مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنين معجزة عظيمة، واختلف في سبب هذا الأثر على قولين: أحدهما أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر، فغاصت به قدماه وهذا هو المشهور، والقول الثاني أنه لما جاز إبراهيم من الشام إلى مكة قالت له امرأة إسماعيل: انزل حتى تغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ثم حوّلته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر فبقي أثر قدميه عليه. قال البيضاوي: وقيل عطف بيان وردّ هذا القول بأنّ آيات نكرة ومقام إبراهيم معرفة ولا يجوز التخالف في عطف البيان بإجماع البصريين والكوفيين وقوله تعالى: ﴿ومن دخله كان آمناً﴾ جملة ابتدائية أو شرطية معطوفة من حيث المعنى على مقام لأنه في معنى أمن من دخله أي: ومنها أمن من دخله وذلك بدعوة
إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ﴿رب اجعل هذا البلد آمناً﴾ (إبراهيم، ٣٥)، وفي الإقتصار على ذكر هاتين الآيتين وطيّ ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات كأنه قيل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما، ونحوه في طي الذكر قول جرير:

*كانت حنيفة أثلاثاً فثلثهم من العبيد وثلث من مواليها
ومنه قوله ﷺ «حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة، والأمن من العذاب يوم القيامة» قال عليه الصلاة والسلام: «من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمناً» رواه أبو داود والدارقطني وغيرهما.
وروي أنه ﷺ قال: «الحجون والبقيع يؤخذا بأطرافهما وينثران في الجنة» والحجون مقبرة مكة والبقيع مقبرة المدينة. وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى: من لزمه القتل بردة أو قصاص أو غيرهما لم يتعرّض له إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج فيقتل، وكان عمر بن الخطاب يقول: لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه، وعند الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى: لا يلجأ إلى الخروج بل يقتل للأمر في خبر الشيخين بقتل ابن خطل وقد كان ارتدّ وتعلق بأستار الكعبة وأمّا قوله: ومن دخله كان آمناً وخبر من دخل المسجد فهو آمن فمعناه جمعاً بين الأدلة أنّ من دخله بغير استحقاق قتل كان آمناً، ومن دخله بعد استحقاق قَتل قُتل، وأما إذا ارتكب الجريمة في الحرم فيستوفى منه بالإتفاق ﴿وعلى الناس حج البيت﴾ أي: قصده للزيارة على وجه مخصوص وهو أحد أركان الإسلام، قال ﷺ «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان» وقرأ حفص وحمزة والكسائي بكسر الحاء وهي لغة نجد وقرأ الباقون بالفتح وهي لغة أهل الحجاز وهما لغتان فصيحتان ومعناهما واحد وقوله تعالى: ﴿من استطاع إليه﴾ أي: الحج أو البيت ﴿سبيلاً﴾ أي: طريقاً بدل من الناس مخصص له «وفسر رسول الله ﷺ الإستطاعة بالزاد والراحلة» رواه الحاكم وغيره ﴿ومن كفر﴾ أي: بما فرضه الله من الحج أو كفر بالله ﴿فإنّ الله غني عن العالمين﴾ أي: الإنس والجنّ والملائكة وعن عبادتهم وقيل: وضع كفر موضع لم يحج تأكيداً لوجوبه وتشديداً على تاركه
أي: متراكماً أو مرتفعاً وهو بسكون الراء ـ كما تخوّف عود النبعة السفن
