*تودّ عدوّي ثم تزعم أنني صديقك ليس النوك عنك بعازب*
بعين مهملة وزاي أي: بغائب والنوك بضم النون الحمق والجنون ثم استثنى فقال: ﴿إلا أن تتقوا منهم تقاة﴾ أي: إلا أن تخافوا منهم مخافة فلكم موالاتهم باللسان دون القلب كما قال عيسى عليه الصلاة والسلام: كن وسطاً ـ أي: في معاشرتهم ومخالفتهم ـ وامش جانباً ـ أي: من موافقتهم فيما يأمرون ويذرون ـ وهذا قبل عزة الإسلام ويجري في بلد ليس قوياً فيها، قال معاذ بن جبل ومجاهد: كانت التقية في بدء الإسلام قبل استحكام الدين وقوّة المسلمين وأمّا اليوم فقد أعز الله الإسلام فليس ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوّهم ﴿ويحذركم الله﴾ أي: يخوّفكم ﴿نفسه﴾ أن يغضب عليكم إن واليتموهم ﴿وإلى الله المصير﴾ أي: المرجع فيجازيكم فلا تتعرّضوا للسخط بمخالفة أحكامه وموالاة أعدائه وهو تهديد عظيم مشعر بتناهي المنهي عنه في القبح وذكر النفس ليعلم أن المحذر منه عقاب يصدر منه فلا يبالي عنده بما يحذر من الكفرة.
﴿قل﴾ لهم يا محمد ﴿إن تخفوا ما في صدوركم﴾ أي: قلوبكم من موالاة الكفار أو غيرها بما لا يرضى الله ﴿أو تبدوه﴾ أي: تظهروه ﴿يعلمه الله﴾ ويحفظه عليكم حتى يجازيكم به وقال الكلبيّ: إن تسرّوا ما في قلوبكم لرسول الله ﷺ من التكذيب أو تظهروه بحربه وقتاله يعلمه الله ﴿و﴾ هو الذي ﴿يعلم ما في السموات وما في الأرض﴾ لا يخفى عليه منه شيء قط فلا يخفى عليه سرّكم وعلانيتكم ﴿وا على كل شيء قدير﴾ فهو قادر على عقوبتكم إن لم تنتهوا عما نهيتم عنه وهذا بيان لقوله تعالى: ﴿ويحذركم الله نفسه﴾ لأنّ نفسه متصفة بعلم ذاتي يحيط بالمعلومات كلها وقدرة ذاتية تعمّ المقدورات بأسرها فلا تعصوه إذ ما من معصية إلا وهو مطلع عليها لا محالة قادر على العقاب بها ولو علم بعض عبيد السلطان أنه أراد الإطلاع على أحواله بأن يوكل من يتجسس عن مواطن أموره لأخذ حذره منه كل الحذر فما بال من علم أن العالم الذي يعلم السر وأخفى مهيمن عليه وهو آمن. اللهمّ إنا نعوذ بك من اغترارنا بسترك ونسألك اليقظة من سنة الغفلة.
﴿يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً﴾ نصب يوم بمضمر نحو اذكر وقوله تعالى: ﴿وما عملت﴾ أي: عملته ﴿من سوء﴾ مبتدأ خبره ﴿تودّ لو أنّ بينها﴾ أي: النفس ﴿وبينه﴾ أي: السوء ﴿أمداً بعيداً﴾ أي: غاية في نهاية البعد فلا يصل إليها، وكرّر سبحانه وتعالى: ﴿ويحذركم الله نفسه﴾، قال البيضاوي: للتأكيد والتذكير وقال التفتازاني: الأحسن ما قيل أنّ ذكره أوّلاً للمنع من موالاة الكافرين وثانياً للحث على عمل الخير والمنع من عمل الشرّ وقوله تعالى: ﴿وا رؤف بالعباد﴾ إشارة إلى أنه تعالى: إنما نهاهم وحذرهم رأفة بهم ومراعاة إصلاحهم. وعن الحسن من رأفته بهم أن حذرهم نفسه. وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي رؤوف بقصر الهمزة والباقون بالمدّ وورش على أصله في المدّ والتوسط والقصر ونزل في اليهود والنصارى حيث قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه.
