وليس بعجيب إنكارها من أهل البدع والأهواء إذا لم يشاهدوا ذلك من أنفسهم ولم يسمعوا به من رؤسائهم الذين يزعمون أنهم على شيء، فوقعوا في أولياء الله تعالى أصحاب الكرامات يمزقونهم ويسمونهم بالجملة المتصوّفة ولم يعرفوا أنّ مبنى هذا الأمر على صفاء العقيدة ونقاء السريرة واقتفاء الطريقة واصطفاء الحقيقة، وإنما العجب من بعض فقهاء أهل السنة حيث قال فيما روي عن إبراهيم بن أدهم أنهم رأوه بالبصرة يوم التروية وفي ذلك اليوم بمكة أنّ من اعتقد جواز ذلك يكفر والإنصاف ما ذكره الإمام النسفيّ حين سئل عما يحكى أنّ الكعبة كانت تزور بعض الأولياء هل يجوز القول به؟ فقال: نقض العادة على سبيل الكرامة لأهل الولاية جائز عند أهل السنة.
وروي أن النبيّ ﷺ جاع في زمن قحط فأهدت له فاطمة رضي الله تعالى عنها رغيفين وبضعة لحم في طبق مغطى آثرته به فرجع بذلك إليها وقال: «هلمي يا بنية» فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزاً ولحماً فبهتت وعلمت أنّ ذلك نزل من عند الله فقال لها رسول الله ﷺ «أنى لك هذا؟» قالت: هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب فقال لها عليه الصلاة والسلام: «الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل» ثم جمع ﷺ علياً والحسن والحسين وجميع أهل بيته، فأكلوا حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو فأوسعت فاطمة على جيرانها». فهذه كرامة لفاطمة رضي الله تعالى عنها وفي هذه الرواية دليل على أنّ قوله تعالى: ﴿إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب﴾ أي: رزقاً واسعاً بلا تبعة من كلام مريم رضي الله تعالى عنها ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى.
ولما رأى زكريا كرامة مريم ومنزلتها عند الله قال: إنّ الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير حينها من غير سبب قادر على أن يصلح زوجتي ويهب لي ولداً في غير حينه على الكبر فطمع في الولد وذلك أنّ أهل بيته كانوا قد انقرضوا وكان زكريا قد شاخ وأيس من الولد قال الله عز وجل:
﴿هنالك دعا زكريا ربه﴾ أي: في ذلك المكان أو الوقت، قال الزمخشريّ: قد تستعار هنا، وثم وحيث للزمان أي: لمشابهة الزمان للمكان في الظرفية فاستعير له فدخل زكريا المحراب وناجى ربه في جوف الليل ﴿قال﴾ يا ﴿ربّ هب لي﴾ أي: أعطني ﴿من لدنك﴾ أي: من عندك ﴿ذرية طيبة﴾ كما وهبتها لحنة العجوز العاقر أي: ولداً مباركاً تقياً صالحاً رضياً، والذرّية يكون واحداً وجمعاً ذكراً وأنثى وهو هنا واحد بدليل قوله: ﴿فهب لي من لدنك ولياً يرثني﴾ (مريم، ٦) وإنما قال طيبة لتأنيث لفظ الذرّية ﴿إنك سميع﴾ أي: مجيب ﴿الدعاء﴾ لمن دعاك فلا تردّني خائباً ﴿فنادته الملائكة﴾ أي: جنسهم كقولهم: فلان يركب الخيل فإنّ المنادى كان هو جبريل وحده، وقرأ حمزة والكسائيّ فناداه بالإمالة والتذكير، والباقون بالتاء ﴿وهو قائم يصلي في المحراب﴾ أي: المسجد وذلك أنّ زكريا كان هو الحبر الكبير الذي يقرب القربان ويفتح باب المذبح فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول فبينما هو قائم يصلي في المحراب والناس ينتظرون أن يؤذن لهم في الدخول، فإذا هو برجل شاب عليه ثياب بيض، ففزع منه فناداه وهو جبريل.
