ذهباً فأدّاه إليه ﴿ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك﴾ كفنحاص بن عازوراء استودعه رجل آخر من قريش ديناراً فجحده ﴿إلا ما دمت عليه قائماً﴾ أي: إلا إن أودعته واسترجعته منه وأنت قائم على رأسه لم تفارقه ردّه إليك وإن فارقته وأخرته نكل ولم يردّه، وقيل: المأمون على الكثير النصارى لغلبة الأمانة عليهم، والخائنون في القليل اليهود لغلبة الخيانة عليهم، وقرأ حمزة وأبو عمرو وشعبة يؤدّه ولا يؤدّه إليك بإسكان الهاء فهو وصل بنية الوقف فهو سكون وقف بالنية لا بالفعل وقالون باختلاس حركة الهاء، وحفص والكسائي بالحركة الكاملة والألف في قنطار ودينار بالإمالة لأبي عمرو والدوري عن الكسائي وورش بينَ بين والباقون بالفتح ﴿ذلك﴾ أي: ترك الأداء المدلول عليه بقوله تعالى لا يؤدّه ﴿بأنهم قالوا﴾ أي: بسبب قولهم ﴿ليس علينا في الأمّيين﴾ أي: العرب ﴿سبيل﴾ أي: إثم لاستحلالهم ظلم من خالفهم ونسبوا ذلك إلى الله تعالى قالوا: لن يجعل الله لهم في التوراة حرمة فكذبهم الله عز وجل بقوله عز من قائل ﴿ويقولون على الله الكذب﴾ أي: في نسبة ذلك إليه ﴿وهم يعلمون﴾ أنهم كاذبون وقال الحسن وابن جريج ومقاتل: بايع اليهود رجلاً من المسلمين في الجاهلية، فلما أسلموا تقاضوهم بقية أموالهم فقالوا: ليس لكم علينا حق ولا عندنا قضاء؛ لأنكم تركتم دينكم وانقطع العهد بيننا وبينكم وادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم، فكذبهم الله تعالى في ذلك.
روى الطبراني وغيره أنه ﷺ قال عند نزول هذه «كذب أعداء الله ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي» أي: منسوخ متروك إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر أي: والديون من الأمانة؛ لأنّ المراد من الأمانة الرضا بالذمّة وقوله تعالى:
﴿بلى﴾ إثبات لما نفوه أي: بلى على اليهود في الأمّيين سبيل ثم ابتدأ فقال: ﴿من أوفى بعهده﴾ أي: ولكن من أوفى بعهد الله الذي عهد إليه في التوراة من الإيمان بمحمد ﷺ والقرآن وأداء الأمانة ﴿واتقى﴾ الله بترك المعاصي وفعل الطاعات ﴿فإن الله يحب المتقين﴾ فيه وضع الظاهر موضع المضمر أي: يحبهم بمعنى يثيبهم.
فإن قيل: فأين الضمير الراجع من الخبر إلى من؟ أجيب: بأنّ عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير.
ونزل في أحبار من اليهود حرفوا التوراة وبدلوا نعت محمد ﷺ وحكم الأمانة وغيرهما وأخذوا على ذلك رشوة.
