على سركم لا يتمالكون أنفسهم لفرط بغضهم، وعن قتادة: قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لإطلاع بعضهم بعضاً على ذلك ﴿وما تخفي صدورهم﴾ من العداوة والغيظ ﴿أكبر﴾ أي: أعظم مما بدا؛ لأنّ بدوّه ليس عن روية واختيار ﴿قد بينا لكم الآيات﴾ الدالة على وجوب الإخلاص في الدين وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين ﴿إن كنتم تعقلون﴾ ما بين لكم فلا توالوهم.
فإن قيل: كيف موقع هذه الجمل وهي لا يألونكم وودّوا ما عنتم وقد بدت البغضاء وقد بينا لكم الآيات أجيب: بأنها مستأنفات على وجه التعليل بمعنى إنّ كلا علة للنهي عن اتخاذهم بطانة.
﴿ها أنتم أولاء﴾ ها تنبيه وأنتم كناية للمخاطبين وأولاء اسم للمشار إليهم وهم المؤمنون وقوله تعالى: ﴿تحبونهم﴾ أي: هؤلاء اليهود الذين نهيتكم عن مباطنتهم للأسباب التي منكم من القرابة والرضاع والمصاهرة ﴿ولا يحبونكم﴾ لمخالفتهم لكم في الدين بيان لخطئهم في موالاتهم حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء ﴿وتؤمنون بالكتاب كله﴾ أي: بالكتب كلها وهم لا يؤمنون بكتابكم، وفي هذا توبيخ شديد للمؤمنين بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم ونحو هذا قوله تعالى: ﴿فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون﴾ (النساء، ١٠٤).
﴿وإذا لقوكم قالوا آمنا﴾ أي: نفاقاً وتغريراً ﴿وإذا خلوا﴾ أي: خلا بعضهم ببعض ﴿عضوا عليكم الأنامل﴾ أي: أطراف الأصابع ﴿من الغيظ﴾ أي: شدّة الغضب لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم ويعبر عن شدّة الغضب بَعض الأنامل مجازاً، وإن لم يكن ثم عض فيوصف المغتاظ والنادم بَعض الأنامل والبنان والإبهام. قال الحارث بن ظالم المري:

*فأقتل أقواماً لئاماً أذلة يعضون من غيظ رؤوس الأباهم*
﴿قل موتوا بغيظكم﴾ أي: ابقوا إلى الممات بغيظكم فلن تروا ما يسركم وقوله تعالى: ﴿إنّ الله عليم بذات الصدور﴾ أي: بما في القلوب ومنه ما يضمره هؤلاء يحتمل أن يكون من المقول أي: وقل لهم: إنّ الله عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل غيظاً وأن يكون خارجاً عنه بمعنى قل لهم ذلك ولا تتعجب من إطلاعي إياك على أسرارهم فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم.
﴿إن تمسسكم﴾ أي: تصبكم أيها المؤمنون ﴿حسنة﴾ أي: نعمة كنصر وغنيمة وخصب في معاشكم وتتابع الناس في دينكم ﴿تسؤهم﴾ أي: تحزنهم ﴿وإن تصبكم سيئة﴾ أي: إساءة كهزيمة وجدب واختلاف يكون بينكم ﴿يفرحوا بها﴾ وجملة الشرط متصلة بالشرط، قيل: وما بينهما اعتراض والمعنى إنهم متناهون في عداوتكم فلم توالونهم فاجتنبوهم.
