إبراهيم حتى تخلصوا من اليهودية التي وطنتكم في فساد دينكم ودنياكم حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله تعالى لتسوية أغراضكم وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله تعالى لإبراهيم عليه السلام ومن تبعه ﴿حنيفاً﴾ أي: مائلاً عن كل دين إلى دين الإسلام وقوله تعالى: ﴿وما كان من المشركين﴾ فيه إشارة إلى أن اتباع إبراهيم ﷺ واجب في التوحيد الصرف، والاستقامة في الدين والتجنب عن الإفراط وهو تحريف التوراة وعن التفريط وهو ترك العمل وفيه إشارة إلى التعريض بشرك اليهود.d
ولما قالت اليهود للمسلمين: بيت المقدس قبلتنا وهو أفضل من الكعبة وأقدم وهو مهاجر الأنبياء، وقال المسلمون بل الكعبة أفضل نزل.
﴿إن أوّل بيت وضع للناس﴾ أي: جعله الله متعبداً لهم وهو أوّل بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض خلقه الله تعالى قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على وجه الماء فدحيت الأرض تحته بناه الملائكة قبل خلق آدم ووضع بعده الأقصى وبينهما أربعون سنة كما في حديث الصحيحين. ولما أهبط آدم قالت له الملائكة: طف حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام وقيل: أوّل من بناه آدم فانطمس في الطوفان ثم بناه إبراهيم وقيل: كان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح ـ بضاد معجمة وحاء مهملة ـ سمي بذلك؛ لأنه ضرّح من الأرض أي: بعد ويطوف به الملائكة، فلما أهبط أمر بأن يحجه ويطوف حوله، ورفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به ملائكة السموات.
قال البيضاوي: وهذا القول لا يلائم ظاهر الآية وقيل: أول من بناه إبراهيم ثم هدم فبناه قوم من جرهم ثم العمالقة ثم قريش ﴿للذي﴾ أي: للبيت الذي ﴿ببكة﴾ بالباء لغة في مكة سميت بذلك؛ لأنها تبك أعناق الجبابرة أي: تدقها فلم يرمها جبار بسوء إلا وقسمه الله وسميت مكة بالميم لقلة مائها من قول العرب: مك الفصيل ضرع أمه وامتكه إذا امتص كل ما فيه من اللبن وتدعى أم رحم؛ لأنّ الرحمة تنزل بها وقوله تعالى: ﴿مباركاً﴾ حال من الذي أي: ذا بركة لأنه كثير الخير والنفع لما يحصل لمن حجوا واعتمره واعتكف عنده أو طاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب ﴿وهدى للعالمين﴾ لأنه قبلتهم ومتعبدهم ولأنّ فيه آيات عجيبة كما قال تعالى:
﴿فيه آيات بينات﴾ كانحراف الطيور عن موازاة البيت على مدى الأعصار فلا تعلو فوقه وأن ضواري السباع تخالط الصيود في الحرم ولا تتعرّض لها، وإذا قصدت الجارحة صيداً فدخلت الحرم كفت عنه وأنه بلد صار إليه الأنبياء والمرسلون والأولياء والأبرار، وإنّ الصلاة فيه تضاعف بمائة ألف وإن كان جبار قصده بسوء قهره الله تعالى كأصحاب الفيل، وجملة فيه آيات بينات مفسرة لهدى أو حال كمباركاً وهدى وقوله تعالى: ﴿مقام إبراهيم﴾ مبتدأ حذف خبره أي: منها مقام إبراهيم أو خبر مبتدأ محذوف أي: أحدها أو بدل من آيات بدل بعض من كل وهو الحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام وكان أثر قدميه فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي ولعل الذي اندرس بعضه فإني رأيت أثر القدمين فيه، وفي هذا دلالة على قدرة الله تعالى وبنوّة إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لأنّ تأثير القدم في الصخرة الصماء وغوصه فيها إلى الكعبين، ولأنه بعض الصخرة دون بعض وإبقاءه دون سائر آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحفظه
وقوله تعالى: ﴿أفأمن الذين مكروا السيئات﴾ فيه إضمار تقديره المكرات السيئات وهم كفار قريش مكروا بالنبيّ ﷺ وأصحابه وبالقرآن في أذيتهم والمكر عبارة عن السعي بالفساد على سبيل الإخفاء ثم إنه تعالى ذكر في تهديدهم أربعة أمور الأوّل قوله تعالى: ﴿أن يخسف الله بهم الأرض﴾ كما خسف بقارون وأصحابه فإذا هم في بطنها لا يقدرون على نوع تقلب بمتابعة ولا غيرها. الثاني قوله تعالى: ﴿أو يأتيهم العذاب﴾ على غير تلك الحال ﴿من حيث لا يشعرون﴾ به فيأتيهم بغتة فيهلكهم كما فعل بقوم لوط عليه السلام. الثالث: قوله تعالى: ﴿أو يأخذهم﴾ أي: الله بعذابه ﴿في﴾ حالة ﴿تقلبهم﴾ ومشاعرهم حاضرة وقواهم مستجمعة وفي تفسير هذا التقلب وجوه أوّلها: أنه تعالى يأخذهم بالعقوبة في أسفارهم فإنه تعالى قادر على إهلاكهم في السفر كما أنه قادر على إهلاكهم في الحضر. ﴿فما هم بمعجزين﴾ أي: بفائتين العذاب بسبب ضربهم في البلاد البعيدة بل يدركهم الله تعالى حيث كانوا. ثانيها: أنه تعالى يأخذهم بالليل والنهار وفي حال إقبالهم وإدبارهم وذهابهم ومجيئهم. وثالثها: أنّ الله تعالى يأخذهم في حال ما يتقلبون في قضايا أفكارهم فيحول الله بينهم وبين إتمام تلك الحيل وحمل لفظ التقلب على هذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى: ﴿وقلبوا لك الأمور﴾ (التوبة، ٤٨)
فإنهم إذا قلبوها فقد تقلبوا فيها.
الأمر الرابع: قوله تعالى:
﴿أو يأخذهم على تخوّف﴾ وفي تفسير التخوّف قولان؛ الأوّل: التخوّف تفعل من الخوف يقال: خفت الشيء وتخوّفته، والمعنى: أنه تعالى لا يأخذهم بالعذاب أوّلاً بل يخيفهم أوّلاً ثم يعذبهم بعده، وتلك الإخافة هو أنه تعالى يهلك قرية فتخاف التي تليها فيأتيهم العذاب. والثاني: التخوّف بمعنى التنقص، أي: أنه تعالى ينقص شيئاً بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا من تخوّفه إذا تنقصه. وروي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه قال على المنبر: ما تقولون في هذه الآية؟ فسكتوا. فقال شيخ من هذيل: هذه لغتنا التخوّف التنقص. فقال عمر: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، قال شاعرنا أبو كبير:
تخوّف، أي: تنقص ـ الرحل، أي: رحل ناقته ـ منها تامكاً، أي: سناماً ـ قردا،
والباقون بالكسر ﴿وإن يأت الأحزاب﴾ بعدما ذهبوا كرة أخرى ﴿يودوا﴾ أي: يتمنوا ﴿لو أنهم بادون في الأعراب﴾ أي: كائنون في البادية بين الأعراب الذين هم عندهم في محل نقص وممن تكره مخالطته، ثم ذكر حال فاعل بادون بقوله تعالى: ﴿يسألون﴾ كل وقت ﴿عن أنبائكم﴾ أي: أخباركم العظيمة مع الكفار وما آل إليه أمركم جرياً على ما هم عليه من النفاق ليبقوا لهم عندكم وجهاً، كأنهم مهتمون بكم يظهرون بذلك تحرقاً على غيبتهم عن هذه الحرب ﴿ولو﴾ أي: والحال أنهم لو ﴿كانوا﴾ هؤلاء المنافقون ﴿فيكم﴾ هذه الكرة ولم يرجعوا إلى المدينة، وكان قتال ﴿ما قاتلوا﴾ معكم ﴿إلا قليلاً﴾ نفاقاً كما فعلوا قبل ذهاب الأحزاب من حضورهم معكم تارة واستئذانهم في الرجوع إلى منازلهم أخرى.
