حباً لله تعالى ليقرّبونا إلى الله زلفى، فقال الله تعالى: قل لهم يا محمد إن كنتم تحبون الله وتعبدون الأصنام لتقرّبكم إليه فاتبعوني يحببكم الله فأنا رسوله إليكم وحجته عليكم أي: اتبعوا شريعتي وسنتي يحببكم الله، فحب المؤمنين لله اتباعهم أمره وإيثار طاعته وابتغاء مرضاته وحب الله للمؤمنين ثناؤه عليهم وثوابه لهم وعفوه عنهم فذلك قوله تعالى: ﴿ويغفر لكم ذنوبكم وا غفور﴾ لمن اتبعني ما سلف من ذنبه قبل ذلك ﴿رحيم﴾ به. وعن الحسن زعم أقوام على عهد رسول الله ﷺ أنهم يحبون الله فأراد أن يجعل لقولهم تصديقاً من عملهم، فمن ادّعى محبته وخالف سنة رسوله ﷺ فهو كذاب وكتاب الله يكذبه، وإذا رأيت من يذكر محبة الله ويصفق بيديه مع ذكره ويطرب وينعر ويصعق فلا شك أنه لا يعرف ما الله ولا يدري ما محبة الله، وما تصفيقه وطربه ونعرته وصعقته إلا؛ لأنه تصوّر في نفسه الخبيثة صورة مستملحة معشقة فسماها الله بجهله وادّعائه ثم صفق وطرب ونعر وصعق عند تصوّرها وربما رأيت المنيّ قد ملأ إزار ذلك المحب عند صعقته وحمقى العامة حواليه قد ملؤوا أذقانهم بالدموع لما رأوه من حاله.
ولما نزلت هذه الآية قال عبد الله بن أبيّ لأصحابه: إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى نزل قوله تعالى:
﴿قل﴾ لهم ﴿أطيعوا الله والرسول﴾ فيما يأمركم به من التوحيد ﴿فإن تولوا﴾ أي: أعرضوا عن الطاعة ﴿فإنّ الله لا يحب الكافرين﴾ أي: لا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم وإنما أتى بالظاهر ولم يقل لا يحبهم لقصد العموم والدلالة على أنّ التولي كفر وأنه من هذه الحيثية ينفي محبة الله وأنّ محبته مخصوصة بالمؤمنين، ولما أوجب الله سبحانه وتعالى طاعة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وبيّن أنها الجالبة لمحبة الله عقب ذلك ببيان مناقبهم تحريضاً على الطاعة فقال تعالى:
﴿إن الله اصطفى﴾ أي: اختار ﴿آدم ونوحاً وآل إبراهيم﴾ وهم إسمعيل وإسحق وأولادهما الرسل وقد دخل في آل إبراهيم رسول الله ﷺ ﴿وآل عمران﴾ موسى وهرون ابنا عمران بن يصهر ﴿على العالمين﴾ بالرسالة والخصائص الروحانية والجسمانية، ولذلك قووا على ما لم يقو عليه غيرهم وبهذه الآية استدل على فضل الرسل على الملائكة وقيل: آل عمران عيسى وأمه مريم بنت عمران بن ماثان وكان بين العمرانين ألف وثمانمائة سنة وقيل: آل إبراهيم وآل عمران أنفسهما وقوله تعالى:
﴿ذرّية﴾ بدل من آل إبراهيم وآل عمران ﴿بعضها من﴾ ولد ﴿بعض﴾ منهم وقيل: بعضها من بعض في الدين والذرّية تقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى ﴿وا سميع﴾ لأقوال الناس ﴿عليم﴾ بأحوالهم فيصطفي من كان منهم مستقيم القول والحال، واذكر.
﴿إذ قالت امرأت عمران﴾ وهي حنة بنت فاقوذ أمّ مريم، وعمران هو عمران بن ماثان رئيس بني إسرائيل وليس هو عمران أبا موسى وهرون إذ كان بين العمرانين ألف وثمانمائة سنة كما مرّ وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم.
