ولذلك قال ﷺ «من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً» رواه الترمذي وضعفه ونحوه في التغليظ: «من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر».
تنبيه: في هذه الآية أنواع من التأكيد والتشديد على طلب الحج منها قوله تعالى: ﴿وعلى الناس حج البيت﴾ أي: أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته ومنها أنه ذكر الناس ثم أنه أبدل منه من استطاع إليه سبيلاً وفيه ضربان من التوكيد: أحدهما أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له، والثاني أنّ الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين ومنها ذكر الإستغناء وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان ومنها قوله: عن العالمين ولم يقل عنه وفيه من الدلالة على الإستغناء عنه ببرهان؛ لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الإستغناء لا محالة ولأنه يدل على الإستغناء الكامل، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه وعن سعيد بن المسيب نزلت في اليهود فإنهم قالوا: الحج إلى مكة غير واجب.
وروي أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿وعلى الناس حج البيت﴾ جمع رسول الله ﷺ أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال: «إنّ الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل وهم المشركون واليهود والنصارى والصابئون والمجوس، قالوا: لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه فنزل: ومن كفر إلخ». وعنه ﷺ «حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرّتين ويرفع في الثالثة».
وروي: «حجوا قبل أن لا تحجوا، حجوا قبل أن يمنع البرّ جانبه»، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: «حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت» أي: ماتت.
﴿قل يأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله﴾ الدالة على صدق محمد ﷺ فيما يدعيه من وجوب الحج وغيره وتخصيص أهل الكتاب بالخطاب دليل على أنّ كفرهم أقبح وأنهم وإن زعموا أنهم مؤمنون بالتوراة والإنجيل فهم كافرون بهما ﴿وا شهيد﴾ أي: والحال إنّ الله تعالى شهيد ﴿على ما تعملون﴾ فيجازيكم عليه ﴿قل يأهل الكتاب لم تصدّون﴾ أي: تصرفون ﴿عن سبيل الله﴾ أي: دينه الحق المأمور بسلوكه وهو الإسلام ﴿من آمن﴾ بتكذيبكم النبيّ ﷺ وكتمكم نعته، وكانوا يفتنون المؤمنين ويحتالون في صدّهم عن دين الله ويمنعون من أراد الدخول فيه جهدهم وقيل: أتت اليهود الأوس والخزرج فذكروهم ما كان بينهم في الجاهلية من العدوان والحروب ليعودوا لمثله، وإنما كرر الخطاب والإستفهام مبالغة في التوبيخ ونفي العذر لهم وإشعاراً بأنّ كل واحد من الأمرين مستقبح في نفسه مستقل باستجلاب العذاب وقوله تعالى: ﴿تبغونها﴾ أي: السبيل ﴿عوجاً﴾ حال من الواو أي: باغين طالبين لها اعوجاجاً أي: ميلاً عن القصد والإستقامة بأن تلبسوا على الناس وتوهموا أنّ في دين الإسلام عوجاً عن الحق بمنع النسخ وبتغيير صفة رسول الله ﷺ ونحوهما.
