بعضهم: هي قيام الليل. وقال ابن مسعود: هي صلاة العتمة؛ لأنّ أهل الكتاب لا يصلونها لما روي: «أنه عليه الصلاة والسلام أخرها ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: أما إنه ـ أي: الشأن ـ ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى هذه الساعة غيركم» رواه الإمام أحمد والنسائيّ وغيرهما وقوله: غيركم بالنصب خبر ليس ومن أهل الأديان حال من أحد قاله التفتازاني. ثم وصف الله تعالى تلك الأمة القائمة بصفات أخر فقال:
﴿يؤمنون با واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك﴾ أي: الموصوفون بما ذكر ﴿من الصالحين﴾ أي: ممن صلحت أحوالهم عند الله واستحقوا رضاه وثناه أي: والأمة الأخرى غير قائمة بل منحرفون عن الحق غير متعبدين بالليل مشركون بالله ملحدون في صفاته واصفون لليوم الآخر بغير صفته متباطئون عن الخيرات فترك هذه اكتفاء بذكر أحد الفريقين.
﴿وما تفعلوا من خير فلن تكفروه﴾ أي: تعدموا ثوابه بل تجازون عليه، وقرأ حفص وحمزة والكسائيّ بالياء فيهما أي: الأمة القائمة والباقون بالتاء على الخطاب أي: أيها الأمة القائمة وقوله تعالى: ﴿وا عليم بالمتقين﴾ بشارة لهم وإشعار بأن التقوى مبدأ الخير وحسن العمل وأنّ الفائز عند الله هو أهل التقوى.
﴿إنّ الذين كفروا لن تغني﴾ أي: تدفع ﴿عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله﴾ أي: من عذابه ﴿شيئاً﴾ وخص الأموال والأولاد بالذكر لأنّ الإنسان يدفع عن نفسه تارة بفداء المال وتارة بالاستعانة بالأولاد ﴿وأولئك أصحاب النار﴾ أي: ملازموها ﴿هم فيها خالدون مثل﴾ أي: صفة.
﴿ما ينفقون﴾ أي: الكفار ﴿في هذه الحياة الدنيا﴾ في عداوة النبيّ ﷺ ونحوها ﴿كمثل ريح فيها صرّ﴾ قال أكثر المفسرين: فيها برد شديد وحكي عن ابن عباس أنها السموم الحارّة التي تقتل وقيل: فيها صرّ أي: صوت ﴿أصابت حرث﴾ أي: زرع ﴿قوم ظلموا أنفسهم﴾ بالكفر والمعاصي ﴿فأهلكته﴾ عقوبة لهم؛ لأنّ الإهلاك عن سخط أشدّ وأبلغ والمعنى مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح الزرع فلم ينتفعوا به فكذلك نفقة هؤلاء ذاهبة لا ينتفعون بها ﴿وما ظلمهم الله﴾ بضياع نفقاتهم ﴿ولكن أنفسهم يظلمون﴾ بالكفر الموجب لضياعها ويجوز أن يعود الضمير لأصحاب الحرث الذين ظلموا أنفسهم أي: وما ظلمهم الله تعالى بإهلاك حرثهم ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة.