فائدة: رسمت امرأة بالتاء المجرورة ووقف ابن كثير وأبو عمرو والكسائيّ بالهاء، والباقون بالتاء، ووقف الكسائيّ بالفتح والإمالة وإذا وقف حمزة سهل الهمزة.
وروي أنّ حنة كانت عاقراً عجوزاً فبينما هي في ظل شجرة إذ رأت طائراً يطعم فرخه فحنت إلى الولد وتمنته فقالت: اللهمّ إن لك عليّ نذراً شكراً إن رزقتني ولداً أن أتصدّق به على بيت
فكيف يعقلون قولك ويلتفتون إلى نصيحتك. تنبيه: لعمرك مبتدأ محذوف الخبر وجوباً وإنهم وما حيزه جواب القسم تقديره: لعمرك قسمي أو يميني إنهم والعمر والعمر بالفتح والضم واحد وهو البقاء إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإيثار الأخف فيه وذلك لأنّ الحلف كثير الدور على ألسنتهم بلعمري ولعمرك. ﴿فأخذتهم الصيحة﴾ أي: صيحة هائلة مهلكة وهل هي صيحة جبريل عليه السلام. قال الرازي: ليس في الآية دليل على ذلك فإن ثبت بدليل قوي قيل به وإلا ليس في الآية دليل إلا أنهم جاءتهم صيحة عظيمة مهلكة وقوله تعالى: ﴿مشرقين﴾ أي: داخلين في وقت الشروق وهو بزوغ الشمس حال من مفعول أخذتهم ثم بين سبحانه وتعالى ما تسبب عن الصيحة معقباً لها بقوله تعالى:
﴿فجعلنا﴾ أي: بما لنا من العظمة والقدرة ﴿عاليها﴾ أي: مدائنهم ﴿سافلها﴾ بأن رفعها جبريل عليه السلام إلى السماء وأسقطها مقلوبة إلى الأرض ﴿وأمطرنا عليهم﴾ أي: أهل المدائن التي قلبت المدائن لأجلهم ﴿حجارة من سجيل﴾ أي: طين طبخ بالنار. تنبيه: دلت الآية الكريمة على أنّ الله تعالى عذبهم بثلاثة أنواع من العذاب أحدها الصيحة الهائلة المنكرة وثانيها: أنه جعل عاليها سافلها، وثالثها: أنه أمطر عليهم حجارة من سجيل، وتقدّمت الإشارة إلى ذلك في سورة هود.
﴿إنّ في ذلك﴾ أي: المذكور من هذه الأنواع ﴿لآيات﴾ أي: دلالات على وحدانية الله تعالى ﴿للمتوسمين﴾ أي: للناظرين المعتبرين جمع متوسم وهو الناظر في السمة حتى يعرف حقيقة الشيء وسمته.
﴿وإنها﴾ أي: هذه المدائن ﴿لبسبيل﴾ أي: طريق قريش إلى الشأم ﴿مقيم﴾ أي: لم يندرس بل يشاهدون ذلك ويرون أثره أفلا يعتبرون. ثم قال سبحانه وتعالى مشيراً إلى زيادة الحث على الاعتبار بالتأكيد
﴿إنّ في ذلك﴾ أي: هذا الأمر العظيم ﴿لآية﴾ أي: علامة عظيمة في الدلالة على وحدانيته تعالى ﴿للمؤمنين﴾ أي: كل من آمن بالله وصدّق الأنبياء والرسل عرف أنّ ذلك إنما كان لأجل أنّ الله تعالى انتقم لأنبيائه من أولئك الجهال، أمّا الذين لا يؤمنون بالله فإنهم يحملونه على حوادث العالم ووقائعه، ثم ذكر تعالى القصة الثالثة وهي قصة شعيب عليه السلام بقوله تعالى:
﴿وإن﴾ مخففة من الثقيلة، أي: وإنه ﴿كان﴾ أي: جبلة وطبعاً ﴿أصحاب الأيكة﴾ وهم قوم شعيب عليه السلام وقد ذكر الله تعالى قصتهم في سورة الشعراء والأيكة الشجر المتكاثف وقيل الشجر الملتف وقال ابن عباس: هي شجر المقل. وقال الكلبي: الأيكة الغيضة، أي: غيضة شجر بقرب مدين. ﴿لظالمين﴾ أي: عريقين في الظلم بتكذيبهم شعيباً عليه السلام.