والنبعة بالضم واحدة النبع وهو شجر يتخذ منه السفن والسفن بفتح السين والفاء ما ينحت به الشيء وهو فاعل تخوّف ومفعوله عود. فقال عمر: عليكم بديوانكم. قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. ومعنى البيت أنّ رحل ناقته ينقص سنامها المتراكم أو المرتفع كما ينقص السفن عود النبعة. ﴿فإنّ ربكم﴾ أي: المحسن إليكم بإهلاك من يريد وإبقاء من يريد وقوله تعالى: ﴿لرؤوف﴾ قرأه أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي بقصر الهمزة والباقون بالمدّ ومعناه بليغ الرحمة لمن يتوسل إليه بنوع وسيلة وكذا من قاطعه أتم مقاطعة وإليه أشار بقوله تعالى: ﴿رحيم﴾ أي: حيث لم يعاجلهم بالعذاب. ولما خوّف سبحانه وتعالى المشركين بالأنواع الأربعة المذكورة من العذاب أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي وتدبير أحوال الأرواح والأجسام ليظهر لهم أنه مع كمال هذه القدرة الباهرة والقوّة الغير المتناهية لا يعجز عن إيصال العذاب إليهم على أحد تلك الأجسام الأربعة بقوله تعالى:
﴿أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء﴾ أي: من الأجرام التي لها ظل كشجر وجبل ﴿تتفيؤ﴾ أي: تتميل ﴿ظلاله عن اليمين والشمائل﴾ جمع شمال، أي: عن جانبي كل واحد منهما وشقيه. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب على نسق ما قبله والباقون بالياء على الغيبة إلى ما خلق استعارة من يمين الإنسان وشماله لجانبي الشيء، أي: ترجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرها له. وقال قتادة والضحاك: أمّا اليمين فأوّل النهار وأمّا الشمائل فآخره لأنّ الشمس وقت طلوعها إلى وقت انتهائها إلى وسط الفلك تقع الظلال إلى الجانب الغربي فإذا انحدرت الشمس من وسط الفلك إلى الجانب الغربي وقعت الظلال في الجانب الشرقي والظلال في أوّل النهار تبتدئ من يمين الفلك على الربع الغربي من الأرض ومن وقت انحدار الشمس من وسط الفلك تبتدئ من شمال الفلك واقعة على الربع الشرقي من الأرض. فإن قيل: ما السبب في ذكر اليمين بلفظ الواحد والشمائل بصيغة الجمع؟ أجيب: بأشياء الأوّل: أنه وحّد اليمين والمراد الجمع ولكنه اقتصر على الواحد كقوله تعالى: ﴿ويولون الدبر﴾ (القمر، ٤٥)
الثاني: قال الفرّاء: كأنه إذا وحد ذهب إلى واحد من ذوات الظلال وإذا جمع ذهب إلى كلها وذلك لأنّ قوله: ﴿إلى ما خلق الله من شيء﴾ لفظه واحد ومعناه الجمع على ما مرّ فيحتمل كلا الأمرين. الثالث: أنّ العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن أحدهما بلفظ الواحد كقوله تعالى: ﴿وجعل الظلمات والنور﴾ (الأنعام، ١)
. وقوله تعالى: ﴿ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم﴾ (البقرة، ٧)
. تنبيه: الهمزة للاستفهام وهو استفهام إنكار، أي: قد رأوا أمثال هذه الصنائع فما بالهم لم يتفكروا فيه ليظهر لهم كمال قدرته وقهره فيخافوا منه وما موصولة مبهمة بمعنى الذي ومن شيء بيان لها. فإن قيل: كيف بين الموصول وهو مبهم بشيء وهو مبهم بل أبهم مما قبله؟ أجيب: بأن شيئاً قد اتضح وظهر بوصفه بالجملة بعده وهو تتفيؤ ظلاله وقيل: الجملة بيان لما. وقوله تعالى: ﴿سجداً لله﴾ حال من الظلال جمع ساجد كشاهد وشهد، وراكع وركع. واختلف في المراد من السجود على قولين أحدهما: أنّ المراد منه
وعدا به من نصر وغيره، وإظهار الاسمين للتعظيم والتيمن بذكرهما. قال بعض المفسرين: ولو أعيدا مضمرين لجمع بين الباري تعالى واسم رسوله ﷺ فكان يقال: وصدقا، وقد رد ﷺ على من جمعهما بقوله: ﴿من يطع الله ورسوله﴾ فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، وأنكر عليه بقوله: بئس خطيب القوم أنت. قل: ﴿ومن يعص الله ورسوله﴾ قصداً إلى تعظيم الله تعالى. وقيل: إنما رد عليه لأنه وقف على يعصهما، واستشكل بعضهم الأول بقوله: «حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» فقد جمع بينهما في ضمير واحد؟ وأجيب: بأنه ﷺ أعرف بقدر الله تعالى منا فليس لنا أن نقول كما يقول وقد يقال: إذا كان رسول الله ﷺ يقول ذلك فالله جل وعلا أولى، وحينئذ فالقائل بأنه إنما رد عليه لأنه وقف على يعصهما أولى.