﴿قل﴾ لهم يا محمد ﴿إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله﴾ وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: وقف النبيّ ﷺ على قريش وهم في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وهم يسجدون لها فقال: «يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسمعيل» فقال له قريش: إنما نعبدها
كأنه طال عليه الليل فخاطب ضجيعته بذلك أو كان يحب طول الليل للوصال. وقرأ نافع وابن كثير بوصل همزة فأسر بعد الفاء من السرى، والباقون بالقطع وهما بمعنى. ﴿واتبع أدبارهم﴾ أي: وكن على آثار أهلك وسر خلفهم وتطلع على أحوالهم ﴿ولا يلتفت منكم أحد﴾ أي: لئلا يرى أليم ما نزل بهم من البلاء، وقيل: جعل ترك الإلتفات علامة لمن ينجو من آل لوط ﴿وامضوا حيث تؤمرون﴾ أي: إلى المكان الذي أمركم الله بالمضيّ إليه، قال ابن عباس: هو الشأم. وقال الفضيل: حيث يقول لكم جبريل وذلك أن جبريل أمرهم أن يمضوا إلى قرية معينة ما عمل أهلها عمل قوم لوط، وقيل: إلى الأردن، وقيل: إلى مصر. تنبيه: حيث ههنا على بابها من كونها ظرف مكان مبهم ولإبهامها تعدى إليها الفعل من غير واسطة.
﴿وقضينا﴾ أي: وأوحينا ﴿إليه﴾ ولما ضمن قضينا معنى الإيحاء تعدى بإلى ومثله ﴿وقضينا إلى بني إسرائيل﴾ (الإسراء، ٤)
وقوله تعالى: ﴿ذلك الأمر﴾ مبهم تفسيره ﴿أن دابر هؤلاء مقطوع﴾ أي: مستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد وقوله تعالى: ﴿مصبحين﴾ حال من هؤلاء أو من الضمير في مقطوع وجمعه للحمل على المعنى فإن دابر هؤلاء في معنى مدبري هؤلاء، أي: يتم استئصالهم في الصباح.
﴿وجاء أهل المدينة﴾ أي: مدينة من مدائن قوم لوط وهي سذوم بسين مهملة وذال معجمة وأخطأ من قال بمهملة ﴿يستبشرون﴾ أي: بأضياف لوط طمعاً فيهم وليس في الآية دليل على المكان الذي جاؤوه إلا أن القضية تدل على أنهم جاؤوا دار لوط. وقيل: إن الملائكة لما كانوا في غاية الحسن اشتهر خبرهم حتى وصل إلى قوم لوط. وقيل: امرأة لوط أخبرتهم بذلك. قال الرازي: وبالجملة فالقوم قالوا نزل بلوط ثلاثة من المرد ما رأينا قط أصبح وجهاً ولا أحسن شكلاً منهم فذهبوا إلى دار لوط طلباً منهم لأولئك المرد والاستبشار إظهار السرور ولما وصلوا إليه.
﴿قال﴾ لهم لوط: ﴿إن هؤلاء ضيفي﴾ أي: وحق على الرجل إكرام الضيف ﴿فلا تفضحون﴾ فيهم يقال: فضحه إذا أظهر من أمره ما يلزم به العار وإذا قصد الضيف بسوء كان ذلك إهانة لصاحب المحل ثم أكد ذلك بقوله:
﴿واتقوا﴾ أي: خافوا ﴿الله﴾ في أمرهم ﴿ولا تخزون﴾ أي: ولا تخجلوني فيهم بقصدكم إياهم بفعل الفاحشة من الخزاية وهي الحياء أو لا تذلوني بسببهم من الخزي وهو الهوان.
