من الشاهدين} عليكم وعليهم وهو توكيد وتحذير عظيم من الرجوع إذا علموا بشهادة الله وشهادة بعضهم على بعض، وقيل: الخطاب للملائكة.
﴿فمن تولى﴾ أي: أعرض ﴿بعد ذلك﴾ أي: الميثاق والتوكيد بالإقرار والشهادة ﴿فأولئك الفاسقون﴾ أي: المتمرّدون من الكفرة.
روي «أن أهل الكتاب اختصموا إلى رسول الله ﷺ فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وكل واحد من الفريقين ادّعى أنه أولى به فقال رسول الله ﷺ «كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم» فقالوا: ما نرضى بقضائك ولا نأخذ دينك فنزل.
﴿أفغير دين الله يبغون﴾ » وهذه الجملة معطوفة على الجملة المتقدّمة وهي ﴿فأولئك هم الفاسقون﴾ والهمزة متوسطة بينهما للإنكار ويجوز أن تعطف على محذوف تقديره أيتولون فغير دين الله يبغون وقدم المفعول الذي هو غير دين الله على فعله؛ لأنه أهمّ من حيث أن الإنكار الذي معنى الهمزة متوجه إلى المعبود الباطل، وقرأ أبو عمرو وحفص بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الخطاب على تقدير وقل لهم: ﴿وله﴾ سبحانه وتعالى: ﴿أسلم﴾ أي: خضع وانقاد ﴿من في السموات والأرض طوعاً﴾ أي: بالنظر في الأدلة واتباع الحجة والإنصاف من نفسه ﴿وكرهاً﴾ بالسيف ومعاينة ما يلجىء إلى الإسلام كنتق الجبل على بني إسرائيل وإدراك الغرق فرعون وقومه والإشراف على الموت لقوله تعالى: ﴿فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا با وحده﴾ (غافر، ٨٤) وقال الحسن: أسلم أهل السموات طوعاً وأهل الأرض بعضهم طوعاً وبعضهم كرهاً خوفاً من السيف والسبي وقيل: هذا يوم الميثاق حين قال: ﴿ألست بربكم؟ قالوا: بلى﴾ (الأعراف، ١٧٢) فقال بعضهم طوعاً وبعضهم كرهاً قال قتادة: المسلم أسلم طوعاً فنفعه، والكافر كرهاً في وقت البأس فلم ينفعه قال تعالى: ﴿فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا﴾ (غافر، ١٥) وانتصب طوعاً وكرهاً على الحال بمعنى الطائعين ومكروهين ﴿وإليه ترجعون﴾ قرأ حفص بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الخطاب.
﴿قل﴾ لهم يا محمد ﴿آمنا با وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط﴾ أي: أولاده ﴿وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرّق بين أحد منهم﴾ بالتصديق والتكذيب أمر رسول الله ﷺ أن يخبر عن نفسه وعمن تبعه بالإيمان، فلذلك وحد الضمير في قل وجمعه في آمنا وعلينا؛ لأن القرآن كما هو منزل عليه منزل على متابعيه بتوسط تبليغه إليهم أو بأن يتكلم عن نفسه بالجمع على طريقة الملوك إجلالاً له.
فإن قيل: لم عدي أنزل في هذه الآية بعلى وفيما تقدّم من مثلها في سورة البقرة بإلى؟ أجيب: بأن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل فعدي تارة بإلى؛ لأنه ينتهي إلى الرسل وتارة بعلى؛ لأنه من فوق وما قيل: من أنه إنما خص ما هنا بعلى وما هناك بإلى؛ لأن ما هنا خطاب للنبيّ وكان واصلاً إليه من الملأ الأعلى بلا واسطة بشرية فناسب الإتيان بعلى المختصة بالعلوّ، وما هناك خطاب للأمّة وقد وصل إليهم بواسطة النبيّ الذي هو من البشر فناسب الإتيان بإلى المختصة بالإتصال. قال الزمخشري: فيه تعسف ألا ترى إلى قوله: ﴿بما أنزل إليك﴾ و ﴿أنزلنا إليك الكتاب﴾ (النساء، ١٠٥) وإلى قوله تعالى: ﴿آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا﴾ (آل عمران، ٧٢).