﴿إن الذين يشترون﴾ أي: يستبدلون ﴿بعهد الله﴾ إليهم في الإيمان للنبيّ ﷺ والوفاء بأداء الأمانة ﴿وإيمانهم﴾ أي: حلفهم به تعالى كاذباً من قولهم: والله لنؤمننّ ولننصرنه ﴿ثمناً قليلاً﴾ من الدنيا ﴿أولئك لا خلاق﴾ أي: لا نصيب ﴿لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله﴾ أي: بما يسرّهم أو بشيء أصلاً وأنّ الملائكة يسألونهم يوم القيامة ﴿ولا ينظر إليهم﴾ أي: ولا يرحمهم ﴿يوم القيامة ولا يزكيهم﴾ أي: ولا يثني عليهم بالجميل ولا يطهرهم من الذنوب ﴿ولهم عذاب أليم﴾ أي: مؤلم وقيل: نزلت في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد اشتراها بما لم يشترها به وقيل: نزلت في جماعة من اليهود جاؤوا إلى كعب بن الأشرف في سنة أصابتهم ممتارين فقال لهم: أتعلمون أنّ هذا الرجل رسول الله قالوا: نعم قال: لقد هممت أن أميركم وأكسوكم فحرمكم الله خيراً كثيراً فقالوا: لعله اشتبه علينا فرويداً حتى نلقاه فانطلقوا فكتبوا صفة غير صفته ثم رجعوا إليه
الأتباع إلى الرؤوساء ويدل لذلك قوله تعالى: ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾ (الأنعام، ١٦٤)
. وقوله تعالى: ﴿وأن ليس للإنسان إلا ما سعى﴾ (النجم، ٣٩)
. تنبيه: قال الواحدي: لفظة من في قوله تعالى: ﴿ومن أوزار﴾ ليست للتبعيض لأنها لو كانت كذلك لنقص عن الأتباع بعض الأوزار وقد قال ﷺ «لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» لكنها للجنس كما قدّرت ذلك في الآية الكريمة، أي: ليحملوا من جنس أوزار الأتباع. وقيل: إنها للتبعيض وجرى عليه البيضاوي تبعاً للزمخشري. ﴿ألا ساء﴾ أي: بئس ﴿ما يزرون﴾ أي: يحملون حملهم هذا وفي هذا وعيد وتهديد لهم. فإن قيل: إنّ الله تعالى حكى هذه الشبهة عن القوم ولم يجب عنها بل اقتصر على محض الوعيد فما السبب في ذلك؟ أجيب: بأنّ السبب فيه أنه تعالى بيّن كون القرآن معجزاً بطريقين: الأوّل: أنه ﷺ تحداهم أولاً بكل القرآن وثانياً بعشر سور وثالثاً بسورة فعجزواعن المعارضة وذلك يدل على كونه معجزاً الثاني: أنه تعالى حكى هذه الشبهة بعينها في آية أخرى وهي قوله تعالى: ﴿اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً﴾ (الفرقان، ٥٠)
وأبطلها بقوله تعالى: ﴿قل أنزله الذي يعلم السرّ في السموات والأرض﴾ (الفرقان، ٦)
. ومعناه أنّ القرآن يشتمل على الإخبار بالغيوب، وذلك لا يتأتى إلا ممن يكون عالماً بأسرار السموات والأرض. ولما ثبت كون القرآن معجزاً بهذين الطريقين وتكرّر شرح هذين الطريقين مراراً كثيرة لا جرم اقتصر في هذه الآية على مجرّد الوعيد ولم يذكر ما يجري مجرى الجواب عن هذه الشبهة ثم إنه سبحانه وتعالى بالغ في وصف وعيد هؤلاء الكفار بقوله تعالى:
أي: ممن رأوا آثارهم في ديارهم ﴿فأتى الله﴾ أي: أمره ﴿بنيانهم من القواعد﴾ أي: من جهة العمد التي بنوا عليها مكرهم ﴿فخرّ﴾ أي: سقط ﴿عليهم السقف من فوقهم﴾ وصار سبب هلاكهم وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم وحمزة والكسائي بضم الهاء والميم. والباقون بكسر الهاء وضم الميم. وأمّا الوقف فحمزة بضم الهاء على أصله والباقون بالكسر. ﴿وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون﴾ أي: من جهة لا تخطر ببالهم وهذا على سبيل التمثيل، أي: التشبيه والتخييل لإفساد ما أبرموه من المكر بالرسل فجعل الله هلاكهم فيما أبرموه كحال قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين فأتى البنيان من الأساطين بأن تضعضعت فسقط عليهم السقف فهلكوا نحوه من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً، وقيل: هو نمروذ بن كنعان حين بنى الصرح ببابل ليصعد إلى السماء قال ابن عباس: كان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع. وقال كعب: كان طوله فرسخين فأهب الله تعالى الريح فألقت رأسه في البحر وخرّ عليهم الباقي وهم تحته قال البغوي: ولما سقط الصرح تبلبلت ألسن الناس يومئذ من الفزع فتكلموا بثلاثة وسبعين لساناً فلذلك سميت بابل وكان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية فذلك قوله تعالى: ﴿فأتى الله بنيانهم من القواعد﴾ أي: أتى أمره فخرب بنيانهم من أصلها فخرّ عليه وعلى قومه السقف، أي: أعلى البيوت من فوقهم فهلكوا. تنبيه: قال ابن الخازن في قول البغوي: وكان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية نظر لأنّ صالحاً عليه السلام كان قبلهم وكان يتكلم بالعربية وكان أهل اليمن عرباً منهم جرهم الذين نشأ إسماعيل بينهم وتعلم منهم العربية وكان ببابل من العرب طائفة
الخطاب، ومرداس أخو محارب بن فهر، قد تلبسوا للقتال وخرجوا على خيلهم ومروا على بني كنانة فقالوا: تهيؤوا للحرب يا بني كنانة فستعلمون اليوم من الفرسان، ثم أقبلوا نحو الخندق حتى وقفوا عليه، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكاناً من الخندق ضيقاً فضربوا خيولهم فاقتحمت فيه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع.