وقرأ ﴿إن الله يبشرك بيحيى﴾ ابن عامر وحمزة بكسر الهمزة على إرادة القول، أو لأنّ النداء نوع من القول، والباقون بالفتح على بأن، وقرأ حمزة والكسائيّ بفتح الياء من يبشرك وسكون الباء الموحدة وضمّ الشين
عليه وسلم «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن»، أي: لم يستغن. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ﴿لا تمدّنّ عينيك﴾ أي: لا تتمنّ ما فضلنا به أحداً من متاع الدنيا، وقيل: أتت من بعض البلاد سبع قوافل ليهود قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب والجوهر وسائر الأمتعة فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في طاعة الله تعالى فقال الله تعالى: لقد أعطيتكم سبع آيات هنّ خير من هذه القوافل السبع. وقرّر الواحدي هذا المعنى فقال: إنما يكون مادًّا عينيه إلى الشيء إذا أدام النظر نحوه وإدامة النظر إلى الشيء تدل على استحسانه وتمنيه. وكان النبيّ ﷺ لا ينظر إلى ما يستحسن من متاع الدنيا. روي أنه نظر إلى نعم بني المصطلق وقد عوست في أبوالها وأبعارها وهو أن تجف أبوالها وأبعارها على أفخاذها إذا تركت من العمل أيام الربيع فتكثر شحومها ولحومها وهي أحسن ما تكون. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم». وقوله تعالى: ﴿ولا تحزن عليهم﴾ نهي له عن الالتفات إليهم إن لم يؤمنوا فيخلصوا أنفسهم من النار. ولما نهاه سبحانه وتعالى عن الالتفات إلى أولئك الأغنياء من الكفار أمره بالتواضع لفقراء المسلمين بقوله تعالى:
﴿واخفض جناحك﴾ أي: ألن جانبك ﴿للمؤمنين﴾ أي: العريقين في هذا الوصف واصبر نفسك معهم وارفق بهم. ولما أمر الله تعالى رسوله ﷺ بالزهد في الدنيا والتواضع للمؤمنين أمره بتبليغ ما أرسل به إليهم بقوله تعالى: ﴿وقل إني أنا النذير﴾ من عذاب الله أن ينزل عليكم إن لم تؤمنوا. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالسكون ﴿المبين﴾ أي: البين الإنذار وقوله تعالى: ﴿كما أنزلنا﴾ أي: العذاب ﴿على المقتسمين﴾ قال ابن عباس: هم اليهود والنصارى سموا بذلك لأنهم آمنوا ببعض القرآن وكفروا ببعضه فما وافق كتبهم آمنوا به وما خالف كتبهم كفروا به. وقال عكرمة: إنهم اقتسموا سور القرآن فقال واحد: هذه السورة لي. وقال آخر: هذه السورة لي، وإنما فعلوا ذلك استهزاء به. وقال مجاهد: أنهم اقتسموا كتبهم فآمن بعضهم ببعضها وكفر بعضهم ببعضها. وقال قتادة: أراد بالمقتسمين كفار قريش قال: سموا بذلك لأنّ أقوالهم تقسمت في القرآن فقال بعضهم: إنه سحر وزعم بعضهم أنه كهانة وزعم بعضهم أنه أساطير الأوّلين. وقال ابن السائب: سموا بالمقتسمين لأنهم اقتسموا طرق مكة، وذلك أنّ الوليد بن المغيرة بعث رهطاً من أهل مكة قيل: ستة عشر، وقيل: أربعين. وقال: انطلقوا فتفرّقوا على طرق مكة حيث يمر بكم أهل الموسم فإذا سألوكم عن محمد فليقل بعضكم: إنه مجنون وليقل بعضكم: إنه كاهن وليقل بعضكم: إنه ساحر وليقل بعضكم: إنه شاعر فذهبوا وقعدوا على طرق مكة يقولون ذلك لمن يمرّ بهم من حجاج العرب وقعد الوليد بن المغيرة على باب المسجد الحرام نصبوه حكماً فإذا جاؤوا سألوا عما قال أولئك فيقول: صدقوا فأهلكهم الله تعالى يوم بدر.
وقوله تعالى: ﴿الذين جعلوا القرآن عضين﴾ نعت للمقتسمين وقال ابن عباس: هم اليهود والنصارى جزؤوا القرآن أجزاء فآمنوا بما وافق التوراة والإنجيل وكفروا بالباقي. وقال مجاهد: قسموا كتاب الله ففرقوه وبدّدوه، وقيل: كانوا يستهزؤون به
أي: رب فأي أهل الجنة أرفع منزلة؟ قال: إياها أردت وسأحدثك عنهم، إني غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها فلا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال: ومصداق ذلك في كتاب الله ﴿فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين﴾.