فإن قيل: لم قدم المنزل عليه على المنزل على سائر الرسل؟ أجيب: بأنه إنما قدم؛ لأن المنزل عليه هو المعرّف للمنزل على سائر الرسل، ولأنه أفضل الكتب
من الله تعالى، كما روي أنّ العبد المؤمن إذا أشرف على الموت جاءه ملك فقال: السلام عليك يا ولي الله، الله يقرأ عليك السلام ويبشرك بالجنة، ويقال لهم في الآخرة هذا جواب الأكثرين ﴿ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون﴾ أو إنهم لمّا بشروهم بالجنة صارت الجنة كأنها دارهم، وكأنهم فيها فيكون المراد بقولهم: ادخلوا الجنة، أي: هي خاصة لكم كأنكم فيها. ولما طعن الكفار في القرآن بقولهم: ﴿أساطير الأوّلين﴾ وذكر أنواع التهديد والوعيد ثم أتبعه بذكر الوعد لمن وصف القرآن بكونه خيراً، عاد إلى بيان أنّ أولئك الكفار لا ينزجرون عن كفرهم وأقوالهم الباطلة إلا إذا جاءتهم الملائكة، وأتاهم أمر ربك فقال تعالى:
﴿هل ينظرون إلاأن تأتيهم الملائكة﴾ لقبض أرواحهم. وقرأ حمزة والكسائي بالياء على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث وتقدّم توجيه ذلك ﴿أو يأتي أمر ربك﴾ أي: يوم القيامة وقيل: العذاب. وقيل: إنهم طلبوا من النبيّ ﷺ أن ينزل الله تعالى ملكاً من السماء يشهد على صدقه في ادّعاء النبوّة فقال تعالى: ﴿هل ينظرون﴾ في التصديق بنبوّتك إلا أن تأتيهم الملائكة شاهدين بذلك. وعلى كلا التقديرين، فقد قال تعالى: ﴿كذلك﴾ أي: مثل ما ﴿فعل﴾ هؤلاء هذا الفعل البعيد الشنيع فعل ﴿الذين من قبلهم﴾ من الأمم السالفة، كذبوا رسلهم فأهلكوا ﴿وما ظلمهم الله﴾ باهلاكهم بغير ذنب. ﴿ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾ بكفرهم وتكذيبهم للرسل فاستوجبوا ما نزل بهم ﴿فأصابهم﴾ أي: فتسب عن ظلمهم لأنفسهم أن أصابهم ﴿سيئات﴾ أي: عقوبات أو جزاء سيئات ﴿ما عملوا وحاق﴾ أي: نزل ﴿بهم ما كانوا به يستهزؤون﴾ تكبراً عن قبول الحق فحاق بهم جزاؤه، والحيق لا يستعمل إلا في الشر. وقرأ حاق حمزة بالإمالة والباقون بالفتح.
﴿وقال الذين أشركوا﴾ للنبيّ ﷺ استهزاء ومنعاً للبعثة والتكليف ﴿لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا﴾ لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الرسل وهو اعتقاد باطل، فلذلك استحقوا عليه الذم والوعيد ثم قالوا لهم: ﴿ولا حرّمنا من دونه من شيء﴾ أي: من السوائب والبحائر والحامي فهو راض به وبمشيئته وحينئذ فلا فائدة في مجيئك وفي إرسالك وهذا عين ما حكاه الله تعالى عنهم في سورة الأنعام في قوله تعالى: ﴿سيقول الذين أشركوا لو شاء الله﴾ (الأنعام، ١٤٨)
الآية. قال الله تعالى: ﴿كذلك فعل الذين من قبلهم﴾ أي: من تقدّم هؤلاء من الكفار من الأمم الماضية كانوا على هذه الطريقة، وهذا الفعل الخبيث فإنكار بعثة الرسل كان قديماً في الأمم الخالية ففي ذلك تسلية للنبيّ ﷺ وكذا في قوله تعالى: ﴿فهل على الرسل إلا البلاغ﴾ أي: الإبلاغ. ﴿المبين﴾ أي: البين فليس عليهم هداية أحد إنما عليهم تبليغ ما أرسلوا به إلى من أرسلوا إليه.