ولما كان هذا قولاً يمكن أن يكون لسانياً فقط كقول المنافقين أكده لظن المنافقين ذلك بقوله تعالى: شاهداً لهم ﴿وما زادهم﴾ أي: ما رأوه من أمرهم أو الرعب ﴿إلا إيماناً﴾ بالله ورسوله ﴿وتسليماً﴾ بجميع جوارحهم في جميع القضاء والقدر، ثم وصف الله تعالى بعض المؤمنين بقوله تعالى:
أي: المذكورين سابقاً وغيرهم ﴿رجال﴾ أي: في غاية العظمة عندنا ثم وصفهم بقوله تعالى: ﴿صدقوا ما عاهدوا الله﴾ المحيط علماً وقدرة ﴿عليه﴾ أي: أقاموا بما عاهدوا الله عليه ووفوا به ﴿فمنهم من قضى نحبه﴾ أي: نذره بأن قاتل حتى استشهد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر. والنحب: النذر استعير للموت لأنه كنذر لازم في رقبة كل حيوان وقيل: النحب الموت أيضاً. قال قتادة: قضى نحبه أي: أجله. وقيل: قضى نحبه أي: بذل جهده في الوفاء بالعهد من قول العرب نحب فلان في سيره يومه وليلته أي: اجتهد، وقيل قضى نحبه قتل يوم بدر أو يوم أُحد.
روي أن أنساً قال: «غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم واستقبله سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو إلى أين فقال: واهاً لريح الجنة أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل. قال أنس بن مالك: فوجدنا في جسده بضعاً وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح أو رمية بسهم فوجدناه قد قتل، وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه. قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه».
﴿ومنهم﴾ أي: الصادقين ﴿من ينتظر﴾ أي: السعادة كعثمان وطلحة ﴿وما بدلوا﴾ أي: العهد ولا غيروه ﴿تبديلاً﴾ أي: شيئاً من التبديل. روي أن ممن لم يقتل في عهد النبي ﷺ طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ثبت مع رسول الله ﷺ يوم أحد، وفعل ما لم يفعله غيره لزم النبي ﷺ فلم يفارقه وذبَّ عنه ووقاه بيده حتى شلت إصبعه قال إسماعيل بن قيس: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي ﷺ يوم أحد، وعن معاوية سمعت النبي ﷺ يقول: «طلحة ممن قضى نحبه»، وعن طلحة لما رجع النبي ﷺ من أحد صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قرأ: {رجال
تغنى} أي: بوجه من الوجوه ﴿عنهم أموالهم﴾ أي: في الدنيا ولا في الآخرة بالافتداء ولا بغيره ﴿ولا أولادهم﴾ أي: بالنصرة والمدافعة ﴿من الله﴾ أي: أغناه مبتدأ من الملك الأعلى ﴿شيئاً﴾ ولو قل جدّاً فمهما أراد بهم سبحانه كان ونفذ ومضى لا يدفعه شيء تكذيباً لمن قال منهم: لئن كان يوم القيامة لنكوننّ أسعد فيه منكم كما نحن الآن ولننجونّ بأنفسنا وأموالنا وأولادنا ﴿أولئك﴾ أي: البعداء من كل خير ﴿أصحاب النار هم﴾ أي: خاصة ﴿فيها﴾ أي: خاصة ﴿خالدون﴾ أي: دائمون لازمون إلى غير نهاية