فإن قيل: كيف وصفت الحسنة بالمس والسيئة بالإصابة؟ أجيب: بأنّ المس مستعار بمعنى الإصابة فكان المعنى واحد ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك﴾ (النساء، ٧٩) ﴿وإن تصبروا﴾ على أذاهم ﴿وتتقوا﴾ الله في موالاتهم وغيرها ﴿لا يضركم كيدهم شيئاً﴾ بفضل الله وحفظه الموعود للصابرين والمتقين وهذا تعظيم من الله تعالى وإرشاداً إلى أنه يستعان على كيد العدوّ بالصبر والتقوى، وقد قال الحكماء: إذا أردت أن تكيد من يحسدك فازدد فضلاً في نفسك، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بكسر الضاد وسكون الراء من ضاره يضيره، والباقون بضم الضاد وضم الراء مشدّدة للإتباع
انتفع ومن لم يسمع بقلبه فكأنه أصم لم يسمع فلم ينتفع بالآيات ومن الدلائل المذكورة في هذه الآية الاستدلال بعجائب أحوال الحيوانات وهو قوله:
﴿وإنّ لكم في الأنعام لعبرة﴾ أي: اعتباراً إذا تفكرتم فيها وعرفتم كمال قدرتنا وقوله تعالى: ﴿نسقيكم مما في بطونه﴾ استئناف بيان للعبرة وإنما ذكر لفظ الضمير لأنه لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة الجمع كالرهط والقوم ولا من اللبس والدلالة على قوّة المعنى لكونها سورة النعم وأنثه في سورة المؤمنون للمعنى فإنّ الأنعام اسم جمع ولذلك عدّه سيبويه في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال كقولهم: ثوب أكياش بياء تحتية وشين معجمة ضرب من الثياب يغزل مرتين ومن قال إنه جمع نعم جعل الضمير للبعض فإنّ اللبن لبعضها دون جميعها. وقرأ نافع وابن عامر وشعبة بفتح النون تقول: سقيته حتى روي. قال تعالى: ﴿وسقاهم ربهم شراباً طهوراً﴾ (الإنسان، ٢١)
. والباقون بضمها من قولك: اسقاه إذا جعل له شراباً كقوله تعالى: ﴿وأسقيناكم ماءً فراتاً﴾ (المرسلات، ٢٧)
. ولما كان في موضع العبرة تخليص اللبن من غيره قدم قوله تعالى: ﴿من بين فرث﴾ وهو الثفل الذي نزل إلى الكرش فإذا خرج منه لم يسم فرثاً. ﴿ودمٍ لبناً خالصاً﴾ أي: صافياً خلقه الله وسطاً بين الفرث والدم يكتنفانه وبينه وبينهما بزرخ من قدرة الله لا يبغي عليه أحدهما بلون أو رائحة أو طعم.d
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذا أكلت البهيمة العلف واستقرّ في كرشها طبخته فكان أسفله فرثاً وأوسطه لبناً وأعلاه دماً والكبد متسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقتسمها فيجري الدم في العروق واللبن في الضرع ويبقى الفرث في الكرش فسبحان الله ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تفكر وتأمّل، وسئل شقيق عن الإخلاص فقال: تمييز العمل من العيوب كتمييز اللبن من بين فرث ودم. ﴿سائغاً للشاربين﴾ أي: سهل المرور في الحلق. وقيل: لم يغص أحد باللبن قط. تنبيه: قال أهل التحقيق: اعتبار حدوث اللبن كما يدل على وجود الصانع المختار فكذلك يدل على إمكان الحشر والنشر، وذلك لأنّ هذا العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والأرض فخالق العالم دبر تدبيراً آخر بقلب ذلك الدم لبناً ثم دبر تدبيراً آخر فأحدث من ذلك اللبن السمن والجبن فهذا الاستقرار يدلّ على أنه تعالى قادر على أن يقلب هذه الأجسام من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة فإذا كان كذلك لم يمتنع أيضاً أن يكون قادراً على أن يقلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك فهذا الاعتبار يدل من هذا الوجه على أنّ البعث والقيامة أمرممكن غير ممتنع وفي حدوث اللبن في الثدي واتصافه بالصفات التي باعتبارها يكون موافقاً لتغذية الطفل مشتملة على حكمة عجيبة يشهد صريح العقل بأنها لا تحصل إلا بتدبير الفاعل الحكيم المدبر وبيانه من وجوه: الأوّل أنه تعالى خلق في أسفل المعدة منفذاً يخرج منه ثفل الغذاء فإذا تناول الإنسان غذاء أو شراباً انطبق ذلك المنفذ انطباقاً كلياً لا يخرج منه شيء من ذلك المأكول والمشروب إلى أن يكمل انهضامه في المعدة، ويجذب ما صفي منه إلى الكبد ويبقى الثفل هناك فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ وينزل منه ذلك الثفل وهذا من العجائب التي لا يمكن حصولها إلا بتدبير الفاعل الحكيم لأنه متى كانت الحاجة إلى خروج ذلك الجسم من المعدة انفتح فحصول
أشد منه للعاصي الجاهل لأن المعصية من العالم أقبح، ولذلك جعل حد الحر ضعفي حد العبد، وعوتب الأنبياء بما لم يعاتب به غيرهم، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي بالياء التحتية وألف بعد الضاد وتخفيف العين مفتوحة، العذاب بالرفع، وابن كثير وابن عامر بالنون، ولا ألف بعد الضاد وتشديد العين مكسورة، العذاب بالنصب، وأبو عمرو بالياء وتشديد العين مفتوحة العذاب بالرفع. وقوله تعالى: ﴿وكان ذلك على الله يسيراً﴾ فيه إيذان بأن كونهن نساء للنبي ﷺ ليس بمغن عنهن شيئاً، وكيف يغني عنهن وهو سبب مضاعفة العذاب، فكان داعياً إلى تشديد الأمر عليهن غير صارف عنه.
