غيره فينصرهم كما نصرهم ببدر، ونزل لما هزموا من أحد تذكرة لهم بنعمة الله تعالى.
﴿ولقد نصركم الله ببدر﴾ وهو ماء بين مكة والمدينة كان لرجل يسمى بدراً فسمي به وقوله تعالى: ﴿وأنتم أذلة﴾ أي: بقلة العدد والسلاح والمال حال من الضمير.
فإن قيل: قال الله تعالى: ﴿وأنتم أذلة﴾ وقد قال تعالى: ﴿والعزة ولرسوله وللمؤمنين﴾ أجيب: بأنه بمعنى القلة وضعف الحال وقلة السلاح والمال كما مرّ فإن نقيض ذلك العز وهو القوّة والغلبة.
روي أنّ المسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ولم يكن فيهم إلا فرس واحد وأكثرهم كانوا رجالة وربما كان الجمع منهم يركبون جملاً واحداً والكفار كانوا قريباً من ألف مقاتل ومعهم مائة فرس مع الأسلحة الكثيرة والعدّة الكاملة ﴿فاتقوا الله﴾ في الثبات وعدم المخالفة ﴿لعلكم تشكرون﴾ أي: بتقواكم نعمه التي أنعم بها عليكم من نصرته وقوله تعالى:
﴿إذ تقول للمؤمنين﴾ أي: توعدهم تطميناً ظرف لنصركم وقوله تعالى: ﴿ألن يكفيكم أن يمدّكم﴾ أي: يعينكم ﴿ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين﴾ إنكار أن لا يكفيهم ذلك وإنما جيء بلن إشعاراً بأنهم كانوا كالآيسين من النصر لضعفهم وقلتهم وقوّة العدوّ وكثرتهم. وقرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد الزاي، والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي وقوله تعالى:
﴿بلى﴾ إيجاب لما بعد لن أي: بلى يكفيكم.
فإن قيل: قد قال تعالى في سورة الأنفال: ﴿إني ممدّكم بألف من الملائكة مردفين﴾ فكيف قال هنا بثلاثة آلاف؟ أجيب: بأنه مدهم أولاً بألف ثم صارت ثلاثة ثم صارت خمسة كما قال تعالى: ﴿إن تصبروا﴾ أي: على لقاء العدوّ ﴿وتتقوا﴾ الله في المخالفة ﴿ويأتوكم﴾ أي: المشركون ﴿من فورهم﴾ أي: من وقتهم ﴿هذا﴾ والفور العجلة والسرعة ومنه فارت القدر اشتدّ غليانها وسارع ما فيها إلى الخروج ﴿يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين﴾ أي: معلمين وقد صبروا واتقوا وأنجز الله وعده بأن قاتل معهم الملائكة على خيل يلف عليهم عمائم صفر أو بيض أرسلوها بين أكتافهم، وعن عرفة بن الزبير: كانت عمامة الزبير يوم بدر صفراء فنزلت الملائكة كذلك، وعن الضحاك معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الدواب وأذنابها، وعن مجاهد مجزوزة أذناب خيلهم. قال أكثر المفسرين: إن الملائكة لم تقاتل في غير يوم بدر.
روي أنه ﷺ قال لأصحابه: «تسوموا فإنّ الملائكة قد تسوّمت بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم» وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بكسر الواو والباقون بفتحها.