﴿يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة﴾ أي: أصفياء تطلعونهم على سرّكم ثقة بهم شبهوا ببطانة الثوب كما شبهوا بالشعار قال عليه الصلاة والسلام: «الأنصار شعار والناس دثار» رواه الشيخان والشعار ما يلي الجسد والدثار فوقه وقوله تعالى: ﴿من دونكم﴾ أي: من دون المسلمين متعلق بلا تتخذوا أو بمحذوف هو صفة بطانة أي: كائنة من دونكم أي: غيركم من الكفار المنافقين ﴿لا يألونكم خبالاً﴾ أي: لا يقصرون لكم في الفساد والألو التقصير وأصله أن يعدّى بالحرف وعدي إلى مفعولين كقولهم: لا آلوك نصحاً على تضمين معنى المنع أو النقص والمعنى لا أمنعك نصحاً ولا أنقصكه ﴿ودّوا﴾ أي: تمنوا ﴿ما عنتم﴾ أي: عنتكم وهو شدّة الضرر وما مصدرية أي: تمنوا أن يضرّوكم في دينكم ودنياكم أشدّ الضرر وأبلغه ﴿قد بدت﴾ أي: ظهرت ﴿البغضاء من أفواههم﴾ أي: في كلامهم بالوقيعة فيكم وإطلاع المشركين
صلى الله عليه وسلم فيما كان يناله من الغم بسبب جهالات القوم والمزين في الحقيقة هو الله تعالى هذا مذهب أهل السنة وإنما جعل الشيطان آلة بالإلقاء للوسوسة في قلوبهم وليس له قدرة على أن يضلّ أحداً أو يهدي أحداً وإنما له الوسوسة فقط فمن أراد الله تعالى شقاوته سلطه الله عليه حتى يقبل وسوسته ﴿فهو وليهم اليوم﴾ أي: في الدنيا وإنما عبر باليوم عن زمانها، أي: فهو وليهم حين كان يزين لهم أو يوم القيامة على أنه حكاية حال ماضية أو آتية، أي: لا ولي لهم غيره وهو عاجز عن نصر نفسه فكيف ينصرهم. وقيل: الضمير لقريش، أي: زين الشيطان للكفرة المتقدّمين أعمالهم وهو وليّ هؤلاء القوم يغرّهم ويغريهم، وقيل: يجوز أن يقدّر مضاف، أي: فهو ولي أمثالهم والوليّ القرين والناصر فيكون نعتاً للناصر لهم على أبلغ الوجوه ﴿ولهم عذاب أليم﴾ أي: مؤلم في الآخرة. ثم ذكر تعالى أنه مع هذا الوعيد الشديد قد أقام الحجة وأزاح العلة بقوله تعالى:
﴿وما أنزلنا﴾ أي: بما لنا من العظمة من جهة العلوّ. ﴿عليك﴾ يا أشرف المرسلين ﴿الكتاب﴾ أي: القرآن ﴿إلا لتبين لهم﴾ أي: للناس ﴿الذي اختلفوا فيه﴾ من أمر الدين مثل التوحيد والشرك وإثبات المعاد ونفيه فإنه كان فيهم من ينكر البعث ومنهم من يؤمن به ومنهم عبد المطلب ومثل تحريم الحلال كالبحيرة والسائبة وتحليلهم أشياء محرّمة كالميتة. فإن قيل: اللام في لتبين لهم تدل على أنّ أفعال الله تعالى معللة بالأغراض كقوله تعالى: ﴿كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس﴾ (إبراهيم، ١)
. وقوله: ﴿وما خلقت الجنّ والأنس إلا ليعبدون﴾ (الذاريات، ٥٦)
أجيب: بأنه لما ثبت بالعقل امتناع التعليل وجب صرفه إلى التأويل وقوله تعالى: ﴿وهدى ورحمة﴾ أي: وإكراماً بمحبة معطوفان على محل لتبين إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول لهما لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب ودخلت اللام على لتبين لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل وإنما ينتصب مفعولاً له ما كان فعل فاعل الفعل المعلل، ولما كان ذلك ربما شملهم وهم على ضلالهم نفاه بقوله تعالى: ﴿لقوم يؤمنون﴾ ونظيره قوله تعالى في أوّل البقرة: ﴿هدى للمتقين﴾ (البقرة، ٢)
. وإنما خص المؤمنين بالذكر من حيث أنهم قبلوه وانتفعوا به كما في قوله تعالى: ﴿إنما أنت منذر من يخشاها﴾ (النازعات، ٤٥)
لأنه إنما انتفع بإنذراه هذا القوم فقط. ولما انقضى الدليل على أنّ قلوبهم منكرة استكباراً وما يتعلق به، وختمه بما أحيا به القلوب في الإيمان والعلم بعد موتها بالكفر والجهل، وكان المقصود الأعظم من القرآن تقرير أصول أربعة: الإلهيات والنبوّات والمعاد وإثبات القضاء والقدر والفعل بالاختيار وكان أجلّ هذه المقاصد الإلهيات شرع في ذكر الوحدانية والقدرة والفعل بالاختيار المستلزم للقدرة على البعث على وجه غير المتقدّم ليعلم أنّ أدلة ذلك أكثر من أوراق الأشجار وأجلى من ضياء النهار فعطف على قوله: ﴿والله يعلم ما تسرون وما تعلنون﴾ (النحل، ١٩)
. قوله جامعاً في الدليل بين العالم العلوي والعالم السفلي.