ولما أخبر تعالى عنهم بهذه الأحوال التي هي غاية في الدناءة أقبل عليهم إقبالاً يدلهم على تناهي الغضب بقوله تعالى: مؤكداً محققاً لأجل إنكارهم:
﴿لقد كان لكم﴾ أيها الناس كافة الذين المنافقون في غمارهم ﴿في رسول الله﴾ الذي جلاله من جلاله وكماله من كماله ﴿أسوة﴾ أي: قدوة ﴿حسنة﴾ أي: صالحة وهو المؤتسى به أي: المقتدى به، كما تقول في البيضة: عشرون منَّاً حديداً أي: هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد، أو أن فيه خصلة حسنة من حقها أن يؤتسى بها، كالثبات في الحرب ومقاسات الشدائد إذ كسر رباعيته وجرح وجهه وقتل عمه، وأوذي بضروب الأذى، فواساكم مع ذلك بنفسه فافعلوا أنتم كذلك واستسنوا بسنته.
تنبيه: الأسوة اسم وضع موضع المصدر وهو الائتساء، فالأسوة من الائتساء كالقدوة من الاقتداء وائتسى فلان بفلان أي: اقتدى به، وقرأ عاصم بضم الهمزة والباقون بكسرها وهما لغتان: كالعُدوة والعِدوة، والقُدوة والقِدوة وقوله تعالى: ﴿لمن كان﴾ أي: كوناً كائنه جبلة له ﴿يرجو الله﴾ أي: في جبلته أنه يجدد الرجاء مشمراً للذي لا عظيم في الحقيقة سواه، فيؤمل إسعاده ويخشى إبعاده. تخصيص بعد التعميم للمؤمنين أي: أن الأسوة برسول الله ﷺ لمن كان يرجو الله. قال ابن عباس: يرجو ثواب الله، وقال مقاتل: يخشى الله ﴿واليوم الآخر﴾ أي: يخشى يوم البعث الذي فيه جزاء الأعمال ﴿وذكر الله﴾ أي: الذي له صفات الكمال وقيده بقوله تعالى: ﴿كثيراً﴾ تحقيقاً لما ذكر في معنى الرجاء الذي به الفلاح أو أن المراد به الدائم في حال السراء والضراء.
ولما بين تعالى حال المنافقين ذكر حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب بقوله تعالى:
﴿ولما رأى المؤمنون﴾ أي: الكاملون في الإيمان ﴿الأحزاب﴾ أي: الذين أدهشت رؤيتهم القلوب ﴿قالوا﴾ أي: مع ما حصل لهم من الزلزال وتعاظم الأهوال ﴿هذا﴾ أي: الذي نراه من الهول ﴿ما وعدنا الله﴾ أي: الذي له الأمر كله من تصديق دعوانا الإيمان بالبلاء والامتحان ﴿ورسوله﴾ المبلغ بنحو قوله تعالى: ﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم﴾ (البقرة: ٢١٤)
﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم﴾ (آل عمران: ١٤٢)
﴿أحسب الناس أن يتركوا﴾ (العنكبوت: ٢)
وأمثال ذلك. ثم قالوا في مقابلة قول المنافقين: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً ﴿وصدق الله﴾ أي: الذي له صفات الكمال ﴿ورسوله﴾ أي: الذي كماله من كماله أي: ظهر صدقهما في عالم الشهادة في كل ما وعدا به من السراء والضراء كما رأينا، وهما صادقان فيما غاب عنا مما
ثم عمم بعد أن خصص أشرف العبادات البدنية وأعلى المناسك المالية بقوله تعالى: ﴿وأطيعوا الله﴾ أي: الذي له الكمال له ﴿ورسوله﴾ أي: الذي عظمته من عظمته في سائر ما يأمرانكم به، فإنه تعالى ما أمركم لأجل إكرام رسولكم ﷺ إلا بالحنيفية السمحة ﴿والله﴾ أي: الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة ﴿خبير بما تعملون﴾ أي: يعلم بواطنكم كما يعلم ظواهركم لا تخفى عليه خافية.