﴿قالوا﴾ أي: قومه في جواب قوله لهم ﴿أو لم ننهك عن العالمين﴾ أي: عن أن تضيف أحداً من العالمين، وقيل: أو لم ننهك أن تدخل الغرباء المدينة فإنا نطلب منهم الفاحشة، وقيل: أو لم ننهك أن تمنع بيننا وبينهم فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد وكان لوط عليه السلام يمنعهم عنهم بقدر وسعه
ثم ﴿قال﴾ لهم: ﴿هؤلاء بناتي﴾ أي: نساء القوم لأن كل أمة أولاد نبيها رجالهم بنوه ونساؤهم بناته فكأنه قال لهم: هؤلاء بناتي فانكحوهنّ وخلوا بني فلا تتعرّضوا لهم ﴿إن كنتم فاعلين﴾ أي: ما أقول لكم أو قضاء الشهوة والكلام في ذلك قد مرّ بالاستقصاء في سورة هود وقرأ نافع بفتح ياء بناتي والباقون بسكونها قال الله تعالى لنبيه محمد ﷺ على لسان ملائكته:
﴿لعمرك﴾ أي: وحياتك وما أقسم بحياة أحد غيره وذلك يدل على أنه أكرم الخلق على الله تعالى ﴿إنهم لفي سكرتهم﴾ أي: شدّة غفلتهم التي أزالت عقولهم ﴿يعمهون﴾ أي: يتحيرون الخطاب للوط عليه السلام قالت له الملائكة ذلك، أي:
لأن الإخلاف إما العجزٍ أو نسيانٍ أو حاجةٍ ولا شيء من ذلك يليق بجنابي ولا يحل بساحتي، وأكد لأجل إنكارهم فقال مقسماً: ﴿لأملأن جهنم﴾ أي: التي هي محل إهانتي ﴿من الجنة﴾ أي: الجن طائفة إبليس، وكأنه تعالى أنثهم تحقيراً لهم عند من يستعظم أمرهم وبدأ بهم لاستعظامهم لهم ولأنهم الذين أضلوهم ﴿والناس أجمعين﴾ حيث قلت لإبليس: ﴿لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين﴾ (ص: ٨٥)
فلذلك شئت كفر الكافر وعصيان العاصي بعد أن جعلت لهم اختياراً، وغيبت العاقبة عنهم، فصار الكسب ينسب إليهم ظاهراً والخلق في الحقيقة والمشيئة لي.
ولما تسبب عن هذا القول الصادق أنه لا محيص بهم عن عذابهم قال لهم الخزنة إذا دخلوا جهنم:
﴿فذوقوا﴾ العذاب ﴿بما﴾ أي: بسبب ما ﴿نسيتم لقاء يومكم﴾ وحققه وبين ذلك بقوله تعالى: ﴿هذا﴾ أي: بترككم الإيمان به ﴿إنا نسيناكم﴾ أي: عاملناكم بمالنا من العظمة ولكم من الحقارة معاملة الناسي لكم فتركناكم في العذاب ﴿وذوقوا عذاب الخلد﴾ أي: المختص بأنه لا آخر له ﴿بما﴾ أي: بسبب ما ﴿كنتم تعملون﴾ أي: من الكفر والتكذيب وإنكار البعث.
ولما ذكر تعالى علامة أهل الكفر أن ذكر علامة أهل الإيمان بقوله تعالى:
﴿إنما يؤمن بآياتنا﴾ أي: الدالة على عظمتنا ﴿الذين إذا ذكروا بها﴾ أي: من أي: مذكر كان في أي: وقت كان ﴿خروا سجداً﴾ أي: بادروا إلى السجود مبادرة من كأنه سقط من غير قصد خضعاً لله من شدة تواضعهم وخشيتهم وإخباتهم خضوعاً ثابتاً دائماً ﴿وسبحوا﴾ أي: أوقعوا التسبيح به عن كل شائبة نقص متلبسين ﴿بحمد ربهم﴾ أي: قالوا سبحان الله وبحمده. وقيل: صلوا بأمر ربهم.
ولما تضمن هذا تواضعهم صرح به في قوله تعالى ﴿وهم لا يستكبرون﴾ أي: عن الإيمان والطاعة كما يفعل من يصير مستكبراً، وكان رسول الله ﷺ «يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ونسجد حتى ما يجد أحدنا مكاناً لموضع جبهته في غير وقت الصلاة» وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل إبليس يبكي يقول: يا ويلتي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» وهذه من عزائم سجود القرآن فتسن للقارئ والمستمع والسامع.
