين ذهبوا بعد إبراهيم عليه السلام إلى لوط وآله وهذه هي القصة الثانية المذكورة في هذه السورة قال تعالى:
﴿فلما جاء آل لوط المرسلون﴾ ههنا همزتان مفتوحتان من كلمتين فقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط واحدة منهما مع المدّ والقصر. وقرأ ورش وقنبل بتسهيل الثانية وإبدالها حرف مدّ والباقون بتحقيق الهمزتين وكذا ﴿وجاء أهل المدينة﴾ (الحجر، ٦٧)
﴿قال﴾ لهم ﴿إنكم قوم منكرون﴾ لأنهم دخلوا عليه هجماً فاستنكرهم وخاف من دخولهم لأجل شر يوصلونه إليه، ولأجل أنهم كانوا شباباً مرداً حسان الوجوه فخاف أن يهجم قومه عليهم بسبب طلبهم فقال هذه الكلمة. وقيل: إنّ النكرة ضدّ المعرفة فقوله عليه السلام ﴿إنكم قوم منكرون﴾ أي: لا أعرفكم ولا أعرف أنكم من أي الأقوام أنتم، ولأيّ غرض دخلتم عليّ فعند ذلك.
﴿قالوا﴾ أي: الملائكة ﴿بل جئناك بما﴾ أي: بالعذاب الذي ﴿كانوا﴾ أي: قومك ﴿فيه يمترون﴾ أي: يشكون في نزوله بهم والجاهل يوصف بالشك وإن كان مكذباً من جهة ما يعرض له منه من حيث أنه لا يرجع إلى نفسه فيما هو عليه ثم أكدوا ما ذكروه بقولهم: ﴿وأتيناك بالحق﴾ أي: باليقين الذي لا يشك فيه ثم أكدوا هذا التأكيد بقولهم:
﴿وإنا لصادقون﴾ أي: فيما أخبرناك به ﴿فأسر بأهلك﴾ أي: فاذهب بهم في الليل ﴿بقطع من الليل﴾ أي: في طائفة من الليل وقيل: هي آخره، قال الشاعر:
*فليس أخي من ودّني رأي عينه ولكن أخي من ودّني في المغايب*

ملائكة الرحمة وأعوان من ملائكة العذاب. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب، وقال مجاهد: جعلت الأرض مثل الطست يتناول منها حيث يشاء.
وفي بعض الأخبار: أن ملك الموت على معراج بين السماء والأرض فتنزع أعوانه روح الإنسان، فإذا بلغ ثغرة نحره قبضه ملك الموت، وعن معاذ بن جبل أن لملك الموت حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب وهو يتصفح وجوه الناس فما من أهل بيت إلا وملك الموت يتصفحهم في كل يوم مرتين، فإذا رأى إنساناً قد انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة وقال: الآن يزار بك عسكر الموت، فيصير ملقىً لا روح في شيء منه وهو على حاله كاملاً لا نقص في شيء منه يدعى الخلل بسببه.
فإذا كان هذا فعل عبد من عبيده تعالى صرّفه في ذلك فقام به كما ترونه مع أن ممازجة الروح للبدن أشد من ممازجة تراب البدن لبقية التراب؛ لأنه ربما يستدل بعض الحذق على بعض ذلك بنوع دليل من شم ونحوه، فكيف يستبعد شيء من الأشياء على رب العالمين ومدبر الخلائق أجمعين. نسأل الله تعالى أن يقبضنا على التوحيد، وأن يستعملنا في طاعته ما أحيانا ويفعل ذلك بأهلنا وإحبائنا.
ولما قام هذا البرهان القطعي على قدرته التامة علم أن التقدير: ثم يعيدكم خلقاً جديداً كما كنتم أول مرة فحذفه كما هو عادة القرآن في حذف كل ما دل عليه السياق ولم يدع داع إلى ذكره، وعطف عليه قوله تعالى ﴿ثم إلى ربكم﴾ أي: الذي ابتدأ خلقكم وتربيتكم وأحسن إليكم غاية الإحسان ﴿ترجعون﴾ أي: تصيرون إليه أحياء فيجزيكم بأعمالكم.