﴿وما جعله الله﴾ أي: الإمداد ﴿إلا بشرى﴾ أي: بشارة ﴿لكم﴾ أي: بالنصر ﴿ولتطمئن﴾ أي: ولتسكن ﴿قلوبكم به﴾ فلا تجزعوا من كثرة عدوّكم وقلة عددكم كما كانت السكينة لبني إسرائيل بشارة بالنصر وطمأنينة لقلوبهم ﴿وما النصر إلا من عند الله﴾ لا من العدّة والعدد وهو تنبيه على أنه لا حاجة في نصرهم إلى مدد الملائكة وإنما أمدّهم ووعدهم به بشارة لهم وربطاً على قلوبهم من حيث إن نظر العامة إلى الأسباب أكثر ﴿العزيز﴾ الذي لا يغالب ﴿الحكيم﴾ الذي ينصر ويخذل من يشاء بوسط وبغير وسط على مقتضى الحكمة والمصلحة وقوله تعالى:
﴿ليقطع﴾ متعلق بنصركم أي: ليهلك ﴿طرفاً﴾ أي: طائفة ﴿من الذين كفروا﴾ بالقتل والأسر وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من رؤساء قريش وصناديدهم
الحكيم. ولما بيّن أنّ إخراج الألبان وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب دليل قاطع وبرهان ساطع على أنّ لهذا العالم إلهاً قادراً مختاراً حكيماً. ذكر أنّ إخراج العسل الذي جعله الله تعالى شفاء للناس من دابة ضعيفة وهي النحل دليل قاطع. وبرهان ساطع على إثبات هذا المقصود بقوله تعالى:
﴿وأوحى ربك إلى النحل﴾ وحي إلهام. قال الضحاك: ألهمها ولم يرسل إليها رسولاً والمراد من الإلهام أنه تعالى قدر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها العقلاء من البشر وبيانه من وجوه: الأوّل: ما ذكر الله بقول تعالى: ﴿أن اتخذي﴾ أي: بأن اتخذي ويجوز أن تكون مفسرة لأنّ في الإيحاء معنى القول: ﴿من الجبال بيوتاً﴾ تأوين إليها وإنما سمي ما تبنيه لتتعسل فيه بيتاً تشبيهاً ببيت الإنسان، فتبني البيوت المسدسة من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض بمجرّد طبعها والعقلاء من البشر لا يمكنهم، مثل تلك البيوت إلا بآلات وأنظار دقيقة. الثاني: أنه ثبت في الهندسة أنّ تلك البيوت لو كانت مشكلة بأشكال سوى المسدّسات كأن كانت مدورة أو مثلثة أو مربعة أو غير ذلك من الأشكال فإنه تبقى بالضرورة فيما بين تلك البيوت فرج خالية ضائعة فاهتداء هذا الحيوان الضعيف إلى هذه الحكمة الخفية والدقيقة اللطيفة من الأعاجيب. الثالث: أنّ النحل يحصل بينها واحد كالرئيس للبقية وذلك الواحد يكون أعظم جثة من الباقي ويكون نافذ الحكم على تلك البقية وهم يخدمونه ويحملونه عند تعبه وذلك أيضاً من الأعاجيب.
الرابع: أنها إذا انفردت عن وكرها ذهبت مع الجمعية إلى موضع آخر فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ضربوا الطبول وآلات الموسيقى فبواسطة تلك الألحان يقدرون على ردها إلى أوكارها، وهذه أيضاً حالة عجيبة فلما امتاز هذا الحيوان بهذه الخواص العجيبة الدالة على مزيد الذكاء والكياسة كان ليس إلا على سبيل الإلهام وهو حالة شبيهة بالوحي، والوحي قد ورد في حق الأنبياء كقوله تعالى: ﴿وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب﴾ (الشورى ٥١)
وفي حق الأولياء قال تعالى: ﴿وإذ أوحيت إلى الحواريين﴾ (المائدة، ١١١)
وبمعنى الإلهام في حق البشر قال تعالى: ﴿وأوحينا إلى أمّ موسى﴾. (القصص، ٧)
وفي حق سائر الحيوانات خاص. قال الزجاج: يجوز أن يقال سمي هذا الحيوان نحلاً لأنّ الله تعالى نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها. وقال غيره: النحل يذكر ويؤنث وهي مؤنثة في لغة الحجاز، ولذلك أنثها الله تعالى وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء. ﴿و﴾ اتخذي ﴿من الشجر﴾ أي: الصالحة بيوتاً ﴿و﴾ اتخذي ﴿مما يعرشون﴾ أي: الناس فيبنون تلك الأماكن وذلك أنّ النحل منه وحشي وهو الذي يسكن الجبال والشجر والكهوف، ومنه أهليّ وهو الذي يأوي إلى البيوت وتربيه الناس عندهم وقد جرت العادة أنّ الناس يبنون للنحل الأماكن حتى يأوي إليها وذكر ذلك بحرف التبعيض لأنها لا تبنى في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش من الكرم أو سقف ولا في كل مكان منها. وقرأ ابن عامر وشعبة بضم الراء والباقون بكسرها.
تنبيه: ظاهر قوله تعالى: ﴿اتخذي﴾ أمر، وقد اختلفوا فيه فمن الناس من يقول: لا بُعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول ولا بدع أن يتوجه عليها من الله أمر ونهي. وقال آخرون: بل المراد منه أنه تعالى خلق فيها
في معنى قوله تعالى: ﴿تبرج الجاهلية الأولى﴾ فقال الشعبي: هي ما بين عيسى ومحمد ﷺ وقال أبو العالية: هي زمن داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام، كانت المرأة تتخذ قميصاً من الدر غير مخيط الجانبين فيرى خلقها منه، وقال الكبي: كان ذلك في زمن نمروذ الجبار، كانت المرأة تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه وتمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره، وتعرض نفسها على الرجال.
وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: الجاهلية الأولى فيما بين نوح وإدريس عليهما السلام، وكانت ألف سنة، وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل، والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبل صباحاً، وفي النساء دمامة وكان نساء السهل صباحاً، وفي الرجال دمامة، وإن إبليس أتى رجالاً من أهل السهل وأجر نفسه منهم فكان يخدمهم، واتخذ شيئاً مثل الذي يزمر به الرعاء، فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله، فبلغ ذلك من حوله فأتوه وهم يستمعون إليه، واتخذوا عيداً يجتمعون إليه في السنة فيتبرج النساء للرجال ويتزين الرجال لهن، وأن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم ذلك فرأى النساء وصباحتهنّ فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فنحوا إليهم فنزلوا معهم وظهرت الفاحشة بينهم فذلك قوله تعالى ﴿ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى﴾.k
وقال قتادة: ما قبل الإسلام وقيل: الجاهلية الأولى ما ذكرنا، والجاهلية الأخرى قوم يفعلون مثل فعلهم في آخر الزمان وقيل: الجاهلية الأولى ما كانوا عليه قبل الإسلام، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق في الإسلام، ويعضده قوله ﷺ لأبي ذر كما في الصحيحين: «إن فيك جاهلية كفر وإسلام» وقول البيضاوي عن أبي الدرداء، قال ابن حجر: لم أجده عن أبي الدرداء وقيل: قد تذكر الأولى وإن لم تكن لها أخرى كقوله تعالى ﴿وإنه أهلك عاداً الأولى﴾ (النجم: ٥٠)
ولم تكن لها أخرى.
ولما أمرهن بلزوم البيوت للتخلية عن الشوائب أرشدهن إلى التحلية بالرغائب بقوله تعالى:
﴿وأقمن الصلاة﴾ أي: فرضاً ونفلاً صلة لما بينكن وبين الخالق ﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾ (العنكبوت: ٤٥)
﴿وآتين الزكاة﴾ إحساناً إلى الخلائق وفي هذا بشارة بالفتوح وتوسيع الدنيا عليهن، فإن العيش وقت نزولها كان ضيقاً عن القوت فضلاً عن الزكاة.
ولما أمرهن بخصوص ما تقدم لأنهما أصل الطاعات البدنية والمالية، ومن اعتنى بهما حق الاعتناء جرتاه إلى ما وراءهما تمم وجمع في قوله تعالى: ﴿وأطعن الله﴾ أي: الذي له صفات الكمال ﴿ورسوله﴾ أي: الذي لا ينطق عن الهوى فيما أمرا به ونهيا عنه ﴿إنما يريد الله﴾ أي: الذي هو ذو الجلال والإكرام بما أمركن به ونهاكن عنه من الإعراض عن الزينة وما يتبعها والإقبال عليه ﴿ليذهب﴾ أي: لأجل أن يذهب ﴿عنكم الرجس﴾ أي: الإثم الذي نهى الله تعالى عنه النساء قاله مقاتل، وقال ابن عباس: يعني عمل الشيطان وما ليس فيه رضا الرحمن. وقال قتادة: يعني السوء وقال مجاهد: الرجس الشك وقوله تعالى: ﴿أهل البيت﴾ في ناصبه أوجه: أحدها: النداء أي: يا أهل البيت، أو المدح أي: أمدح أهل البيت، أو الاختصاص أي: أخص أهل البيت كما قال ﷺ «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» والاختصاص في المخاطب أقل منه في المتكلم، وسمع: منك الله نرجو الفضل والأكثر إنما هو في المتكلم كقولها:
الحاضر بموضع حصول الفيء، ولا من في كل ناحية منهم بالحاصل فيها نعم لو كان الحاصل لا يسد مسدّاً بالتعميم قدم الأحوج فالأحوج، ولا يعمّ للضرورة.
ومن فقد من الأربعة صرف نصيبه للباقين منهم، وأمّا الأخماس الأربعة فهي للمرتزقة، وهم المرصدون للجهاد بتعيين الإمام لهم بعمل الأولين به بخلاف المتطوّعة فلا يعطون من الفيء بل من الزكاة عكس المرتزقة، ويشرك المرتزقة قضاتهم كما مرّ وأئمتهم ومؤذنوهم وعمالهم، ويجب على الإمام أن يعطي كل من المرتزقة بقدر حاجة ممونه من نفسه، وغيرها كزوجاته ليتفرّغ للجهاد ويراعي في الحاجة الزمان والمكان والرخص والغلاء، وعادة الشخص مروأة وضدّها ويزادان زادت حاجته بزيادة ولد، أو حدوث زوجة فأكثر ومن لا عبد له يعطى من العبيد ما يحتاجه للقتال معه، أو لخدمته إن كان ممن يخدم، ويعطي مؤنته.
ومن يقاتل فارساً ولا فرس له يعطي من الخيل ما يحتاجه للقتال، ويعطى مؤنته بخلاف الزوجات يعطى لهنّ مطلقاً لانحصارهن في أربع، ثم ما يدفعه إليه لزوجته وولده الملك فيه لهما حاصل من الفيء.
وقيل: يملكه هو ويصير إليهما من جهته، فإن مات أعطى الإمام أصوله وزوجاته وبناته إلى أن يستغنوا، ويسنّ أن يضع الإمام ديواناً وهو الدفتر الذي يثبت فيه أسماء المرتزقة وأوّل من وضعه عمر رضي الله عنه وأن ينصب لكل جمع عريفاً، وأن يقدّه في اسم وإعطاء قريشاً لشرفهم بالنبيّ ﷺ ولخبر قدّموا قريشاً، وأن يقدم منهم بني هاشم وبني المطلب فبني عبد شمس فبني عبد العزى فسائر بطون العرب الأقرب فالأقرب إلى النبيّ ﷺ فسائر العرب فالعجم، ولا يثبت في الديوان من لا يصلح، ومن مرض فكصحيح وإن لم يرج برؤه، ويمحى اسم كل من لم يرج، وما فضل عنهم وزع عليهم بقدر مؤنتهم وللإمام صرف بعضه في ثغور وسلاح وخيل ونحوها، وله وقف عقار فيء أو بيعه وقسم غلته أو ثمنه كقسم المنقول أربعة أخماسه للمرتزقة وخمسة للمصالح، وله أيضاً: قسمه كالمنقول لكن خمس الخمس الذي للمصالح لا سبيل إلى قسمته.
ولما حكم سبحانه هذا الحكم في الفيء المخالف لما كانوا عليه في الجاهلية من اختصاص الأغنياء به بين علته المظهرة لعظمته بقوله تعالى: ﴿كي لا يكون﴾ أي: الفيء الذي يسره الله تعالى بقوّته من قذف الرعب في قلوب أعدائه، ومن حقه أن يعطاه الفقراء ﴿دولة﴾ أي: متداولاً ﴿بين الأغنياء منكم﴾ أي: يتداوله الأغنياء ويدور بينهم كما كان في الجاهلية، فإنهم كانوا يقولون: من عزيز، ومنه قول الحسن: اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً، يريد: من غلب منهم أخذه واستأثر به. وقرأ هشام بخلاف عنه تكون بالتأنيث دولة بالرفع، والباقون بالتذكير والنصب، فأمّا الرفع فعلى أن كان تامّة، وأمّا التأنيث والتذكير فواضحان؛ لأنه تأنيث مجازي، وأما النصب فعلى إنها الناقصة واسمها ضمير عائد على الفيء. والتذكير واجب لتذكير المرفوع، ودولة خبرها، وقيل: دولة عائد على ما اعتباراً بلفظها، وكي لا هنا مقطوعة في الرسم
﴿وما آتاكم الرسول﴾ أي: وكل شيء أحضره لكم الكامل في الرسالة من الغنيمة، أو مال الفيء أو غيره ﴿فخذوه﴾ أي: فاقبلوه لأنه حلال لكم، وتمسكوا به فإنه واجب الطاعة ﴿وما نهاكم عنه﴾ أي: من جميع الأشياء ﴿فانتهوا﴾ لأنه لا ينطق عن الهوى، ولا يقول


الصفحة التالية
Icon