ولما بين تعالى زيادة عقابهن أتبعه زيادة ثوابهن بقوله تعالى:
﴿ومن يقنت﴾ أي: يطع ﴿منكن لله﴾ الذي هو أهل لأن لا يلتفت إلى غيره ﴿ورسوله﴾ الذي لا ينطق عن الهوى فلا تخالفه فيما أمر به ولا تختار عيشاً غير عيشه ﴿وتعمل﴾ أي: مع ذلك بجوارحها ﴿صالحاً﴾ أي: في جميع ما أمر به سبحانه أو نهى عنه فلا تقتصر على عمل القلب ﴿نؤتها أجرها مرتين﴾ أي: مثلي ثواب غيرهن من النساء. قال مقاتل: مكان كل حسنة عشرين حسنة فمرة على الطاعة، ومرة لطلبهن رضا رسول الله ﷺ بحسن الخلق وطيب المعاشرة والقناعة.
تنبيه: قوله تعالى: ﴿نؤتها أجرها مرتين﴾ في مقابلة قوله تعالى ﴿يضاعف لها العذاب ضعفين﴾ وفيه لطيفة وهي أنه عند إيتاء الأجر ذكر المؤتي وهو الله تعالى، وعند العذاب لم يصرح بالمعذب بل قال: يضاعف، وهذا إشارة إلى كمال الرحمة والكرم، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية في يعمل، ويؤتها حملاً على لفظ من وهو الأصل، والباقون بالتاء الفوقية في يعمل على معنى من، والنون في نؤتها على أن فيه ضمير اسم الله تعالى ﴿وأعتدنا﴾ أي: هيأنا بما لنا من العظمة ﴿لها﴾ أي: بسبب قناعتها مع النبي ﷺ المريد للتخلي من الدنيا التي يبغضها الله تعالى مع ما في ذلك من توفير الحظ في الآخرة ﴿رزقاً كريماً﴾ أي: في الدنيا والآخرة زيادة على أجرها.
أما في الدنيا: فلأن ما يرزقهن منه يوفقن لصرفه على وجه يكون فيه أعظم الثواب ولا يخشى من أجله نوع عقاب. وأما في الآخرة: فلا يوصف ولا يحد ولا نكد فيه أصلاً ولا كدّ، وهذا ما جرى عليه البقاعي وهو أولى مما جرى عليه كثير من المفسرين من الاقتصار على رزق الجنة، وعلله الرازي بقوله: ووصف رزقاً بكونه كريماً مع أن الكريم لا يكون وصفاً إلا للرازق، وذلك إشارة إلى أن الرزق في الدنيا مقدر على أيدي الناس، فإن التاجر يسترزق من السوقة، والعاملون والصناع من المستعملين، والملوك من الرعية والرعية منهم، فالرزق في الدنيا لا يأتي بنفسه إنما هو مسخر للغير يكتسبه ويرسله إلى الأعيان، وأما في الآخرة فلا يكون له مرسل وممسك في الظاهر فهو الذي يأتي بنفسه فلأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم إلا الرازق، وفي الآخرة يوصف بالكريم نفس الرزق. انتهى.
