المنزلة ﴿ونحن له مسلمون﴾ أي: موحدون مخلصون له في العبادة لا نجعل له شريكاً فيها. ونزل فيمن ارتدّ ولحق بالكفار وهم اثنا عشر رجلاً ارتدّوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفاراً منهم الحارث بن سويد الأنصاري.
﴿ومن يبتغ غير الإسلام ديناً﴾ أي: غير التوحيد والإنقياد لحكم الله فهو مشتمل على الإيمان بهذا التقدير وديناً تمييز مبين للإسلام والدين يشتمل على التصديق والأعمال الصالحة فالإسلام كذلك؛ لأنّ المبين لا يخالف المبين وعلى هذا حمل الإسلام على الدين في قوله تعالى: ﴿إنّ الدين عند الله الإسلام﴾ (آل عمران، ١٩٩) والدين هو الوضع الإلهي السائق لكل خير ﴿فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين﴾ لمصيره إلى النار المؤبدة عليه وقوله تعالى:
﴿كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم﴾ لفظه استفهام ومعناه جحد أي: لا يهديهم الله لما علم من تصميمهم على كفرهم بأنهم كفروا بعد إيمانهم ﴿و﴾ بعدما ﴿شهدوا أن الرسول حق و﴾ قد ﴿جاءهم البينات﴾ أي: الحجج الظاهرة على صدق النبيّ ﷺ ﴿وا لا يهدي القوم الظالمين﴾ أي: الكافرين.
﴿أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين﴾ والمراد بالناس المؤمنون أو العموم، فإن الكافر يلعن منكر الحق والمرتد عنه ولكن لا يعرف الحق بعينه.
تنبيه: دلت هذه الآية بمنطوقها على جواز لعن القوم المذكورين وبمفهومها على نفي جواز لعن غيرهم من الكفار الذين لم يكفروا بعد إيمانهم. قال البيضاوي: ولعلّ الفرق أنهم أي: هؤلاء مطبوعون على الكفر ممنوعون عن الهدي مايوسون عن الرحمة بخلاف غيرهم أي: فلا يلعن الكافر الأصلي المعين حياً ولا ميتاً ما لا يعلم موته على الكفر، وكالأصلي المرتدّ وأمّا لعن الكافر على العموم فيجوز.
﴿خالدين فيها﴾ أي: اللعنة أو النار أو العقوبة المدلول باللعنة عليها ﴿لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون﴾ أي: يمهلون.
﴿إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا﴾ عملهم تصديقاً لتوبتهم ﴿فإنّ الله غفور﴾ لهم يقبل توبتهم ﴿رحيم﴾ بهم يتفضل عليهم وذلك «أنّ الحرث بن سويد لما ارتدّ ولحق بالكفار ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا رسول الله ﷺ هل لي من توبة، فأرسل إليه أخوه الجلاس بالآية فأقبل إلى المدينة فتاب وقبل رسول الله ﷺ توبته».
ونزل في اليهود.
﴿إنّ الذين كفروا﴾ بعيسى والإنجيل ﴿بعد إيمانهم﴾ بموسى والتوراة ﴿ثم ازدادوا كفراً﴾ بمحمد ﷺ والقرآن وقيل: كفروا بمحمد بعدما آمنوا به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفراً بالإصرار والعناد والطعن فيه والصدّ عن الإيمان ونقض الميثاق ﴿لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون﴾ أي: الثابتون على الضلال.
فإن قيل: قد وعد الله تعالى قبول توبة من تاب فما معنى قوله تعالى: ﴿لن تقبل توبتهم﴾ ؟ أجيب: بأنّ محل القبول إذا كان قبل الغرغرة وهؤلاء توبتهم كانت بعدها وإنهم لم يتوبوا أصلاً فكنى عن عدم توبتهم بعدم قبولها أو أنّ توبتهم لا تكون إلا نفاقاً.
﴿إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء﴾ أي: مقدار ما يملؤها من ﴿الأرض﴾ شرقها إلى غربها ﴿ذهباً﴾ تغليظاً في شأنهم وإبراز حالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة.