وخرج عليّ رضي الله تعالى عنه في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها خيلهم، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ودَ قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد أحداً، فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مكانه، فلما وقف هو وخيله قال له علي: يا عمرو إنك كنت تعاهد الله تعالى لا يدعوك رجل من قريش إلى خصلتين إلا أخذت منه إحداهما، قال له: أجل قال له علي: فإني أدعوك إلى الله تعالى وإلى رسوله ﷺ وإلى الإسلام قال: لا حاجة لي بذلك قال: فإني أدعوك إلى البراز قال: ولم يا ابن أخي فوالله ما أحب أن أقتلك.
قال عليّ: ولكني والله أحب أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فنقره أو ضرب وجهه، ثم أقبل على عليّ فتنازلا وتجاولا فقتله عليّ، وخرجت خيله مهزومة حتى اقتحمت من الخندق هاربة، وقتل مع عمرو رجلان منبه بن عثمان أصابه سهم فمات بمكة، ونوفل بن عبد الله المخزومي وكان اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة فقال: يا معشر العرب قتلة أحسن من هذه، فنزل إليه عليّ رضي الله تعالى عنه فقتله فغلب المسلمون على جسده فسألوا رسول الله ﷺ أن يبيعهم جسده فقال رسول الله ﷺ لا حاجة لنا في جسده وثمنه فشأنكم به فخلى بينهم وبينه.
ولما نشأ عن هذا تقلب القلوب وتجدد ذهاب الأفكار كل مذهب، عبر بالمضارع الدال على دوام التجدد بقوله تعالى: ﴿وتظنون بالله﴾ الذي له صفات الكمال ﴿الظنوناً﴾ أي: أنواع الظن، فظن المخلصون الثُّبت القلوب أن الله تعالى منجز وعده في إعلاء دينه، أو ممتحنهم، فخافوا الزلل، وروي أن المسلمين قالوا: بلغت القلوب الحناجر فهل من شيء نقوله؟ فقال ﷺ «قولوا اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا» وأما الضعاف القلوب والمنافقون فقالوا: ما حكى الله عنهم فيما سيأتي، وقرأ نافع وابن عامر الظنونا هنا والرسولا والسبيلا في آخر السورة بإثبات الألف في الثلاثة وقفاً ووصولاً، وأبو عمرو وحمزة بحذف الألف وقفاً ووصلا قال الزمخشري: وهو القياس والباقون بالألف في الوقف دون الوصل زادوها في الفاصلة كما زادوها في القافية قال:
*أقلي اللوم عاذل والعتابا*
ورسم الثلاثة بالألف ولما كانت الشدة في الحقيقة إنما هي للثابت لأنه ما عنده إلا الهلاك أو النصرة قال تعالى:
﴿هنالك﴾ أي: في ذلك الوقت العظيم البعيد الرتبة ﴿ابتلي المؤمنون﴾ اختبروا فظهر المخلص من المنافق والثابت من المتزلزل ﴿زلزلوا﴾ أي: حركوا وأزعجوا بما يرون من الأهوال بتظافر الأعداء مع الكثرة وتطاير الأراجيف ﴿زلزلاً شديداً﴾ فثبتوا تثبيت الله تعالى لهم على عدوهم، وعن صفية قالت: مر بنا رجل من اليهود فجعل يطوف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله ﷺ وليس بيننا وبينهم من يدفع عنا، ورسول الله