فائدة: قال أبو عبيدة: العوج بالكسر في الدين والقول والعمل وبالفتح في الجدار وكل شخص قائم ﴿وأنتم شهداء﴾ أي: عالمون بأنّ الدين المرضي هو دين الإسلام كما في كتابكم ﴿وما الله بغافل عما تعملون﴾ من الكفر
الاستسلام والانقياد يقال: سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب وسجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل ويقال: اسجد للقرد في زمانه، أي: اخضع له وقال الشاعر:
* ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
أي متواضعة. والثاني: أنّ هذه الظلال واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد فلما كانت الظلال يشبه شكلها شكل الساجدين أطلق الله تعالى عليها هذا اللفظ وكان الحسن يقول: أما ظلك فيسجد لربك وأمّا أنت فلا تسجد لربك بئسما صنعت. وعن مجاهد ظل الكافر يصلي وهو لا يصلي. وقيل: ظل كل شيء يسجد لله سواء أكان ذلك الشيء ساجداً أم لا. قال الرازي: والأوّل أقرب إلى الحقائق العقلية والثاني أقرب إلى الشبهات الظاهرة. وقوله تعالى: ﴿وهم داخرون﴾ أي: صاغرون حال أيضاً من الظلال فينتصب عنه حالان وقيل: حال من الضمير المستتر في سجداً فهي حال متداخلة. فإن قيل: الظلال ليست من العقلاء فكيف جاز جمعها بالواو والنون؟ أجيب: أنه تعالى لما وصفها بالطاعة والدخور أشبهت العقلاء أو أن في جملة ذلك من يعقل فغلب. ولما حكم على الظلال بما يعم أصحابها من جماد وحيوان وكان الحيوان أشرف من الجماد رقي الحكم إليه بخصوصه، فقال:
﴿ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض﴾ وقوله تعالى: ﴿من دابة﴾ يجوز أن يكون بياناً لما في السموات وما في الأرض جميعاً على أنّ في السموات خلقاً لله يدبون فيها كما تدب الأناسيّ في الأرض، وأن يكون بياناً لما في الأرض وحده، ويراد بما في السموات الخلق الذي يقال له الروح، وأن يكون بياناً لما في الأرض ويراد بما في السموات الملائكة وكرّر ذكرهم بقوله تعالى: ﴿والملائكة﴾ خصوصاً من بين الساجدين لأنهم أطوع الخلق وأعبدهم ويجوز أن يراد بما في السموات ملائكتهنّ وبقوله تعالى: ﴿والملائكة﴾ ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم. فإن قيل: سجود المكلفين مما انتظمه هذا الكلام خلاف سجود غيرهم فكيف عبر عن النوعين بلفظ واحد؟ أجيب: بأنّ المراد بسجود المكلفين طاعتهم وعبادتهم وبسجود غيرهم انقياده لإرادة الله تعالى وأنه غير ممتنع عليه وكلا السجودين يجمعهما معنى الانقياد فلم يختلفا فلذلك جاز أن يعبر عنهما بلفظ واحد. فإن قيل: هلا جيء بمن دون ما تغليباً للعقلاء من الدواب على غيرهم؟ أجيب: بأنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب فكان متناولاً للعقلاء خاصة فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم إرادة للعموم. ﴿وهم﴾ أي: الملائكة ﴿لا يستكبرون﴾ عن عبادته ثم علل تخصيصهم بقوله تعالى دلالة على أنهم كغيرهم في الوقوف بين الخوف والرجاء.
﴿يخافون ربهم﴾ أي: الموجد لهم المدبر لأمورهم المحسن إليهم خوفاً مبتدأ ﴿من فوقهم﴾ إشارة إلى علو الخوف عليهم وغلبته لهم، أو أن يرسل عليهم عذاباً من فوقهم أو يخافونه وهو فوقهم بالقهر كقوله تعالى: ﴿وهو القاهر فوق عباده﴾ (الأنعام، ١٨)
. وقوله تعالى: ﴿وإنا فوقهم قاهرون﴾ (الأعراف، ١٢٧)
والجملة حال من الضمير في لا يستكبرون، أو بيان له أو تقرير لأنّ من خاف الله لا يستكبر عن عبادته. ﴿ويفعلون ما يؤمرون﴾ أي: من الطاعة والتدبير وفي ذلك دليل على أنّ الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهي والوعد والوعيد كسائر المكلفين وأنهم بين الخوف والرجاء، كما مرّت الإشارة إليه وأنهم معصومون من الذنوب لأنّ قوله تعالى: ﴿وهم لا يستكبرون﴾ يدل
صدقوا وما عاهدوا الله عليه} الآية كلها فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله من هؤلاء فقال: «أيها السائل هذا منهم»، وعنه أيضاً: أن أصحاب النبي ﷺ قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟ كانوا لا يجترؤن على مسألته يهابونه ويوقرونه، فسأله الأعرابي فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم إني طلعت من باب المسجد فقال: أين السائل عمن قضى نحبه؟ قال الأعرابي: أنا فقال: «هذا ممن قضى نحبه»، وهذا يقوي القول بأن المراد بالنحب بذل الجهد في الوفاء بالعهد، وعن خباب بن الأرت قال: هاجرنا مع رسول الله ﷺ في سبيل الله نبتغي وجه الله فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة، فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه منها، وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه منها فقال ﷺ «ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه من الأذخر» قال: ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهديها أينعت أي: أدركت ونضجت له ثمرتها ويهديها أي: يجنيها، وهذا كناية عما فتح الله تعالى لهم من الدنيا وعن زيد بن ثابت قال:
«لما نسخنا المصحف من المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله ﷺ يقرؤها لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله ﷺ شهادته بشهادة رجلين من المؤمنين ﴿رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه﴾ فألحقتها في سورتها في المصحف».