ثم بين تعالى أنّ البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها سبباً لهدى من أراد اهتداءه، وزيادة لضلال من أراد ضلاله، كالغذاء الصالح فإنه ينفع المزاج السوي ويقويه ويضرّ المزاج المنحرف ويفنيه بقوله تعالى: ﴿ولقد﴾ أي: والله لقد ﴿بعثنا﴾ أي: بما لنا من العظمة التي من اعترض عليها قصم. ﴿في كل أمّة﴾ من الأمم الذين من قبلكم ﴿رسولاً﴾ أي: كما بعثنا فيكم محمداً ﷺ رسولاً. ﴿أن اعبدوا الله﴾ أي: الملك
الله عليه وسلم فأنامني عند رجليه وألقى عليّ طرف ثوبه، وألصق صدري ببطن قدميه فلم أزل نائماً حتى أصبحت فقال: قم يا نومان.
ثم إن الله تعالى بيَّن حال غير الثابتين بقوله تعالى:
﴿وإذ يقول المنافقون﴾ معتب بن قشير وقيل: عبد الله بن أبيّ وأصحابه ﴿والذين في قلوبهم مرض﴾ أي: ضعف اعتقاد ﴿ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا﴾ أي: باطلاً استدرجنا به إلى الانسلاخ عما كنا عليه من دين آبائنا، وإلى الثبات على ما صرنا إليه بعد ذلك الانسلاخ بما وعدنا به من ظهور هذا الدين على الدين كله والتمكين في البلاد حتى حفر الخندق، فإنه قال: إنه أبصر بما برق له من ضوء صخرة سلمان مدينة صنعاء من اليمن وقصور كسرى من الحيرة من أرض فارس، وقصور الشام من أرض الروم، وإن تابعيه ليظهرون على ذلك كله، وقد صدق الله وعده في جميع ذلك حتى في لبس سراقة بن مالك بن جعثم سوار كسرى بن هرمز كما هو مذكور في دلائل النبوة للبيهقي، وكذبوا في شكهم ففاز المصدقون وخاب الذين هم في ريبهم يترددون.
﴿وإذ قالت طائفة منهم﴾ أي: من المنافقين وهم أوس بن قبطي وأصحابه ﴿يا أهل يثرب﴾ أي: المدينة وقال أبو عبيدة: يثرب اسم أرض ومدينة الرسول ﷺ في ناحية منها، وفي بعض الأخبار: أن النبي ﷺ نهى أن تسمى المدينة يثرب، وقال: هي طابة كأنه كره تلك اللفظة فعدلوا عن هذا الاسم الذي وسمها به النبي ﷺ إلى الاسم الذي كانت تدعى به قديماً مع نهيه عنه، واحتمال قبحه باشتقاقه من الثرب الذي هو اللوم والتعنيف، وقال أهل اللغة: يثرب اسم المدينة وقيل: اسم البقعة التي فيها المدينة. وامتناع صرفها إما للعلمية والوزن أو العلمية والتأنيث، وأما يثرب بالمثناة وفتح الراء فموضع آخر باليمن قال الشاعر:
*وعدت وكان الخلف منك سجية | مواعيد عرقوب أخاه بيثرب* |
*وقد وعدتك موعداً لو وفت به | مواعيد عرقوب أخاه بيثرب* |
ولما بين تعالى هؤلاء الذين هتكوا الستر وبينوا ما هم فيه من سفول الأمر أتبعهم آخرين تستروا ببعض الستر متمسكين بأذيال النفاق خوفاً من أهوال الشقاق بقوله تعالى: ﴿ويستأذن﴾ أي: يجدد كل وقت طلب الإذن لأجل الرجوع إلى البيوت والكون مع النساء ﴿فريق منهم﴾ أي: طائفة شأنها الفرقة ﴿النبي﴾ في الرجوع، وقد رأوا ما حواه من علو المقدار بما له من حسن الخلق والخلق وما له من جلالة الشمائل وكرم الخصائل، وهم بنو حارثة وبنو سلمة ﴿يقولون﴾ أي: في كل قليل مؤكدين لعلمهم بكذبهم وتكذيب المؤمنين قولهم ﴿إن بيوتنا﴾ أتوا بجمع الكثرة إشارة إلى كثرة أصحابهم من المنافقين ﴿عورة﴾ أي: غير حصينة بها خلل كبير يمكن كل من أراد من الأحزاب أن يدخلها يدخلها منه، وقيل قصيرة الجدران فإذا ذهبنا إليها حفظناها منهم وكفينا من يأتي إلينا من مفسديهم حماية للدين
المحبة والمودّة بقوله تعالى:
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي: الذين اتصفوا بهذا الوصف ﴿إذا قيل لكم﴾ أي: من أيّ قائل كان فإنّ الخير يرغب فيه لذاته ﴿تفسحوا﴾ أي: توسعوا أي: كلفوا أنفسكم في اتساع المواضع ﴿في المجلس﴾ أي: الجلوس أو مكانه لأجل من يأتي فلا يجد مجلساً يجلس فيه، قال قتادة ومجاهد: «كانوا يتنافسون في مجلس النبيّ ﷺ فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض»، وقال ابن عباس: المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب، قال الحسن وزيد بن أبي حبيب «كان النبيّ ﷺ إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه على الصف الأوّل فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال والشهادة فنزلت». فيكون كقوله تعالى: ﴿مقاعد للقتال﴾ (آل عمران: ١٢١)
وقال مقاتل «كان النبيّ ﷺ في الصفة وكان في المكان ضيق وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين، والأنصار فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجلس، فقاموا قبل النبيّ ﷺ على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف رسول الله ﷺ ما يحملهم على القيام وشق ذلك على رسول الله ﷺ فقال لمن حوله من غير أهل بدر: قم يا فلان بعدد القائمين من أهل بدر فشق ذلك على من قام، وعرف النبيّ ﷺ الكراهة في وجوههم فقال المنافقون: والله ما عدل على هؤلاء أنّ قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ» فنزلت الآية يوم الجمعة
وروي عن ابن عباس قال: «نزلت الآية في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه دخل المسجد وقد أخذ القوم مجالسهم وكان يريد القرب من رسول الله ﷺ للوقر أي: الصمم الذي كان في أذنيه فوسعوا له حتى قرب من رسول الله ﷺ ثم ضايقه بعضهم وجرى بينه وبينهم كلام فنزلت» وقد تقدّمت قصته في سورة الحجرات. وقرأ عاصم: يفتح الجيم، ألف بعدها جمعاً لأنّ لكل جالس مجلساً أي: فليفسح كل واحد في مجلسه والباقون بسكون الجيم ولا ألف إفرادا، قال البغوي: لأنّ المراد منه مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم
وقال القرطبي: الصحيح في الآية أنها عامة في مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير وللأجر سواء أكان مجلس حرب أو ذكر أو مجلس يوم الجمعة، وإنّ كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه قال ﷺ «من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ بذلك فيخرجه الضيق من موضعه» فيكون المراد بالمجلس الجنس ويؤيده قراءة الجمع ﴿فافسحوا﴾ أي: وسعوا فيه عن سعة صدر ﴿يفسح الله﴾ أي: الذي له الأمر كله ﴿لكم﴾ في كل ما تكرهون ضيقه من الدارين.
وقال الرازي: هذا يطلق فيما يطلب الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة قال: ولا ينبغي للعاقل أن يقيد الآية بالتفسح في المجلس بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه.
وإذا قيل: أي من أيّ قائل كان كما مضى إذا كان يريد الإصلاح والخير ﴿انشزوا﴾ أي: ارتفعوا وانهضوا إلى الموضع الذي تؤمرون به أو يقتضيه الحال للتوسعة أو غيرها من الأوامر كالصلاة والجهاد ﴿فانشزوا﴾ أي: فارتفعوا وانهضوا ﴿يرفع الله﴾ أي: الذي له جميع صفات الكمال ﴿الذين آمنوا﴾ وإن كانوا غير علماء ﴿منكم﴾ أي: أيها