يا رسول الله الملائكة فقال: «لا أنهم إذا كانوا معكم لم يكونوا بين أيديكم ولا خلفكم ولكن عن أيمانكم وعن شمائلكم» وعلى ذلك فليسوا في مكان الإيمان هنا والشمائل بل في المكانة من ذلك فالله جلّ جلاله أعلى وأجل وأنزه مكانة وأكرم استواء ﴿ثم ينبئهم﴾ أي: يخبر أصحاب النجوى أخباراً عظيماً ﴿بما عملوا﴾ دقيقه وجليله ﴿يوم القيامة﴾ الذي هو المراد الأعظم من الوجود لإظهار الصفات العلا فيه أتم إظهار ﴿إنّ الله﴾ الذي له الكمال كله ﴿بكل شيء﴾ أي: مما ذكر وغيره ﴿عليم﴾ أي: بالغ العلم فهو على كل شيء شهيد وهذا تحذير من المعاصي وترغيب في الطاعات.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿ألم تر﴾ أي: تعلم علماً هو كالرؤية ﴿إلى الذين نهوا عن النجوى﴾ فقيل: في اليهود وقيل: في المنافقين، وقيل: في فريق من الكفار وقيل في فريق من المسلمين لما روى أبو سعيد الخدري قال: «كنا ذات ليلة نتحدث إذ خرج علينا رسول الله ﷺ فقال ﷺ ما هذه النجوى فقلنا تبنا إلى الله تعالى يا رسول الله إنا كنا في ذكر المسيخ يعني الدجال فرقاً منه، فقال رسول الله ﷺ ألا أخبركم بما هو أخوف عندي منه قلنا بلى يا رسول الله قال: الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل» ذكره الماوردي.
وقال ابن عباس: «نزلت في اليهود والمنافقين، كانوا يتناجون فيما بينهم وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم يوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم فيحزنون لذلك ويقولون: ما نراهم إلا وقد بلغهم من إخواننا الذين خرجوا وفي السرايا قتل أو موت أو هزيمة، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم، فلما طال ذلك عليهم وأثر شكوا إلى رسول الله ﷺ فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فأنزل الله تعالى: ﴿ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى﴾ ﴿ثم يعودون﴾ أي: على سبيل الاستمرار، لأنه وقع مرّة وبادروا إلى التوبة منها أو فلتة معفواً عنها ﴿لما نهوا عنه﴾ أي: من غير أن يعتدوا لما يتوقع من جهة الناهي من الضرر عنده ﴿ويتناجون﴾ أي: يقبل بعضهم على المناجاة إقبالاً واحداً فيفعل كل منهم منها ما يفعله الآخر مرّة بعد أخرى على سبيل الاستمرار.
وقرأ حمزة بعد الياء: بنون ساكنة وبعدها ثاء فوقية مفتوحة ولا ألف قبل الجيم وضم الجيم، والباقون بتاء فوقية مفتوحة وبعدها نون مفتوحة وبعد النون ألف وفتح الجيم ﴿بالإثم﴾ أي: بالشيء الذي لا يثبت عليهم به الذنب وبالكذب وبما لا يحل ﴿والعدوان﴾ أي: العدوان الذي هو نهاية في قصد الشرّ بالإفراط في مجاوزة الحدود ﴿ومعصيت الرسول﴾ أي: مخالفة النبيّ الذي جاء إليهم من الملك الأعلى وهو كامل في الرسالة لكونه مرسلاً إلى جميع الخلق وفي كل الأزمان فلا نبيّ بعده فهو لذلك مستحق غاية الإكرام.
فائدة: رسمت معصية في الموضعين بالتاء المجرورة، وإذا وقف عليها فأبو عمرو وابن كثير والكسائي بالهاء في الوقف، والكسائي بالإمالة في الوقف على أصله ووقف الباقون بالتاء على الرسم واتفقوا في الوصل على التاء
﴿وإذا جاؤوك﴾ أي: يا أشرف الخلق ﴿حيوك﴾ أي: واجهوك بما يعدونه تحية ﴿بما لم يحيك به الله﴾ أي: الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه «وذلك أنّ اليهود كانوا يدخلون على النبيّ ﷺ ويقولون السام عليك، والسام