ونزل في علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه والوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان لأمه حين تنازعا فقال الوليد بن عقبة لعلي: اسكت فإنك صبي وأنا شيخ وأنا والله أبسط منك لساناً وأحد منك سناناً وأشجع جناناً وأملأ منك حشواً في الكتيبة، فقال له علي اسكت فإنك فاسق.
﴿أفمن كان مؤمناً﴾ أي: راسخاً في التصديق بجميع ما أخبرت به الرسل ﴿كمن كان فاسقاً﴾ أي: راسخاً في الفسق خارجاً عن دائرة الإذعان وقال تعالى ﴿لا يستوون﴾ ولم يقل تعالى لا يستويان؛ لأنه لم يرد مؤمناً واحداً ولا فاسقاً واحداً بل أراد جميع المؤمنين وجميع الفاسقين فلا يستوي جمع من هؤلاء بجميع من أولئك ولا فرد بفرد. قال قتادة: لا يستوون لا في الدنيا ولا عند الموت ولا في الآخرة.
ولما نفى استواءهم أتبعه حال كلَ على سبيل التفصيل وبدأ بحال المؤمن بقوله تعالى:
﴿أما الذي آمنوا وعملوا﴾ أي: تصديقاً لإيمانهم ﴿الصالحات﴾ أي: الطاعات ﴿فلهم جنات المأوى﴾ أي: التي يأوي إليها المؤمنون فإنها المأوى الحقيقي والدنيا منزل مرتحل عنها لا محالة، وهي نوع من الجنات قال الله تعالى: ﴿ولقد رآه نزله أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى﴾ (النجم: ١٣، ١٥)
سميت بذلك لما روى عن ابن عباس قال: تأوي إليها أرواح الشهداء وقيل هي عن يمين العرش ﴿نزلاً﴾ أي: عداداً لهم أول قدومهم قال البقاعي: كما يهيأ للضيف على ما لاح أي: عند قدومه ﴿بما﴾ أي: بسبب ما ﴿كانوا يعملون﴾ من الطاعات فإن أعمالهم من رحمة ربهم، وإذا كانت هذه الجناب نزلاً فماظنك بما بعد ذلك هو لعمري ما أشار إليه قوله ﷺ «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» وهم كل لحظة في زيادة لأن قدرة الله تعالى لا نهاية لها، فإياك أن تخادع أو يغرنك ملحد، ثم ثنى بحال الكافر بقوله تعالى:
﴿وأما الذين فسقوا﴾ أي: خرجوا عن دائرة الإيمان الذي هو معدن التواضع وأهل للمصاحبة والملازمة ﴿فمأواهم النار﴾ أي: التي لا صلاحية فيها للإيواء بوجه من الوجوه ملجؤهم ومنزلهم أي: فالنار لهم مكان جنة المأوى للمؤمنين ﴿كلما أرادوا﴾ أي: وهم مجتمعون، فكيف إذا أراد بعضهم ﴿أن يخرجوا منها﴾ بأن يخيل إليهم ما يظنون به القدرة على الخروج منها كما كانوا يخرجون نفوسهم من محيط الأدلة ومن دائرة الطاعات إلى ميدان المعاصي والزلات فيعالجون الخروج، فإذا ظنوا أنه تيسر لهم وهم بعد في غمراتها ﴿أعيدوا فيها﴾ فهو عبارة عن خلودهم فيها ﴿وقيل لهم﴾ أي: من أي: قائل وكل بهم ﴿ذوقوا عذاب النار﴾ إهانة لهم وزيادة في تغيظهم وقوله تعالى ﴿الذي كنتم به تكذبون﴾ صفة لعذاب، وجوز أبو البقاء أن يكون صفة للنار قال: وذكر على معنى الجحيم والحريق.