﴿والله﴾ أي: الذي له الأمر كله ﴿أنزل من السماء﴾ في الوقت الذي يريده ﴿ماء﴾ بالمطر والثلج والبرد ﴿فأحيا به﴾ أي: بذلك الماء ﴿الأرض﴾ بأنواع النبات ﴿بعد موتها﴾ أي: يبسها ﴿إنّ في ذلك﴾ المذكور ﴿لآية﴾ أي: دلالة واضحة على كمال قدرته تعالى ﴿لقوم يسمعون﴾ أي: سماع تدبر وإنصاف ونظر لأنّ سماع القلوب هو النافع لاسماع الآذان فمن سمع آيات القرآن بقلبه وتدبرها وتفكر فيها
إليهن حتى يقع بنفس الاختيار أو لا، ذهب الحسن وقتادة وأكثر أهل العلم: إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق، وإنما خيرهن على أنهن إذا اخترن الدنيا فارقهن لقوله تعالى: ﴿فتعالين أمتعكن وأسرحكن﴾ ويدل عليه أنه لم يكن جوابهن على الفور فإنه قال لعائشة: لا تعجلي حتى تستشيري أبويك، وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور، وذهب آخرون: إلى أنه كان تفويض طلاق، ولو اخترن أنفسهن كان طلاقاً.
واختلف العلماء في حكم التخيير: فقال عمر وابن مسعود وابن عباس: إذا خير الرجل امرأته فاختارت زوجها لا يقع شيء، ولو اختارت نفسها وقع طلقة واحدة، وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وسفيان والشافعي وأصحاب الرأي، إلا أن عند أصحاب الرأي: أنه يقع طلقة بائنة إذا اختارت نفسها.
وعند الآخرين: رجعية. وقال زيد بن ثابت: إذا اختارت الزوج تقع طلقة واحدة، وإن اختارت نفسها فثلاث وهو قول الحسن ورواية عن مالك، وروي عن علي: أنها إذا اختارت زوجها تقع طلقة واحدة رجعية، وإن اختارت نفسها فطلقة بائنة، وأكثر العلماء على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء.
وعن مسروق قال: ما أبالي خيرت امرأتي واحدة أو مائة أو ألفاً بعد أن تختارني. قال الرازي: وهنا مسائل:
منها هل كان هذا التخيير واجباً على النبي ﷺ أم لا، والجواب: أن التخيير كان قولاً واجباً من غير شك لأنه إبلاغ لرسالة لأن الله تعالى لما قال له: قل لهن صار من الرسالة، وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا، والظاهر أنه للوجوب.
ومنها: أن واحدة منهن لو اختارت نفسها وقلنا: إنها لا تبين إلا بإبانة النبي ﷺ فهل كان يجب على النبي ﷺ الطلاق أم لا، الظاهر نظر إلى منصب النبي ﷺ أنه كان يجب لأن الخلف في الوعد من النبي ﷺ غير جائز، بخلاف أحدنا فإنه لا يلزمه شرعاً الوفاء بما يعد.
ومنها: أن المختارة بعد البينونة هل كانت تحرم على غيره أم لا، الظاهر أنها لا تحرم وإلا لم يكن التخيير ممكناً لها من التمتع بزينة الدنيا.
ومنها: أن من اختارت الله ورسوله هل كان يحرم على النبي ﷺ طلاقها أم لا، الظاهر الحرمة نظراً إلى منصب الرسول ﷺ على معنى أن النبي ﷺ لا يباشره أصلاً، لا بمعنى أنه لو أتى به لعوقب أو عوتب انتهى.