﴿فانتقمنا منهم﴾ أي: بسبب ذلك قال المفسرون: اشتدّ الحرّ فيهم أياماً ثم اضطرم عليهم المكان ناراً فهلكوا عن آخرهم وقوله تعالى: ﴿وإنهما﴾ فيه قولان: الأوّل: أن المراد قرى قوم لوط والأيكة. والقول الثاني: أنّ الضمير للأيكة ومدين، لأنّ شعيباً كان مبعوثاً إليهما فلما ذكر الأيكة دل بذكرها على مدين فجاء ضميرهما ﴿لبإمامٍ﴾ أي: طريق ﴿مبين﴾ أي: واضح والإمام اسم لما يؤتم به. قال الفراء: إنما جعل الطريق إماماً لأنه يؤم ويتبع وقال ابن قتيبة: لأنّ المسافر يأتم به حتى يصل إلى الموضع الذي يريده ثم ذكر تعالى القصة الرابعة وهي قصة صالح عليه السلام بقوله
كقيام نصف ليلة، ومن صلى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة» وعن أنس كنا نجتنب الفرش قبل صلاة العشاء، وعنه أيضاً قال: «ما رأيت رسول الله ﷺ راقداً قط قبل العشاء ولا متحدثاً بعدها» فإن هذه الآية نزلت في ذلك، وعن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: «هم الذين لا ينامون قبل العشاء فأثنى عليهم» فلما ذكر ذلك جعل الرجل يعتزل فراشه مخافة أن تغلبه عينه فوقه قبل أن ينام الصغير ويكسل الكبير.
وعن مالك بن دينار قال: سألت أنساً عن هذه الآية فقال: كان قوم من أصحاب رسول الله ﷺ من المهاجرين الأولين يصلون المغرب ويصلون بعدها إلى العشاء الآخرة فنزلت هذه الآية فيهم، وعن ابن أبي حازم قال: هي ما بين المغرب والعشاء صلاة الأوابين، وعن معاذ بن جبل عن النبي ﷺ في قوله تعالى: ﴿تتجافى جنوبهم عن المضاجع﴾ قال: قيام العبد من الليل، وعن معاذ بن جبل أيضاً قال: «كنت مع رسول الله ﷺ في سفر فأصبحت يوماً قريباً منه وهو يسير فقلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال: لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل من جوف الليل، ثم قرأ ﴿تتجافى جنوبهم عن المضاجع﴾ حتى بلغ ﴿يعملون﴾ ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فقلت: بلى يا نبي الله فأخذ بلسانه فقال: كف عنك هذا فقلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم».
وعن كعب قال: إذا حشر الناس نادى مناد: هذا يوم الفصل أين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع أين الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم
ثم يخرج عنق من نار فيقول: أمرت بثلاثٍ: بمن جَعَلَ مع الله إلهاً آخر، وبكل جبار عنيد، وبكل معتدٍ، لأَنَا أعرف بالرجل من الوالد بولده والمولود بوالده، ويؤمر بفقراء المسلمين إلى الجنة فيحبسون فيقولون: تحبسونا ما كان لنا أموال وما كنا أمراء، وعن أبي أمامة الباهلي أن رسول الله ﷺ قال: «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى ربكم وتكفير للسيئات ومنهاة عن الآثام ومطردة للداء».
وعن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: «عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقاً مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله فانهزم مع أصحابه فعلم ما عليه من الانهزام وما عليه في الرجوع فرجع حتى هريق دمه» وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ «كان يقوم الليل حتى تنفطر قدماه فقلت: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: أفلا أكون عبداً شكوراً» وعن علي أن رسول الله ﷺ قال: «إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها أعدّها الله لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام».