﴿ألم تر﴾ أي: تنظر يا أشرف الخلق ﴿إلى الذين تولوا﴾ أي: تكلفوا بغاية جهدهم وهم المنافقون أي جعلوا أولياءهم الذين يتولون لهم أمورهم ﴿قوماً﴾ وهم اليهود ابتغوا عندهم العزة اغتراراً بما يظهر لهم منهم من القوة ﴿غضب الله﴾ أي: الملك الأعلى الذي لا ندّله ﴿عليهم﴾ أي: المتولى والمتولى لهم ﴿ما هم﴾ أي: المنافقون ﴿منكم﴾ أي: المؤمنين ﴿ولا منهم﴾ أي: اليهود بل هم مذبذبون وزاد في الشناعة عليهم بأقبح الأشياء بقوله تعالى: ﴿ويحلفون﴾ أي: المنافقون يجدّدون الحلف على الاستمرار ودل بأداة الاستعلاء على أنهم في غاية الجراءة على استمرارهم على الإيمان الكاذبة بأنّ التقدير مجترئين ﴿على الكذب﴾ في دعوى الإسلام وغير ذلك مما يقعون فيه من عظائم الآثام فإذا عوتبوا عليه بادروا إلى الإيمان ﴿وهم يعلمون﴾ أنهم كاذبون متعمدون.
روي «أنّ عبد الله بن نبتل كان يجالس رسول الله ﷺ ثم يرفع حديثه إلى اليهود فبينا رسول الله ﷺ في حجرة من حجره إذ قال لأصحابه: يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان، فدخل ابن نبتل وكان أزرق العينين أسمر قصيراً خفيف اللحية، فقال له النبي ﷺ علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل فقال النبي ﷺ فعلت فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فنزلت».
﴿أعد الله﴾ أي: الذي له العظمة الباهرة فلا كفء له ﴿لهم عذاباً﴾ أي: أمراً قاطعاً لكل عذوبة ﴿شديداً﴾ أي: لا طاقة لهم به ثم علل عذابهم بما دلّ على أنه واقع في أتم مواقعه بقوله تعالى مؤكداً تقبيحاً على من كان يستحسن فعالهم ﴿إنهم ساء﴾ أي: بلغ الغاية بما يسوء ودل على أنّ ذلك لهم كالجبلة بقوله تعالى: ﴿ما كانوا يعملون﴾ أي: يجدّدون عمله مستمرّين عليه لا ينفكون عنه، قال الزمخشري: أو هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة
﴿اتخذوا أيمانهم﴾ أي: الكاذبة التي لا تهون على من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ﴿جنة﴾ وقاية وسترة من كل ما يفضحهم من النفاق كائناً ما كان ﴿فصدّوا﴾ أي: كان قبول ذلك منهم وتأخير عقابهم سبباً لإيقاعهم الصدّ ﴿عن سبيل الله﴾ أي: شرع الملك الأعلى الذي هو طريق إلى رضوانه الذي هو سبب الفوز العظيم فإنهم كانوا يثبطون من لقوا عن الدخول في الإسلام ويوهنون أمره ويحقرونه، ومن رآهم قد خلصوا من المكاره بأيمانهم الخائنة ودرّت عليهم الأرزاق استدراجاً، وحصلت لهم الرفعة عند الناس بما يرضونه من أقوالهم المؤكدة بالإيمان، غرّه ذلك فاتبع سنتهم في أقوالهم وأفعالهم ونسج على منوالهم غروراً بظاهر أمرهم معرضاً عما توعدهم الله تعالى عليه من جزاء خداعهم وأمرهم وأجرى الأمر على أسلوب التهكم باللام التي تكون في المحبوب فقال تعالى: ﴿فلهم﴾ أي: فتسبب عن صدّهم إنه كان لهم ﴿عذاب مهين﴾ جزاء بما طلبوا بذلك الصدّ إعزاز أنفسهم وإهانة أهل الإسلام
{لن


الصفحة التالية
Icon