فإن قيل: لم قال في الآية الأولى لن تقبل بغير فاء وفي هذه بقوله: فلن يقبل بالفاء أجيب:
الأعلى وحده. وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر النون في الوصل والباقون بالضم. ﴿واجتنبوا الطاغوت﴾ أي: الأوثان أن تعبدوها ﴿فمنهم من هدى الله﴾ أي: وفقهم للإيمان بإرشاده ﴿ومنهم من حقت﴾ أي: وجبت ﴿عليه الضلالة﴾ أي: في علم الله تعالى فلم ينفعهم ولم يرد هداهم. تنبيه: في هذه الآية أبين دليل على أنّ الهادي والمضل هو الله تعالى لأنه المتصرف في عباده يهدي من يشاء ويضل من يشاء لا اعتراض عليه فيما حكم به لسابق علمه، ثم التفت سبحانه وتعالى إلى مخاطبتهم إشارة إلى أنه لم يبق بعد هذا الدليل القطعي في نظر البصيرة إلا الدليل المحسوس للبصر فقال تعالى: ﴿فسيروا﴾ أي: فإن كنتم أيها المخاطبون في شك من أخبار الرسل فسيروا ﴿في الأرض﴾ أي: جنسها ﴿فانظروا﴾ أي: إذا سرتم ومررتم بديار المكذبين وآثارهم، ثم أشار تعالى بالاستفهام إلى أن أحوالهم مما يجب أن يسأل عنه للاتعاظ به فقال: ﴿كيف كان عاقبة﴾ أي: آخر أمر ﴿المكذبين﴾ أي: من عاد ومن
بعدهم من الذين تلقيتم أخبارهم عمن قلدتموهم في الكفر من أسلافكم لعلكم تعتبرون. ولما كان من المحقق أنه ليس بعد الإيصال في الاستدلال إلى الأمر المحسوس إلا العناد أعرض عنهم ملتفتاً إلى الرؤوف بهم الشفيق عليهم محمد ﷺ فقال مسلياً له:
﴿إن تحرص على هداهم﴾ فتطلبه بغاية جدّك واجتهادك وقد أضلهم الله تعالى لا تقدر على ذلك ثم قال تعالى: ﴿فإنّ الله لا يهدي من يضلّ﴾ أي: من يرد ضلاله وهو معين لمن حقت عليه الضلالة. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الدال، والباقون بضم الياء وفتح الدال على البناء المفعول. قال البيضاوي: وهو أبلغ. ثم قال تعالى: ﴿وما لهم﴾ أي: هؤلاء الذين أضلهم الله وجميع من يضله ﴿من ناصرين﴾ أي: وليس لهم أحد ينصرهم في الدنيا والآخرة عند مجازاتهم على الضلالة لينقذوهم مما يلحقهم عليه من الوبال كما فعل بالمكذبين ممن قبلهم.
ثم حكى الله عن هؤلاء القوم أنهم ينكرون الحشر والنشر بقوله: ﴿وأقسموا بالله جهد أيمانهم﴾ أي: غاية اجتهادهم فيها ﴿لا يبعث الله من يموت﴾ وذلك أنهم قالوا: إنّ الإنسان ليس هو إلا هذه البنية المخصوصة فإذا مات وتفرّقت أجزاؤه وبلى امتنع عوده بعينه؛ لأنّ الشيء إذا عدم فقد فني، ولم يبق له ذات ولا حقيقة بعد فنائه وعدمه، فكذبهم الله تعالى في قولهم بقوله تعالى: ﴿بلى﴾ أي: يبعثهم بعد الموت فإنّ لفظة بلى إثبات لما بعد النفي والجواب عن شبهتهم أنّ الله تعالى خلق الإنسان وأوجده من العدم، ولم يكن شيئاً فالذي أوجده ولم يكن شيئاً قادر على إيجاده بعد إعدامه لأنّ النشأة الثانية أهون من الأولى، وقوله تعالى: ﴿وعداً عليه حقاً﴾ مصدران مؤكدان منصوبان بفعلهما المقدّر، أي: وعد ذلك وعداً وحقه حقاً.