ولما كان المتواضع ربما ينسب إلى الكسل نفى ذلك عنهم مبيناً لما تضمنته الآية السالفة من خوفهم بقوله تعالى:
﴿تتجافى﴾ أي: ترتفع وتنبو ﴿جنوبهم عن المضاجع﴾ عبر به عن ترك النوم، قال ابن رواحة:
*نبيٌّ تجافى جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع*
والمضاجع: جمع المضجع وهو الموضع الذي يضجع عليه يعني الفراش وهم المتهجدون الذين يقيمون الصلاة. قال أنس: «نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي ﷺ وعن أنس أيضاً قال: «نزلت في أناس من أصحاب النبي ﷺ كانوا يصلون صلاة المغرب إلى صلاة العشاء» قال عطاء: هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الآخرة والفجر في جماعة.
وعنه ﷺ «من صلى العشاء في جماعة كان
بالفتح وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة الثانية مع المدّ والتوسط والقصر ﴿وغرّكم بالله﴾ أي: الملك الذي له جميع العظمة ﴿الغرور﴾ أي: من لا صنع له إلا الكذب وهو الشيطان فإنه يزين لكم بغروره التسويف ويقول: إنّ الله غفور رحيم وعفو كريم وماذا عسى أن تكون ذنوبكم عنده وهو عظيم ومحسن وحليم ونحو ذلك فلا يزال حتى يوقع الإنسان فإذا أوقعه واصل عليه مثل ذلك حتى يتمادى فإذا تمادى صار الباعث له حينئذ من قبل نفسه فصار طوع يده ﴿فاليوم﴾ أي: بسبب أفعالكم تلك ﴿لا يؤخذ منكم فدية﴾ أي: نوع من أنواع الفداء وهو البدل والعوض للنفس على أي حال كان من قلة أو
كثرة لأنّ الإله غني وقد فات محل العمل الذي شرعه لكم لانقياد أنفسكم، وقرأ ابن عامر بالتاء الفوقية على التأنيث والباقون بالتحتية على التذكير ﴿ولا من الذين كفروا﴾ أي: الذين أظهروا كفرهم ولم يستروه كما سترتموه أنتم لمساواتكم لهم في الكفر، وإنما عطف الكافر على المنافق وإن كان المنافق كافراً في الحقيقة لأنّ المنافق أبطن الكفر والكافر أظهره فصار غير المنافق فحسن عطفه على المنافق ﴿مأواكم النار﴾ أي: منزلكم ومسكنكم لا مقر لكم غيرها تحرقكم كما كنتم تحرقون قلوب الأولياء بإقبالكم على الشهوات وإضاعة حقوق ذوي الحاجات، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح، وورش لا يبدل هذه الهمزة ثم أكد ذلك بقوله تعالى: ﴿هي﴾ أي: لا غيرها ﴿مولاكم﴾ أي: هي أولى بكم وأنشد قول لبيد:
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه مولى المخافة خلفها وأمامها*
والشاهد في مولى المخافة فمولى بمعنى أولى والفرجان الجانبان وهو الخلف والقدام وهو وصف بقرة وحشية أي: غدت على حالة كلا جانبيها مخوف وحقيقته في الآية محراكم بحاء مهملة وراء أي: مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل هو مئنة للكرم أي: مكان، كقول القائل: إنه لكريم، ويجوز أن يراد هي ناصركم، أي: لا ناصر لكم غيرها، والمراد: نفي الناصر على البنات، وقيل: تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار.
ولما كان التقدير بئس المولى هي عطف عليه قوله تعالى: ﴿وبئس المصير﴾ أي: هذه النار واختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿ألم يأن﴾ أي: يحن ويدرك وينتهي إلى الغاية ﴿للذين آمنوا﴾ أي: أقرّوا بالإيمان ﴿أن تخشع﴾ أي: تلين وتسكن وتخضع وتذل وتطمئن ﴿قلوبهم لذكر الله﴾ أي: الملك الأعظم الذي لا خير إلا منه فيصدق في إيمانه من كان كاذباً ويقوى في الدين من كان ضعيفاً فيعرض عن الفاني ويقبل على الباقي ولا يطلب لداء دينه دواء ولا لمرض قلبه شفاء في غير القرآن، فقال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، وعن ابن مسعود رضى الله عنه: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، وعن الحسن: أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤون من القرآن أقل ما تقرؤون فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسق، وقيل: كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت؛ وعن أبي بكر رضى الله عنه: أنّ هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة


الصفحة التالية
Icon