ولما تقرر دليل البعث بما لا خفاء فيه ولا لبس شرع في بعض أحواله بقوله تعالى:
﴿ولو ترى﴾ أي: تبصر ﴿إذ المجرمون﴾ أي: الكافرون ﴿ناكسوا رؤوسهم﴾ أي: مطأطؤها خوفاً وخجلاً وحزناً وذلاً ﴿عند ربهم﴾ المحسن إليهم المتوحد بتدبيرهم قائلين بغاية الذل والرقة ﴿ربنا﴾ أي: المحسن إلينا ﴿أبصرنا﴾ أي: ما كنا نكذب به ﴿وسمعنا﴾ منك تصديق الرسل فيما كذبناهم فيه ﴿فارجعنا﴾ بمالك من هذه الصفة المقتضية للإحسان إلى الدنيا دار العمل ﴿نعمل صالحاً﴾ فيها ﴿إنا موقنون﴾ أي: ثابت لنا الآن الإيقان بجميع ما أخبرنا به عنك.w
فلا ينفعهم ذلك ولا يرجعون، وجواب لو محذوف تقديره: لرأيت أمراً فظيعاً، والمخاطب يحتمل أن يكون النبي ﷺ شفاء لصدره، فإنهم كانوا يؤذونه بالتكذيب، ويحتمل أن يكون عاماً. وإذ على بابها من المضي لأن لو تصرف المضارع للمضي، وإنما جيء هنا ماضياً لتحقيق وقوعه نحو ﴿أتى أمر الله﴾ (النحل: ١)
وجعله أبو البقاء مما وقع فيه إذ موقع إذا ولا حاجة إليه. وقوله تعالى:
﴿ولو شئنا﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿لآتينا كل نفس﴾ أي: مكلفة لأن الكلام فيها ﴿هداها﴾ فتهتدي بالإيمان والطاعة باختيار منها جواب عن قولهم ﴿ربنا أبصرنا وسمعنا﴾ وذلك أن الله تعالى قال: إني لو أردت منكم الإيمان لهديتكم في الدنيا، ولما لم أهدكم تبين أني ما أردت ولا شئت إيمانكم فلا أردكم، وهذا صريح في الدلالة على صحة مذهب أهل السنة حيث قالوا: إن الله تعالى ما أراد الإيمان من الكافر وما شاء منه إلا الكفر ﴿ولكن﴾ لم أشأ ذلك لأنه ﴿حق القول مني﴾ وأنا من لا يخلف الميعاد؛
وأبو إمامة: يغشى الناس يوم القيامة ظلمة؛ قال الماوردي: أظنها بعد فصل القضاء ثم يعطون نوراً يمشون فيه؛ وقال الكلبي: بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور فإذا سبقهم المؤمنون وبقوا في الظلمة قالوا للمؤمنين: ﴿انظرونا نقتبس من نوركم﴾ قيل لهم جواباً لسؤالهم؛ قال ابن عباس يقول لهم المؤمنون: أي: قول ردّ وتوبيخ وتهكم وتنديم ﴿ارجعوا وراءكم﴾ أي: ارجعوا إلى الموقف حيث أعطينا النور ﴿فالتمسوا نوراً﴾ هناك فمن ثم يقتبس أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه وهو الإيمان أو ارجعوا خائبين وتنحوا عنا والتمسوا نوراً آخر فلا سبيل لكم إلى هذا النور، وقد علموا أن لا نور وراءهم وإنما هو تخييب وإقناط لهم، وقال قتادة: تقول لهم الملائكة: ارجعوا وراءكم من حيث جئتم، وقرأ هشام والكسائي: بضم القاف والباقون بكسرها.
ولما كان التقدير فرجعوا أو فأقاموا في الظلمة سبب عنه وعقب قوله تعالى: ﴿فضرب بينهم﴾ أي: بين المؤمنين والمنافقين ﴿بسور﴾ أي: حائط حائل بين شق الجنة وشق النار ﴿له﴾ أي: لذلك السور ﴿باب﴾ موكل به حجاب لا يفتحون إلا لمن أذن له الله تعالى من المؤمنين لما يهديهم إليه من نورهم الذي بين أيديهم بشفاعة أو نحوها ﴿باطنه﴾ أي: ذلك السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة من جهة الذين آمنوا جزاء لإيمانهم الذي هو غيب ﴿فيه الرحمة﴾ وهي ما لهم من الكرامة لأنه يلي الجنة التي هي ساترة تبطن من فيها بأشجارها وبأستارها كما كانت بواطنهم ملآنة رحمة ﴿وظاهره﴾ أي: ما ظهر لأهل النار ﴿من قبله﴾ أي: من عنده ومن جهته ﴿العذاب﴾ وهو الظلمة والنار لأنه يليها لاقتصار أهلها على الظواهر من غير أن يكون لهم نفوذ إلى باطن، وروي عن عبد الله بن عمر أنّ السور الذي ذكر الله تعالى في القرآن هو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد وظاهره من قبله العذاب وادي جهنم.
وقال ابن سريج: كان كعب يقول: في الباب الذي يسمى باب الرحمة في بيت المقدس إنه الباب الذي قال الله تعالى: ﴿فضرب بينهم بسور له باب﴾ الآية، وقيل: السور عبارة عن منع المنافقين عن طلب المؤمنين ﴿ينادونهم﴾ أي: ينادي المنافقون الذين آمنوا ويترققون لهم ﴿ألم نكن معكم﴾ أي: في الدنيا نصلي ونصوم فنستحق المشاركة فيما صرتم إليه بسبب ذلك الذي كنا معكم فيه ﴿قالوا﴾ أي: الذين آمنوا ﴿بلى﴾ أي: كنتم معنا في الظاهر ﴿ولكنكم فتنتم أنفسكم﴾ أهلكتموها بالنفاق والكفر واستعملتموها في المعاصي والشهوات وكلها فتنة ﴿وتربصتم﴾ أي: بالإيمان والتوبة وبمحمد ﷺ وقلتم: يوشك أن يموت فنستريح منه ﴿وارتبتم﴾ أي: شككتم في الدين وفي نبوة محمد ﷺ وفيما وعدكم به ﴿وغرّتكم الأمانيّ﴾ أي: ما تتمنون من الإرادات التي معها شهوة عظيمة من الأطماع الفارغة التي لا سبب لها غير شهوة النفس إياها بما كنتم تتوقعون لنا من دوائر السوء ﴿حتى جاء أمر الله﴾ أي: قضاء الملك المتصف بجميع صفات الكمال فلا كفؤ له ولا خلف وقرأ قالون وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر، وقرأ ورش وقنبل بتسهيل الثانية، وأيضاً لهما إبدالها والباقون بتحقيقهما، وأمال الألف بعد الميم حمزة وابن ذكوان، والباقون


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
*افتحي الباب وانظري في النجوم كم علينا من قطع ليل بهيم