ولما كان المؤمنون الآن يتمنون إصابتهم بشيء من الهوان قال تعالى:
﴿ولنذيقهم من العذاب الأدنى﴾ أي: عذاب الدنيا، قال الحسن: هو مصائب الدنيا وأسقامها وقال عكرمة: الجوع بمكة تسع سنين أكلوا فيها الجيف والعظام والكلاب، وقال ابن مسعود: هو القتل بالسيف يوم بدر ﴿دون العذاب الأكبر﴾ وهو عذاب
إلا ذلك لأنه لا يسر بقدر ما يضر تأكيد لما سبق، قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة.
ثم أرشدهم الله تعالى إلى المسابقة إلى الخيرات لأنّ الدنيا خيال ومحال، والآخرة بقاء وكمال بقوله تعالى:
﴿سابقوا﴾ أي: سارعوا مسارعة المسابقين في المضمار ﴿إلى مغفرة﴾ أي: ستر لذنوبكم عيناً وأثراً ﴿من ربكم﴾ أي: المحسن إليكم بأنواع الخيرات التي توجب المغفرة لكم من ربكم، وقال الكلبي: سارعوا بالتوبة لأنها تؤدي إلى المغفرة، وقال مكحول: هي التكبيرة الأولى مع الإمام، وقيل: الصف الأول ﴿وجنة﴾ أي: وبستان هو من عظم أشجاره واطراد أنهاره بحيث يستر داخله ﴿عرضها كعرض السماء والأرض﴾ أي: السموات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها ببعض لكان عرض الجنة في قدرها جميعاً، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد أن لكل واحد من المطيعين جنة بهذه السعة، وقال مقاتل: إنّ السموات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها إلى بعض لكانت عرض جنة واحدة من الجنان، وسأل عمر ناس من اليهود إذا كانت الجنة عرضها ذلك فأين النار؟ فقال لهم: أرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار؟ وإذا جاء النهار أين يكون الليل؟ فقالوا: إنه لمثلهما في التوراة. ومعناه: أنه حيث شاء الله وهذا عرضها ولا شك أن الطول أزيد من العرض فذكر العرض تنبيهاً على أن طولها أضعاف ذلك، وقيل إن هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه ويقع في أنفسهم وأفكارهم وأكثر ما يقع في أنفسهم مقدار السموات والأرض فشبه عرض الجنة بما تعرفه الناس ﴿أعدت﴾ أي: هيئت هذه الجنة الموعود بها وفرغ من أمرها بأيسر أمر ﴿للذين آمنوا﴾ أي: أوقعوا هذه الحقيقة ﴿بالله﴾ أي: الذي له جميع العظمة لأجل ذاته مخلصين له الإيمان ﴿ورسله﴾ فلم يفرقوا بين أحد منهم وفي هذا أعظم رجاء وأقوى أمل لأنه ذكر أنّ الجنة أعدت لمن آمن بالله ورسله ولم يذكر مع الإيمان شيئاً آخر، يدل عليه قوله تعالى في سياق الآية ﴿ذلك﴾ أي: الفضل العظيم جداً ﴿فضل الله﴾ أي: الملك الذي لا كفؤ له فلا اعتراض عليه ﴿يؤتيه من يشاء﴾ فبين أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله لا بعمله، لما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
«لن يدخل الجنة أحداً منكم عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمة». ولا ينافي ذلك قوله تعالى: ﴿ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون﴾ لأنّ الباء في الحديث عوضيه، وفي الآية سببية، فإن قيل: يلزم على هذا أن يقطع بحصول الجنة لجميع العصاة وأن يقطع بأنه لا عقاب عليهم؟ أجيب: بأنا نقطع بحصول الجنة ولا نقطع بنفي العقاب عنهم لأنهم إذا عذبوا مدة ثم نقلوا إلى الجنة بقوا فيها أبد الآباد فكانت معدة لهم ﴿والله﴾ أي: والحال أنّ الملك المختص بجميع صفات الكمال فله الأمر كله ﴿ذو الفضل العظيم﴾ أي: الذي جل أن تحيط بوصفه العقول ﴿ما أصاب من مصيبة في الأرض﴾ أي: من قحط المطر وقلة النبات ونقص الثمرات وغلاء الأسعار وتتابع الحوائج وغير ذلك ﴿ولا في أنفسكم﴾ أي: من الأمراض والفقر وذهاب الأولاد وضيق العيش وغير ذلك ﴿إلا في كتاب﴾ أي: مكتوبة في اللوح مثبتة في علم الله تعالى: