كضمة مدّ وهي ضمة الأمر المضاعف وكل مجزوم من المضاعف المضموم العين، فإنه يجوز ضمه للإتباع كما يجوز فتحه للخفة وكسر لأجل تحريك الساكن ﴿إن الله بما تعملون محيط﴾ أي: عالم فيجازيكم به.
﴿و﴾ اذكر يا محمد ﴿إذ غدوت من أهلك﴾ أي: من حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها ﴿تبوّىء﴾ أي: تنزل ﴿المؤمنين مقاعد﴾ أي: مراكز يقفون فيها ﴿للقتال وا سميع﴾ لأقوالكم ﴿عليم﴾ بأحوالكم.
روي «أنّ المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فاستشار رسول الله ﷺ أصحابه ودعا عبد الله بن أبيّ ابن سلول ولم يدعه قط قبلها واستشاره، فقال عبد الله وأكثر الأنصار: يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدوّ قط إلا أصاب منا، ولا دخل علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس ـ أي: بكسر الباء وهو مكان لا ماء فيه ولا طعام ـ وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين فأعجب رسول الله ﷺ هذا الرأي وقال بعض أصحابه: اخرج بنا إلى هؤلاء الأكلب لا يرون أنا قد جبنا عنهم وضعفنا.
وقال رسول الله ﷺ «إني رأيت في منامي بقراً مذبحة حولي فأوّلتها خيراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأولته هزيمة، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم» فقال رجال من المسلمين قد فاتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد: اخرج بنا إلى أعدائنا فلم يزالوا به حتى دخل، فلبس لأمته أي: درعه فلما رأوه قد لبس لأمته ندموا وقالوا: بئس ما صنعنا نشير على رسول الله ﷺ والوحي يأتيه وقالوا: اصنع يا رسول الله ما رأيت فقال: «لا ينبغي لنبيّ أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل فخرج يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوّال سنة ثلاث من الهجرة ونزل في عدوة الوادي ـ أي: بالعين المهملة وهي جانبه ـ وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وسوى صفوفهم وأجلس خمسين من الرماة وأمّر عليهم عبد الله بن جبير بسفح الجبل وقال: انضحوا علينا بالنبل لا يأتون من ورائنا ولا تبرحوا غلبنا أو نصرنا».
﴿إذ﴾ بدل من إذ قبله ﴿همت طائفتان منكم﴾ بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وهما جناحا العسكر ﴿أن تفشلا﴾ أي: تجبنا عن القتال وترجعا.
روي «أنه ﷺ خرج في زهاء ألف رجل ووعدهم النصر إن صبروا وكان المشركون ثلاثة آلاف فلما بلغوا عند جبل أحد بالمدينة انعزل ابن أبيّ المنافق في ثلاثمائة وقال: علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري وقال: أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم فقال ابن أبيّ: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم فهمّ الحيان باتباعه فثبتهم الله ومضوا مع رسول الله ﷺ قال الزمخشريّ: إنها ما كانت إلا همة وحديث نفس وكما لا تخلو النفس عند الشدّة من بعض الهلع ثم يردّها صاحبها إلى الثبات والصبر ويوطنها على احتمال المكروه كما قال عمرو بن الإطنابة:
*أقول لها إذا جشأت وجاشت | مكانك تحمدي أو تستريحي* |
الانطباق تارة
والانفتاح تارة أخرى بحسب الحاجة وبقدر المنفعة مما لا يتأتى إلا بتقدير الفاعل الحكيم. الثاني: عند تولد اللبن في الضرع يحدث الله تعالى في حلمة الثدي ثقباً صغيرة ومسامّ ضيقة وجعلها بحيث إذا اتصل المص والحلب بتلك الحلمة انفصل اللبن عنها ولما كانت تلك المسام ضيقة جدًّا كان لا يخرج منها إلا ما كان في غاية الصفاء واللطافة. وأمّا الأجزاء الكثيفة فإنه لا يمكنها الخروج من تلك المنافذ الضيقة فتبقى في الداخل فالحكمة في أحداث تلك الثقب الصغيرة والمنافذ الضيقة في رأس حلمة الثدي أنها تكون كالمصفاة فكل ما كان لطيفاً خرج وكل ما كان كثيفاً احتبس في الداخل ولم يخرج فبهذا الطريق يصيراللبن خالصاً موافقاً لبدن الطفل سائغاً للشاربين. الثالث: أنه تعالى ألهم ذلك الطفل إلى المص فإنّ الأمّ كلما ألقت حلمة الثدي في فم الطفل فذلك الطفل في الحال يأخذ في المص، ولولا أنّ الفاعل المختار الرحيم ألهم ذلك الطفل الصغير ذلك العمل المخصوص وإلا لم يحصل الانتفاع بتخليق ذلك اللبن في الثدي.
وقوله تعالى: ﴿ومن ثمرات النخيل والأعناب﴾ متعلق بمحذوف تقديره: ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب، أي: من عصيرهما وحذف لدلالة نسقيكم عليه، وقوله تعالى: ﴿تتخذون منه سكراً﴾ بيان وكشف عن كنه الإسقاء. قال الواحدي: الأعناب عطف على الثمرات لا على النخيل لأنه يصير التقدير: ومن ثمرات الأعناب والعنب نفسه ثمرة وليس له ثمرة أخرى ﴿ورزقاً حسناً﴾ كالتمر والزبيب والدبس والخل. تنبيه: في تفسير السكر وجوه: الأوّل: هو الخمر سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً نحو: رشد رشداً ورشداً. فإن قيل: الخمر محرمة فكيف ذكرها الله تعالى في معرض الأنعام؟ أجيب: عن ذلك بوجهين: أحدهما: أنّ هذه السورة مكية وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة، فكأنّ نزول هذه الآية كان في الوقت الذي كانت الخمرة فيه غير محرمة وممن قال بنسخها النخعي والشعبي. الثاني: أنّ الآية جامعة بين العتاب والمنة فالعتاب بالنسبة إلى السكر والمنة بالنسبة إلى رزقاً حسناً. الوجه الثاني: أنّ السكر هو النبيذ وهو عصير العنب والزبيب والتمر فإذا طبخ حتى يذهب ثلثاه، ثم يترك حتى يشتد فهو حلال عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إلى حد السكر، ويحتج بهذه الآية وبقوله ﷺ «الخمر حرام لعينها» وهذا يقتضي أن يكون السكر شيئاً غير الخمر وكل من أثبت هذه المغايرة قال: إنه النبيذ المطبوخ. الوجه الثالث: أنّ السكر هو الطعام قاله أبو عبيدة واحتج عليه بقول الشاعر:
* جعلت إعراض الكرام سكراً
أي تنقلب بإعراضهم بأن جعلتها نقلاً وتناولتها والنقل ما ينتقل به على الشراب. قال البغوي: وأولى الأقاويل أن قوله تعالى: ﴿تتخذون منه سكراً﴾ منسوخ انتهى. ويدل له قول الحسن: ذكر الله نعمته عليهم في الخمر قبل أن يحرّمها عليهم. وروي عن ابن عباس قال: السكر ما حرم من ثمرها، والرزق الحسن ما أحل من ثمرها. وروي عنه أيضاً السكر الحرام منه والرزق زبيبه وعنبه ومنافعه. ثم قال تعالى: ﴿إنّ في ذلك﴾ المذكور ﴿لآية﴾ أي: دلالة على قدرته تعالى: ﴿لقوم يعقلون﴾ أي: يستعملون عقولهم بالنظر والتأمّل في الآيات فيعلمون أنّ هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله تعالى فيحتج بحصولها على وجود الإله القادر
واحدة واحدة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة. ومنه قوله تعالى: ﴿والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم﴾ (النساء: ١٥٢)
يريد بين جماعة واحدة منهم تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق المبين وقوله تعالى: ﴿لا نفرق بين أحد من رسله﴾ (البقرة: ٢٨٥)
وقوله تعالى: ﴿فما منكم من أحد عنه حاجزين﴾ (الحاقة: ٤٧)
والحمل على الأفراد بأن يقال: ليست كل واحدة منكن كواحدة من آحاد النساء صحيح بل أولى ليلزم تفضيل الجماعة، بخلاف الحمل على الجمع، وعن ابن عباس معنى لستن كأحد من النساء: يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم لدي.
ولما كان المعنى بل أنتن أعلى النساء ذكر شرط ذلك بقوله تعالى: ﴿إن اتقيتن﴾ الله تعالى أي: جعلتن بينكن وبين غضب الله تعالى وغضب رسوله ﷺ وقاية، ثم سبب عن هذا النهي قوله تعالى: ﴿فلا تخضعن﴾ أي: إذا تكلمتن بحضرة أجنبي ﴿بالقول﴾ أي: بأن يكون ليناً عذباً رخماً، والخضوع التطامن والتواضع واللين، ثم سبب عن الخضوع قوله تعالى: ﴿فيطمع﴾ أي: في الخيانة ﴿الذي في قلبه مرض﴾ أي: فساد وريبة من فسق ونفاق أو نحو ذلك، وعن زيد بن علي قال: المرض مرضان: مرض زنا، ومرض نفاق، وعن ابن عباس: أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى: ﴿فيطمع الذي في قلبه مرض﴾ قال: الفجور والزنا قال: وهل تعرف العرب ذلك قال: نعم أما سمعت الأعشى وهو يقول:
*حافظ للفرج راض بالتقى | ليس ممن قلبه فيه مرض* |
ولما نهاهن عن الاسترسال مع سجية النساء في رخاوة الصوت أمرهن بضده بقوله تعالى: ﴿وقلن قولاً معروفاً﴾ أي: يعرف أنه بعيد عن محلِّ الطمع من ذكر الله وما تحتجن إليه من الكلام مما يوجب الدين والإسلام بتصريح وبيان من غير خضوع.
ولما أمرهن بالقول وقدمه لعمومه أتبعه الفعل بقوله تعالى:
﴿وقرن﴾ أي: اسكن وامكثن دائماً ﴿في بيوتكن﴾ فمن كسر القاف وهم غير نافع وعاصم جعل الماضي قرر بفتح العين، ومن فتحه وهو نافع وعاصم فهو عنده قرر بكسرها وهما لغتان. قال البغوي: وقيل وهو الأصح: أنه أمر من الوقار كقوله: من الوعد عدن، ومن الوصل صلن أي: كن أهل وقار وسكون من قوله: وقر فلان يقر وقوراً إذا سكن واطمأن انتهى. ومن فتح القاف فخم الراء، ومن كسرها رقق الراء، وعن محمد بن سيرين قال: نبئت أنه قيل لسودة زوج النبي ﷺ مالك لا تحجين ولا تعتمرين كما تفعل أخواتك فقالت: قد حجبت واعتمرت، وأمرني الله أن أقر في بيتي فوالله لا أخرج من بيتي حتى أموت، قال فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى خرجت بجنازتها.
واختلف في معنى التبرج في قوله تعالى: ﴿ولا تبرجن﴾ فقال مجاهد وقتادة: هو التكسر والتغنج، وقال ابن جريج: هو التبختر وقيل: هو إبراز الزينة وإبراز المحاسن للرجال، وقرأ البزي بتشديد التاء في الوصل والباقون بالتخفيف، واختلف أيضاً
أي: بالغ القدرة إلى أقصى الغايات فلا حق لكم فيه، ويختص به النبيّ ﷺ ومن ذكر معه في الآية الثانية من الأصناف الأربعة، على ما كان عليه القسمة من أنّ لكل منهم خمس الخمس وله ﷺ الباقي يفعل فيه ما يشاء
ثم بين تعالى مصرف الفيء بقوله تعالى: ﴿ما أفاء الله﴾ أي: الذي اختص بالعزة والقدرة والحكمة ﴿على رسوله من أهل القرى﴾ أي: قرية بني النضير وغيرها من وادي القرى والصفراء وينبع، وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عربية، فيخمس ذلك خمسة أخماس وإن لم يكن في الآية تخميس، فإنه مذكور في آية الغنيمة فحمل المطلق على المقيد، وكان ﷺ يقسم له أربعة أخماسه وخمس خمسة، ولكل من الأربعة المذكورين معه خمس خمس وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بين اللفظين، والباقون بالفتح فقوله تعالى: ﴿فلله﴾ أي: الملك الأعلى الذي كله بيده ذلك للتبرّك، فإنّ كل أمر لا يبدأ فيه به فهو أجذم ﴿وللرسول﴾ أي: الذي عظمته من عظمته تعالى، وقد تقدم ما كان له ﷺ وأمّا بعده ﷺ فيصرف ما كان له من خمس الخمس لمصالح المسلمين، وسد ثغور، وقضاة، وعلماء بعلوم تتعلق بمصالح المسلمين كتفسير وقراءة، والمراد بالقضاة غير قضاة العسكر أمّا قضاته وهم الذين يحكمون لأهل الفيء في مغزاهم فيرزقون من الأخماس الأربعة لا من خمس الخمس، يقدّم وجوباً الأهمّ فالأهمّ. وأمّا الأربعة المذكورة معه ﷺ فأولها المذكور في قوله تعالى: ﴿ولذي القربى﴾ أي: منه، وهم مؤمنو بني هاشم وبني المطلب لاقتصاره ﷺ في القسم عليهم مع سؤال غيرهم من بني عميهم نوفل وعبد شمس له، ولقوله ﷺ «أما بنو هاشم وبنو المطلب فشيء واحد، وشبك بين أصابعه» فيعطون ولو أغنياء لأنه ﷺ أعطى العباس وكان غنياً، ويفضل الذكر على الأنثى كالإرث فله سهمان ولها سهم، لأنه عطية من الله تعالى يستحق بقرابة الأب كالإرث سواء الكبير والصغير، والعبرة بالانتساب إلى الآباء فلا يعطى أولاد البنات من بني هاشم والمطلب شيئاً لأنه ﷺ لم يعط الزبير وعثمان مع أن أم كل منهما كانت هاشمية.
وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، وأبو عمرو بين بين، والباقون بالفتح، وخالفهم أبو عمرو في واليتامى. ثانيها: المذكور في قوله تعالى: ﴿واليتامى﴾ أي: الفقراء منا لأن لفظ اليتيم يشعر بالحاجة لأنه مال أو نحوه أخذ من الكفار فاختص كسهم المصالح، واليتيم صغير ولو أنثى لخبر «لا يتم بعد احتلام» رواه أبو داود وحسنه النووي وإن ضعفه غيره لا أب له، وإن كان له أمّ. وحد اليتيم في البهائم من فقد أمّه، وفي الطير من فقد أباه وأمّه، ومن فقد أمّه فقط من الآدميين يقال له: منقطع. ثالثها: المذكور في قوله تعالى: ﴿والمساكين﴾ الصادقين بالفقراء، وهم أهل الحاجة منا وتقدّم تعريفهما في سورة الأنفال، وكذا تعريف الرابع المذكور في قوله تعالى: ﴿ابن السبيل﴾ أي: الطريق الفقير منا ذكوراً كانوا أو إناثاً، ولو اجتمع في واحد من هذا الأصناف يتم ومسكنة أعطي باليتم فقط، لأنه وصف لازم والمسكنة زائلة، وللإمام التسوية والتفضيل بحسب الحاجة ويعم الإمام ولو بنائبه الأصناف الأربعة الأخيرة بالأعطاء وجوباً لعموم الآية فلا يخص