وقوله تعالى: ﴿يوم﴾ منصوب باذكر أي: واذكر يوم ﴿يبعثهم الله﴾ أي: الذي له جميع صفات الكمال ﴿جميعاً﴾ فلا يترك أحداً منهم ولا من غيرهم إلا أعاده إلى ما كان قبل موته ﴿فيحلفون﴾ أي: فيتسبب عن ظهور القدرة التامّة لهم ومعاينة ما كانوا يكذبون به أنهم يحلفون ﴿له﴾ أي: لله في الآخرة أنهم مسلمون فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين ونحو ذلك ﴿كما يحلفون لكم﴾ في الدنيا أنهم مثلكم، وقال ابن عباس رضى الله عنهما: يحلفون لله تعالى يوم القيامة كذباً كما حلفوا لأوليائه في الدنيا وهو قولهم والله ربنا ما كنا مشركين. ﴿ويحسبون﴾ أي: في القيامة بأيمانهم الكاذبة ﴿أنهم على شيء﴾ أي: يحصل لهم به نفع بإنكارهم وحلفهم، وقيل: يحسبون في الدنيا أنهم على شيء، لأنهم في الآخرة يعلمون الحق باضطرار والأول أظهر والمعنى: أنهم لشدّة توغلهم في النفاق ظنوا يوم القيامة أنهم يمكنهم ترويج كذبهم بالأيمان الكاذبة على علام الغيوب.
وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه﴾ (الأنعام: ٢٨)
وعن ابن عباس رضى الله عنهما «أن رسول الله ﷺ قال: «ينادي مناد يوم القيامة أين خصماء الله تعالى فتقوم القدرية مسودّة وجوههم مزرقة أعينهم مائل شقهم يسيل لعابهم فيقولون والله ما عبدنا من دونك شمساً ولا قمراً ولا صنماً ولا اتخذنا من دونك إلهاً» قال ابن عباس رضى الله عنهما: صدقوا والله أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون ثم تلا: ﴿ويحسبون أنهم على شيء﴾ » وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: بفتح السين، والباقون بكسرها ﴿ألا إنهم هم الكاذبون﴾ المحكوم بكذبهم في حسبانهم هم والله القدرية ثلاثاً.
﴿استحوذ﴾ أي: استولى ﴿عليهم الشيطان﴾ مع أنه طريد ومحترق ووصل منهم إلى ما يريده وملكهم ملكاً لم يبق لهم معه اختيار فصاروا رعيته وصار هو محيطاً بهم من كل جهة غالباً عليهم ظاهراً وباطناً من قولهم حذت الأبل وحذذتها إذا استوليت عليها، والحوذ أيضاً: السوق السريع ومنه الأحوذي الخفيف في الشيء لحذقه، واستحوذ مما جاء على الأصل وهو ثبوت الواو دون قلبها ألفاً ﴿فأنساهم﴾ أي: فتسبب عن استحواذه عليهم أن أنساهم ﴿ذكر الله﴾ أي: الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا ﴿أولئك﴾ أي: البعداء البغضاء ﴿حزب الشيطان﴾ أي: أتباعه وجنوده وطائفته وأصحابه ﴿ألا إنّ حزب الشيطان﴾ أي: الطريد المحترق ﴿هم الخاسرون﴾ أي: العريقون في هذا الوصف؛ لأنهم لم يظفروا بغير الطرد والاحتراق.
﴿إن الذين يحادون الله﴾ أي: يفعلون مع الملك الأعظم الذي لا كفؤ له، فعل من ينازع آخر في الأرض فيغلب على طائفة ليجعل لها حداً لا يتعداه خصمه ﴿ورسوله﴾ أي: الذي عظمته من عظمته ﴿أولئك﴾ أي: البعداء البغضاء ﴿في الأذلين﴾ أي: في جملة من هو أدل خلق الله تعالى.
واختلف في معنى قوله عز وجلّ ﴿كتب الله﴾ أي: الملك الذي لا كفؤ له


الصفحة التالية
Icon