﴿ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون﴾ ذلك، أي: لا علم لهم يوصلهم لذلك لأنه من عالم الغيب، لا يمكن عقولهم الوصول إليه بغير إرشاد من الله تعالى ولا هم يقبلون أقوال الدعاة إليه الذين أيدهم الله بروح منه لتقيدهم بما يوصل إلى عقولهم أنها قاصرة على عالم الشهادة لا يمكنها الترقي منه إلى عالم الغيب بغير واسطة منه سبحانه وتعالى، فلذلك ترى الإنسان منهم يأبى ذلك استبعاداً وهو خصيم مبين.
وقوله تعالى: {ليبين لهم الذي
وذباً عن الأهلين، وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بضم الباء والباقون بالكسر، ثم أكذبهم الله تعالى بقوله تعالى: ﴿وما﴾ أي: والحال أنها ما ﴿هي بعورة﴾ في ذلك الوقت الذي قالوا هذا فيه ولا يريدون بذهابهم حمايتها ﴿إن﴾ أي: ما ﴿يريدون﴾ باستئذانهم ﴿إلا فراراً﴾ من القتال.
ولما كانت عنايتهم مشتدة بملازمة دورهم، فأظهروا اشتداد العناية بحمايتها زوراً بين تعالى ذلك بقوله تعالى:
﴿ولو دخلت﴾ أي: بيوتهم أو المدينة، وأنث الفعل نصاً على المراد وإشارة إلى أن ما ينسب إليهم جدير بالضعف، وأتى بأداة الاستعلاء بقوله تعالى: ﴿عليهم﴾ إشارة إلى أنه دخول غلبة ﴿من أقطارها﴾ أي: جوانبها كلها بحيث لا يكون لهم مكان للهرب، وحذف الفاعل للإيماء بأن دخول هؤلاء الأحزاب ودخول غيرهم من العساكر سيان في اقتضاء الحكم المرتب عليه ﴿ثم سئلوا﴾ من أي سائل كان ﴿الفتنة﴾ أي: الشرك ومقاتلة المسلمين وقرأ ﴿لأتوها﴾ نافع وابن كثير بقصر الهمزة لجاؤها أو فعلوها، والباقون بالمد أي: لأعطوها إجابة لسؤال من سألهم ﴿وما تلبثوا بها﴾ أي: ما احتبسوا عن الفتنة ﴿إلا يسيراً﴾ أي: لأسرعوا إلى الإجابة للشرك طيبة بها نفوسهم، فعلم بذلك أنهم لا يقصدون إلا الفرار لا حفظ البيوت من المضار، وهذا قول أكثر المفسرين.
وقال الحسن: المراد بالفتنة الخروج من البيوت سمى بذلك لأن الإنسان لا يخرجه من بيته إلا الموت أو ما هو يقاربه، فكأنه فتنة، وعلى هذا يكون الضمير في بها راجعاً للبيوت أو المدينة أي: ما لبثوا بالبيوت أو بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا يسيراً حتى هلكوا.
﴿ولقد كانوا﴾ أي: هؤلاء الذين أسرعوا الإجابة إلى الفرار ﴿عاهدوا الله﴾ الذي لا أَجّلَّ منه ﴿من قبل﴾ أي: من قبل غزوة الخندق ﴿لا يولون الأدبار﴾ أي: لا ينهزمون، وقال يزيد بن رومان: هم بنو حارثة هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله تعالى أن لا يعودوا لمثلها، وقال قتادة: هم أناس كانوا قد غابوا عن وقعة بدر فرأوا ما أعطى الله تعالى أهل بدر من الكرامة والفضيلة قالوا: لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلن، فساق الله تعالى إليهم ذلك، وقال مقاتل والكلبي: هم سبعون رجلاً بايعوا رسول الله ﷺ ليلة العقبة وقالوا: اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال رسول الله ﷺ أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم قالوا: وإذا فعلنا ذلك فما لنا يا رسول الله قال: لكم النصر في الدنيا، والجنة في الآخرة قالوا: قد فعلنا، فذلك عهدهم، قال البغوي: وهذا القول، ليس بمرضي لأن الذين بايعوا ليلة العقبة كانوا سبعين نفراً ليس فيهم شاك ولا من يقول مثل هذا القول، وإنما الآية في قوم عاهدوا الله تعالى أن يقاتلوا ولا يفروا فنقضوا العهد. انتهى.