ولما خيرهن واخترن الله ورسوله هددهن الله للتوقي عما يسوء النبي ﷺ وأوعدهن بتضعيف العذاب بقوله:
﴿يا نساء النبي﴾ أي: المختارات له لما بينه وبين الله تعالى مما يظهر شرفه ﴿من يأت منكن بفاحشة﴾ أي: سيئة من قول أو فعل كالنشوز وسوء الخلق واختيار الحياة الدنيا وزينتها على الله تعالى ورسوله ﷺ وغير ذلك، وقال ابن عباس: المراد هنا بالفاحشة: النشوز وسوء الخلق وقيل: هو كقوله تعالى: ﴿لئن أشركت ليحبطن عملك﴾ (الزمر: ٦٠)
وقرأ ابن كثير وشعبة ﴿مبينة﴾ بفتح الياء التحتية أي: ظاهر فحشها، والباقون بكسرها أي: واضحة ظاهرة في نفسها ﴿يضاعف لها العذاب﴾ أي: بسبب ذلك ﴿ضعفين﴾ أي: ضعفي عذاب غيرهن أي: مثيله وإنما ضوعف عذابهن لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهن وأقبح لأن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل والمرتبة، ولذلك كان ذم العقلاء للعاصي العالم
الذي إجلاله من إجلاله ﴿ومن يشاق الله﴾ أي: يوقع في الباطن مشاقة الملك الأعلى الذي لا كفؤ له في الماضي والحال والاستقبال ﴿فإن الله﴾ أي: المحيط بجميع العظمة ﴿شديد العقاب﴾ وذلك كما فعل بأهل خيبر.
وقوله تعالى:
﴿ما﴾ شرطية في موضع نصب بقوله تعالى: ﴿قطعتم﴾ وقوله تعالى: ﴿من لينة﴾ بيان له. واختلف في معنى قوله تعالى: ﴿من لينة﴾ فأكثر المفسرين على أنها هي النخلة مطلقاً، كأنهم اشتقوها من اللين. قال ذو الرمة:

*كان قتودي فوقها عش طائر على لينة سوقاء تهفو جنوبها*
وقال الزهري: هي النخلة ما لم تكن عجوة ولا برنية، وقال جعفر بن محمد: هي العجوة خاصة، وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع نوح عليه الصلاة والسلام في السفينة، والعتيق: الفحل وكانت العجوة أصل الإناث كلها فلذلك شق على اليهود قطعها حكاه الماوردي. وقال سفيان: هي ضرب من النخل يقال لثمرها اللون، وهو شديد الصفرة يرى نواه من خارجه، ويغيب فيه الضرس النخلة منها أحب إليهم من وصيف.
وقيل: هي النخلة الكريمة، أي: القريبة من الأرض. وقيل: هي الفسيلة، أي: بالفاء وهي صغار النخل لأنها ألين من النخلة. وقيل: هي الأشجار كلها للينها بالحياة. وقال الأصمعي: هي الدقل. قال ابن العربي: والصحيح ما قاله الأزهري ومالك، وجمع اللينة لين؛ لأنه من باب اسم الجنس كتمرة وتمر، وقد تكسر على ليان وهو شاذ لأن تكسر ما يفرق بتاء التأنيث شاذ كرطبة ورطب وأرطاب والضمير في قوله تعالى: ﴿أوتركتموها قائمة﴾ عائد على معنى ما.
ولما كان الترك يصدق ببقائها مغروسة أو مقطوعة قال تعالى: ﴿على أصولها فبأذن الله﴾ أي: فقطعها بتمكين الملك الأعظم، روي أنّ رسول الله ﷺ لما نزل ببني النضير وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها، فجزع أعداء الله تعالى عند ذلك وقالوا: يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح عقر الشجر وقطع النخل، وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض، فوجد المسلمون في أنفسهم من قولهم وخشوا أن يكون ذلك فساداً، واختلفوا في ذلك فقال بعضهم لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا، وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعه فأنزل الله تعالى هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الأثم، وإن ذلك كان بإذن الله وعن ابن عمر قال: «حرق رسول الله ﷺ نخل بني النضير وقطع» واللام في قوله تعالى: ﴿وليخزي الفاسقين﴾ متعلقة بمحذوف، أي: وأذن في قطعها ليخزي اليهود في اعتراضهم بأن قطع الشجر المثمر فساد، وليسر المؤمنين ويعزهم، وليخزي الفاسقين.
فإن قيل: لم خصت اللينة بالقطع؟ أجيب: بأنه إن كانت من الألوان فليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية، وإن كانت من كرام النخل فليكون غيظ اليهود أشدّ.
واحتجوا بهذه الآية على أنّ حصون الكفرة وديارهم يجوز هدمها وتحريقها وتغريقها، وأن ترمى بالمناجيق، وكذا أشجارهم. وعن ابن مسعود: أنهم قطعوا منها ما كان موضعاً للقتال، وروي: أنّ رجلين كانا يقطعان أحدهما العجوة والآخر اللون فسألهما رسول الله ﷺ فقال: هذا تركتها لرسول الله صلى


الصفحة التالية
Icon