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ربيعة الخرشي قال: يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد
فبكوا بكاء شديداً فنظر إليهم وقال: هكذا كنا حتى قست القلوب وقال الشاعر:

*ألم يأن لي يا قلب أن نترك الجهلا وأن يحدث الشيب المنير لنا عقلا*
وقوله تعالى: ﴿وما نزل من الحق﴾ أي: القرآن عطف على الذكر عطف أحد الوصفين على الآخر لأن القرآن جامع للأمرين للذكر والموعظة أو أنه حق نازل من السموات؛ ويجوز أن يراد بالذكر أن يذكر الله تعالى، وقرأ نافع وحفص بتخفيف الزاي والباقون بالتشديد وقوله تعالى: ﴿ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل﴾ أي: قبل ما نزل إليكم وهم اليهود والنصارى معطوف على تخشع والمراد: النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكى عنهم بقوله تعالى: ﴿فطال عليهم الأمد﴾ أي: الأجل لطول أعمارهم أو آمالهم أو ما بينهم وبين أنبيائهم ﴿فقست﴾ أي: بسبب الطول ﴿قلوبهم﴾ أي: صلبت واعوجت بحيث لا تنفعل بالطاعات والخير فكانوا كل حين في تعنت جديد على أنبيائهم عليهم السلام يسألونهم المقترحات، وأما بعد أنبيائهم فابعدوا في القساوة فمالوا إلى دار الكدر وأعرضوا عن دار الصفاء فانجروا إلى الهلاك باتباع الشهوات؛ قال القشيري: وقسوة القلب إنما تحصل باتباع الشهوة فإن الشهوة والصفوة لا يجتمعان؛ وعن أبي موسى الأشعري: أنه بعث إلى قراء البصرة فدخل عليه ثلاث مئة رجل قد قرؤوا القرآن فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاقرؤه ولا تطيلوا عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم ﴿وكثير منهم﴾ أخرجته قساوته عن الدين أصلاً ورأسا فهم ﴿فاسقون﴾ أي: عريقون في صفة الإقدام على الخروج من دائرة الحق التي حدها لهم الكتاب حتى تركوا الإيمان بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وقوله تعالى:
﴿اعلموا أن الله﴾ أي: الملك الأعظم الذي له الكمال كله فلا يعجزه شيء ﴿يحيي﴾ أي: على سبيل التجديد والاستمرار كما تشاهدونه ﴿الأرض﴾ أي: بالنبات ﴿بعد موتها﴾ أي: يبسها تمثيل لإحياء الأموات بجميع أجسادهم وإفاضة الأرواح عليها كما فعل بالنبات وكما فعل بالأجسام أول مرة، ولإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة فاحذروا سطوته واخشوا غضبه وارجوا رحمته، لإحياء القلوب فإنه قادر على إحيائها بروح الوحي كما أحيا الأرض بروح الماء لتصير بأحيائها بالذكر خاشعة بعد قسوتها كما صارت الأرض رابية بعد خشوعها وموتها. ﴿ {
ولما انكشف الأمر بهذه غاية الانكشاف أنتج قوله تعالى: {قد بينا﴾
أي: على مالنا من العظمة ﴿لكم الآيات﴾ أي: العلامات النيرات ﴿لعلكم تعقلون﴾ أي: لتكونوا عند من يعلم ذلك ويمنعه من الخلائق على رجاء من حصول العقل لكم بما يتجدد لكم من فهمه على سبيل التواصل الدائم بالاستمرار
وقرأ: ﴿إن المصدقين﴾ أي: العريقين في هذا الوصف من الرجال ﴿والمصدقات﴾ أي: من النساء، ابن كثير وشعبة بتخفيف الصاد فيهما من التصديق بالإيمان والباقون بالتشديد فيهما من التصدق أدغمت التاء في الصاد أي: الذين تصدقوا وقوله تعالى: ﴿وأقرضوا الله﴾ أي: الذي له الكمال كله عطف على معنى الفعل في المصدقين لأنّ اللام بمعنى الذين واسم الفاعل بمعنى أصدقوا كأنه قيل: إنّ الذين أصدقوا وأقرضوا الله ﴿قرضاً حسناً﴾ أي: بغاية ما يكون من طيب النفس وإخلاص النية والنفقة


الصفحة التالية
Icon