ولما كان الإنسان قد يتهاون بالعهد لإعراض المعاهد عنه قال تعالى: ﴿وكان عهد الله﴾ المحيط بصفات الكمال ﴿مسؤولاً﴾ أي: عن الوفاء به، ثم أمر الله تعالى نبيه ﷺ بقوله تعالى:
﴿قل﴾ أي: لهم وأكد لظنهم نفع الفرار ﴿لن ينفعكم الفرار﴾ في تأخير آجالكم في وقت من الأوقات الذي ما كان استئذانكم إلا بسببه ﴿إن فررتم من الموت أو القتل﴾ أي: الذي كتب لكم لأن الأجل إن كان قد حضر لم يتأخر بالفرار، وإلا لم يقصره الثبات كما كان عليّ رضي الله
المأمورون بالتفسح السامعون للأوامر المبادرون إليها بطاعتهم لرسول الله ﷺ وقيامهم في مجلسهم وتوسعهم لإخوانهم ﴿والذين أوتوا العلم درجات﴾ يجوز أن يكون معطوفاً على الذين آمنوا فهو من عطف الخاص على العام فإنّ الذين أوتوا العلم بعض المؤمنين، ويجوز أن يكون والذين أوتوا العلم من عطف الصفات أي: تكون الصفتان لذات واحدة كأنه قيل: يرفع الله المؤمنين العلماء ودرجات مفعول ثان، وقال ابن عباس: تمّ الكلام عند قوله تعالى: ﴿منكم﴾ وينتصب الذين أوتوا بفعل مضمر أي: ويخص الذين أوتوا العلم درجات أو ويرفع درجات.
قال المفسرون: في هذه الآية أنّ الله تعالى رفع المؤمن على من ليس بمؤمن والعالم على من ليس بعالم، قال ابن مسعود مدح الله تعالى العلماء في هذه الآية، والمعنى: أنّ الله تعالى يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات في دينهم إذا فعلوا بما أمروا به وقال تعالى: ﴿هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾ (الزمر: ٩)
وقال تعالى: ﴿وقل رب زدني علماً﴾ (طه: ١١٤)
وقال تعالى: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ (فاطر: ٢٨)
والآيات في ذلك كثيرة معلومة
وأمّا الأحاديث فكثيرة مشهورة منها من «يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» وروي أنّ عمر رضى الله عنه «كان يقدّم عبد الله بن عباس على الصحابة رضي الله تعالى عنهم فكلموه في ذلك فدعاهم ودعاه فسألهم عن تفسير ﴿إذا جاء نصر الله والفتح﴾ فسكتوا فقال ابن عباس: هو أجل رسول الله ﷺ أعلمه الله إياه فقال عمر ما أعلم منها إلا ما تعلم».
ومنها أنه ﷺ قال: «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله ما لا فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها» والمراد بالحسد: الغبطة: وهي أن تتمنى مثله ومنها أنه ﷺ «قال لعليّ كرّم الله وجهه: لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» ومنها أنه ﷺ قال: «من جاءه أجله وهو يطلب العلم لحيي به الإسلام لم يفضله النبيون إلا بدرجة واحدة» ومنها أنه ﷺ قال: «بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة».
ومنها: أنه ﷺ قال فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وفي رواية كفضلي على أدناكم».
ومنها: أنه ﷺ قال: إنّ الله أوحى إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أني عليم أحب كل عليم».
ومنها: أنه ﷺ قال: «يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومنها: «أنه ﷺ مرّ بمجلسين في مسجده أحد المجلسين يدعون الله تعالى ويرغبون إليه، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه فقال رسول الله ﷺ كلا المجلسين على خير وأحدهما أفضل من صاحبه، أما هؤلاء فيدعون لله عز وجل ويرغبون إليه، وأما هؤلاء فيتعملون الفقه ويعلمونه الجاهل فهؤلاء أفضل، وإنما بعثت معلماً ثم جلس فيهم» والأحاديث في ذلك كثيرة جدّاً.
وأمّا أقوال السلف فلا تحصر، فمنها ما قاله ابن عباس: أن سليمان عليه السلام خير بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه، وما قاله بعض الحكماء: ليت شعري أي شيء أدرك


الصفحة التالية
Icon