﴿ليجزي الله﴾ أي: الذي يريد إظهار جميع صفاته يوم البعث للخاص والعام ظهوراً تاماً ﴿الصادقين﴾ أي: في الوفاء بالعهد وادعاء أنهم آمنوا به ﴿بصدقهم﴾ أي: فيعلي أمرهم وينعمهم في الآخرة فالصدق سبب وإن كان فضلاً منه لأنه الموفق له.
تنبيه: في لام ليجزي وجهان: أحدهما: أنها لام العلة، والثاني: أنها لام الصيرورة وفيما تتعلق به أوجه: إما بصدقوا، وإما بما زادهم، وإما بما بدلوا، وعلى هذا جعل المنافقين كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوا بتبديلهم كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم لأن كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب، فكأنهما استويا في طلبهما والسعي لتحصيلهما ﴿ويعذب المنافقين﴾ أي: الذين أخفوا الكفر وأظهروا الإسلام في الدارين بكذبهم في دعواهم الإيمان المقتضي لبيع النفس والمال ﴿إن شاء﴾ بأن يميتهم على نفاقهم ﴿أو يتوب عليهم﴾ إن شاء بأن يهديهم إلى التوبة فيتوبوا فالكل بإرادته.
تنبيه: جواب إن شاء مقدر، وكذا مفعول شاء أي: إن شاء تعذيبهم عذبهم، وقرأ قالون والبزي وأبو عمر بإسقاط الهمزة الأولى مع المد والقصر، وسهل ورش وقنبل الثانية وأبدلاها أيضاً حرف مد وحققها الباقون وفي الابتداء بالثانية الجميع بالتحقيق.
ولما كانت توبة المنافقين مستبعدة لما يرون من صلابتهم في الخداع وخبث سرائرهم قال معللاً ذلك كله على وجه التأكيد: ﴿إن الله﴾ أي: بما له من الجلال والجمال ﴿كان﴾ أزلاً وأبداً ﴿غفوراً﴾ لمن تاب ﴿رحيماً﴾ بهم، ثم بين تعالى بعض ما جزاهم الله تعالى بصدقهم بقوله تعالى:
﴿ورد الله﴾ أي: بما له من صفات الكمال ﴿الذين كفروا﴾ وهم من تحزب من العرب وغيرهم على رسول الله ﷺ إلى بلادهم عن المدينة ومضايقة المؤمنين حال كونهم
فقال أكثر المفسرين أي: قضى الله عز وجلّ ﴿لأغلبن﴾ وقال قتادة: كتب في اللوح المحفوظ، وقال الفراء: كتب بمعنى قال وقوله تعالى: ﴿أنا﴾ تأكيد ﴿ورسُلي﴾ أي: من بعث منهم بالحرب ومن بعث منهم بالحجة فإذا انضم إلى الغلبة بالحجة الغلبة بالحرب كان أغلب وأقوى.