ولما ذكر تعالى أن عذابهن ضعف عذاب غيرهن وأجرهن مثل أجر غيرهن صرن كالحرائر بالنسبة إلى الإماء قال تعالى:
﴿يا نساء النبي لستن كأحد﴾ قال البغوي: ولم يقل كواحدة لأن الأحد عام يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، والمعنى: لستن كجماعة واحدة ﴿من﴾ جماعات ﴿النساء﴾ إذا تقصيت جماعة النساء
الله عليه وسلم وقال: هذا قطعتها غيظاً للكفار. وقد استدل به على جواز الاجتهاد، وعلى جوازه بحضور النبي ﷺ لأنهما بالاجتهاد فعلا ذلك، واحتج به من يقول: كل مجتهد مصيب. وقال الكيا الطبري: وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبيّ ﷺ بين أظهرهم، ولا شك أنّ رسول الله ﷺ رأى ذلك وسكت، فتلقوا الحكم من تقريره فقط. قال ابن العربي: وهذا باطل لأنّ رسول الله ﷺ كان معهم، ولا اجتهاد مع حضوره ﷺ وإنما يدل على اجتهاد النبيّ ﷺ فيما لم ينزل عليه أخذاً بعموم الأدلة للكفار ودخولاً للأذن في الكل بما يقضي عليهم بالبوار، وذلك قوله تعالى: ﴿وليخزي الفاسقين﴾
﴿وما أفاء الله﴾ أي: ردّ الملك الذي له الأمر كله ردّاً سهلاً بعد أن كان في غاية العسر والصعوبة ﴿على رسوله﴾ فصيره في يده بعد أن كان خروجه عنها بوضع أيدي الكفرة عليه ظلماً وعدواناً، كما دل عليه التعبير بالفيء الذي هو عود الظلّ إلى الناحية التي كان ابتدأ منها ﴿منهم﴾ أي: ردّاً مبتدأ من الفاسقين فبين تعالى أن هذا فيء لا غنيمة، ويدخل في الفيء أموال من مات منهم بلا وارث، وكذا الفاضل عن وارث له غير حائز، وكذا الجزية وعشر تجارتهم، وما جلوا أي: تفرقوا عنه ولو لغير خوف كضرّ أصابهم.
وأمّا الغنيمة فهي ما حصل لنا من الحربيين مما هو لهم بايجاف حتى ما حصل بسرقة أو التقاط، وكذا ما انهزموا عنه عند التقاء الصفين ولو قبل شهر السلاح، أو أهداه الكافر لنا والحرب قائمة. ولم تحل الغنائم لأحد قبل الإسلام بل كانت الأنبياء إذا غنموا مالاً جمعوه فتأتي نار من السماء فتأخذه، ثم أحلت لنبينا ﷺ وكانت في صدر الإسلام له خاصة، لأنه كالمقاتلين كلهم نصرة وشجاعة بل أعظم، ثم نسخ ذلك واستقرّ الأمر على ما هو في سورة الأنفال في قوله تعالى: ﴿واعلموا إنما غنمتم من شيء﴾ (الأنفال: ٤١)
الآية وأما الفيء فهو مذكور هنا بقوله تعالى: ﴿فما أوجفتم﴾ أي: أسرعتم يا مسلمين ﴿عليه﴾ ومن في قوله تعالى: ﴿من خيل﴾ مزيدة، أي: خيلاً، وأكد بإعادة النافي دفعاً لظن من ظنّ أنه غنيمة لأحاطتهم به بقوله تعالى: ﴿ولا ركاب﴾ والركاب الإبل غلب ذلك عليها من بين المركوبات، واحدها راكبة ولا واحد لها من لفظها.
وقال الرازي: العرب لا يطلقون لفظ الراكب إلا على راكب البعير، ويسمون راكب الفرس فارساً، والمعنى: لم تقطعوا إليها شقة ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة، فإنها كانت من المدينة على ميلين، قاله الفرّاء فمشوا إليها مشياً، ولم يركبوا إليها خيلاً ولا إبلاً إلا النبي ﷺ ركب جملاً، وقيل: حماراً مخطوماً بليف فافتتحها صلحاً.
قال الرازي: إنّ الصحابة طلبوا من النبيّ ﷺ أن يقسم الفيء بينهم كما قسم الغنيمة بينهم، فذكر الله تعالى الفرق بين الأمرين، وأنّ الغنيمة هي التي تعبتم أنفسكم في تحصيلها، وأمّا الفيء فلم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكان الأمر مفوّضاً فيه إلى النبيّ ﷺ يضعه حيث يشاء
﴿ولكن الله﴾ أي: الذي له العز كله فلا كفؤ له ﴿يسلط رسله﴾ أي: له هذه السنة في كل زمن ﴿على من يشاء﴾ يجعل ما آتاهم سبحانه من الهيبة رعباً في قلوب أعدائه ﴿والله﴾ أي: الملك الذي له الكمال كله ﴿على كل شيء﴾ يصح أن تتعلق المشيئة به، وهو كل ممكن من التسليط وغيره ﴿قدير﴾


الصفحة التالية
Icon