وقال مقاتل: قال المؤمنون لئن فتح الله لنا مكة والطائف وخيبر وما حولهنّ رجونا أن يظهرنا الله تعالى على فارس والروم، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها والله أنهم لأكثر عدداً وأشدّ بطشاً من أن تظنوا فيهم فنزل ﴿لأغلبن أنا ورسلي﴾.
ونظيره قوله تعالى: ﴿ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين أنهم لهم المنصورون وإنّ جندنا لهم الغالبون﴾ (الصافات: ١٧١ ـ ١٧٣)
وقرأ نافع وابن عامر: بفتح الياء والباقون بالسكون ﴿إن الله﴾ أي: الذي له الأمر كله ﴿قويّ﴾ أي: على نصر أوليائه ﴿عزيز﴾ أي: لا يغلب عليه في مراده.
ثم نهى تعالى عن موالاة أعداء الله تعالى بقوله سبحانه ﴿لا تجد﴾ أي: بعد هذا البيان ﴿قوماً﴾ أي: ناساً لهم قوة على ما يريدون ﴿يؤمنون﴾ أي: يجددون الإيمان ويديمونه ﴿بالله﴾ أي: الذي له صفات الكمال ﴿واليوم الآخر﴾ الذي هو موضع الجزاء لكل عامل بكل ما عمل الذي هو محط الحكمة ﴿يوادّون﴾ أي: يحصل منهم ودّ لا ظاهراً ولا باطناً ﴿من حادّ الله﴾ أي: عادى بالمناصبة في حدود الملك الأعلى ﴿ورسوله﴾ فإن من حادّه فقد حادّ الذي أرسله بل لا تجدهم إلا يحادّونهم لا أنهم يوادّونهم.
وزاد ذلك تأكيداً بقوله تعالى: ﴿ولو كانوا آباؤهم﴾ أي: الذين أوجب الله تعالى إلا بناء طاعتهم في المعروف، وذلك كما فعل أبو عبيدة بن الجراح حيث قتل أباه عبد الله بن الجرّاح يوم أحد ﴿أو أبناءهم﴾ أي: الذين جبلوا على محبتهم ورحمتهم، كما فعل أبو بكر «فإنه دعا ابنه يوم بدر إلى المبارزة وقال: دعني يا رسول الله أكن في الرعلة الأولى فقال له رسول الله ﷺ متعنا بنفسك يا أبا بكر أما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري» ﴿أو إخوانهم﴾ أي: الذين هم أعضادهم كما فعل مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد وخزف سعد بن أبي وقاص غير مرّة فراغ منه روغان الثعلب فنهاه النبي ﷺ عنه وقال: أتريد أن تقتل نفسك.
وقتل محمد بن سلمة الأنصاري أخاه من الرضاع كعب بن الأشرف اليهودي رأس بني النضير ﴿أو عشيرتهم﴾ أي: الذين هم أنصارهم وأمدادهم كما قتل عمر خاله العاصي وهشام بن المغيرة يوم بدر، وعلي وحمزة وعبيدة بن الحارث قتلوا يوم بدر بني عمهم عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة.
وعن الثوري: أنّ السلف كانوا يرون أنّ الآية نزلت فيمن يصحب السلطان ا. هـ. ومدار ذلك على أنّ الإنسان يقطع رجاء من غير الله تعالى، وإن لم يكن كذلك لم يكن مخلصاً في إيمانه.
تنبيه: قدّم الآباء أوّلاً لأنهم تجب طاعتهم على أبنائهم، ثم ثنى بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب وهم حياتها، ثم ثلث بالأخوان لأنهم هم الناصرون بمنزلة العضد من الذراع. قال الشاعر:
*أخاك أخاك إن من لا أخا له
... كساع إلى الهيجا بغير سلاح
*وإن ابن عمّ المرء فاعلم جناحه
... وهل ينهض البازي بغير جناح
ثم ربع بالعشيرة لأنّ بها يستغاث وعليها يعتمد، والمعنى: أنّ الميل إلى هؤلاء أعظم أنواع المحبة ومع


الصفحة التالية
Icon