﴿أو يكبتهم﴾ أي: لم ينالوا ما راموه وأو للتنويع لا للترديد.
ونزل لما كسرت رباعيته ﷺ وشج وجهه يوم أحد وقال: «كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم».
﴿ليس لك من الأمر شيء﴾ بل الأمر كله لله فاصبر إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم، وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله ﷺ يوم أحد: «اللهمّ العن الحارث بن هشام اللهمّ إلعن صفوان بن أمية» فنزلت هذه الآية، وقال قوم: نزلت في أهل بئر معونة وهم سبعون رجلاً من القرّاء بعثهم رسول الله ﷺ إلى بئر معونة في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد ليعلموا الناس القرآن والعلم أميرهم المنذر بن عمرو فقتلهم عامر بن الطفيل فوجد عليهم رسول الله ﷺ وجداً شديداً وقنت شهراً في الصلوات كلها يدعو على جماعة من تلك القبائل باللعن والسنين وقوله تعالى: ﴿أو يتوب عليهم أو يعذبهم﴾ عطف على قوله أو يكبتهم وليس لك من الأمر شيء اعتراض، والمعنى أن الله تعالى مالك أمرهم، فإمّا أن يهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا ﴿فإنهم ظالمون﴾ بالكفر، وقيل: إنّ أو يتوب عليهم بمعنى إلى أن يتوب عليهم.H
﴿وما في السموات وما في الأرض﴾ ملكاً وخلقاً فله الأمر كله والمقصود من هذا تأكيد ما ذكره أوّلاً من قوله: ﴿ليس لك من الأمر شيء﴾ والمعنى: إنما يكون ذلك لمن له الملك وليس هو لأحد إلا لله تعالى.
فإن قيل: ظاهر ما ذكر يدل على أنّ ذلك ورد للمنع من أمر كان ﷺ يريد أن يفعله وذلك الفعل إن كان بأمر الله تعالى فكيف يمنعه منه وإن كان بغير أمره فكيف يصح مع قوله تعالى: ﴿وما ينطق عن الهوى﴾ (النجم، ٣) أجيب: بأنّ ذلك كان من باب ترك الأفضل والأولى فلا جرم أرشده الله تعالى إلى اختيار الأولى نظيره قوله تعالى: ﴿وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين، واصبروا وما صبرك إلا با﴾ (النحل، ١٢٧) فكأنه تعالى قال أوّلاً: إن كان ولا بدّ أن تعاقب ذلك الظالم فاكتف بالمثل، ثم قال ثانياً وإن تركته كان ذلك أولى. ثم أمره أمراً جازماً بتركه فقال: واصبر وما صبرك إلا بالله ﴿يغفر لمن يشاء﴾ مغفرته ﴿ويعذب من يشاء﴾ تعذيبه. ولما كان له فعل ذلك إلا أن جانب المغفرة والرحمة غالب لا على سبيل الوجوب بل على سبيل التفضل والإحسان قال: ﴿وا غفور﴾ لأوليائه ﴿رحيم﴾ بعباده فلا تبادر بالدعاء عليهم. ولما شرح سبحانه وتعالى عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح في أمر الدين والجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير فقال:
﴿يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً﴾ وهو جمع ضعف. ولما كان جمع قلة والمقصود الكثرة أتبعه بما يدل على ذلك وهو الوصف بقوله: ﴿مضاعفة﴾ بأن تزيدوا في المال عند حلول الأجل وتؤخروا الطلب والتخصيص بحسب الواقع، إذ كان الرجل منهم يرابي إلى أجل ثم يزيد في الدين زيادة أخرى حتى يستغرق بالشيء اللطيف مال الديون وإلا فالربا حرام بلا مضاعفة بل هو من الكبائر مطلقاً، وقرأ ابن كثير وابن عامر بتشديد العين ولا ألف قبلها، والباقون بتخفيف العين وألف قبلها ﴿واتقوا الله﴾ بترك ما نهيتم عنه
غرائز وطبائع توجب هذه الأحوال، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله في سورة النمل، عند قوله تعالى: ﴿يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم﴾. (النمل، ١٨)
ولما كان أهم شيء للحيوانات بعد الراحة من همّ المقيل أكل شيء، ثنى به فقال:
﴿ثم كلي من كل الثمرات﴾ أي: من كل ثمرة يشتهيها مرّها وحلوها، وذكر ذلك بحرف التراخي إشارة إلى عجيب الصنع في ذلك وتيسيره لها. تنبيه: لفظ من هذا للتبعيض أو لابتداء الغاية. ولما أذن لها في ذلك كله، وكان من المعلوم عادة أنّ تعاطيه لا يكون إلا بمشقة عظيمة في معاناة السير إليه نبه على خرقه العادة في تيسيره لها بقوله تعالى: ﴿فاسلكي سبل ربك﴾ أي: الطرق التي ألهمك الله تعالى أن تسلكيها وتدخلي فيها لأجل طلب الثمار وقوله تعالى: ﴿ذللاً﴾ جمع ذلول حال من السبل، أي: مسخرة لك فلا تعسر عليك وإن توعرت ولا تضلي عن العود وإن بعدت. وقيل: من الضمير في اسلكي، أي: منقادة لأربابها حتى أنهم ينقلونها من مكان إلى مكان آخر حيث شاؤوا وأرادوا لا تستعصي عليهم. وقوله تعالى: ﴿يخرج من بطونها﴾ فيه عدول عن خطاب النحل إلى خطاب الناس لأنه محل الإنعام عليهم والمقصود من خلق النحل وإلهامه لأجلهم ﴿شراب﴾ أي: عسل ﴿مختلف ألوانه﴾ ما بين أبيض وأحمر وأصفر وغير ذلك من ألوان العسل وذلك على قدر ما تأكل من الثمار والأزهار ويستحيل في بطونها عسلاً بقدرة الله تعالى، ثم يخرج من أفواهها يسيل كاللعاب. وقال الرازي: إنه رأى في بعض كتب الطب أنّ العسل طل من السماء ينزل كالترنجبين فيقع على الأزهار وأوراق الشجر فتجمعه النحل فتأكل بعضه وتدّخر بعضه في بيوتها لأنفسها لتتغذى به فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير فذلك هو العسل وقال هذا القول أقرب إلى العقل لأنّ طبيعة الترنجبين تقرب من طبيعة العسل وأيضاً إنا نشاهد أنّ النحل يتغذى بالعسل وأجاب، عن قوله تعالى: ﴿يخرج من بطونها شراب﴾ إنّ كل تجويف داخل البدن يسمى بطناًفقوله: ﴿يخرج من بطونها﴾ أي: من أفواهها انتهى.
والأوّل كما قال ابن الخازن وغيره أظهر لأنا نشاهد أنّ العسل يوجد فيه طعم تلك الأزهار التي يأكلها النحل وكذا توجد لذتها وريحها وطعمها فيه أيضاً، ويعضد هذا قول بعض أزواج النبيّ ﷺ له: «أكلت مغافير؟ قال: لا، قالت: ما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل. قالت: جرست نحله العرفط». والعرفط شجر الطلع له صبغ يقال له: المغافير كريه الرائحة، فمعنى جرست نحله العرفط أكلت ورعت من العرفط الذي له الرائحة الكريهة، فثبت بهذا أنه يوجد في طعم العسل ولونه وريحه طعم ما يأكله النحل ولونه وريحه لا ما قاله الأطباء من أنه طل لأنه لو كان طلاً لكان على لون واحد وقوله: كل تجويف في داخل البدن يسمى بطناً خلاف الظاهر لأنّ لفظ البطن إذا أطلق لم يرد به إلا العضو المعروف بطن الإنسان وغيره. ﴿فيه﴾ أي: الشراب الذي يخرج من بطون النحل ﴿شفاء للناس﴾ من الأوجاع كما قال ابن عباس وابن مسعود، إمّا لبعضها كما دلّ عليه تنكير شفاء، وإمّا لكلها بضميمته إلى غيره إذ قل معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل أو بدونه بنيته وبهذا سقط ما قيل إنه يضرّ بأصحاب الصفراء ويهيج الحرارة، ويضرّ بالشباب
*نحن بنات طارق نمشي على النمارق*
وقولهم:

*نحن بني ضبة أصحاب الجمل الموت أحلى عندنا من العسل*
وقولهم:
*نحن العرب أقرى الناس للضيف*
واختلف في أهل البيت والأولى فيهم ما قال البقاعي: إنهم كل من يكون من إلزام النبي ﷺ من الرجال والنساء والأزواج والإماء والأقارب، وكلما كان الإنسان منهم أقرب وبالنبي ﷺ أخص وألزم كان بالإرادة أحق وأجدر ويؤيده قول البيضاوي، وتخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما رضي الله تعالى عنهم؛ لما روي أنه عليه الصلاة والسلام خرج ذات غدوة وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجلس فجاءت فاطمة فأدخلها فيه، ثم جاء علي فأدخله فيه، ثم جاء الحسن والحسين فأدخلهما فيه، ثم قال: ﴿إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت﴾ والاحتجاج بذلك على عصمتهم وكون إجماعهم حجة ضعيف.
وعن ابن عباس أنهم نساء النبي ﷺ لأنهن في بيته وتلا قوله تعالى: ﴿واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله﴾ (الأحزاب: ٣٤)
وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: «في بيتي أنزل ﴿إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت﴾ قالت: فأرسل رسول الله ﷺ إلى فاطمة وعلي والحسن والحسين فقال: هؤلاء أهل بيتي فقلت: يا رسول الله ما أنا من أهل البيت فقال بلى إن شاء الله» وقال زيد بن أرقم: أهل بيته من حرم الصدقة بعده آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، قال الرازي: والأولى أن يقال لهم أولاده وأزواجه والحسن والحسين، وعلي منهم لأنه كان من أهل بيته لمعاشرته بنت النبي ﷺ ولملازمته له.
ولما استعار للمعصية الرجس استعار للطاعة الطهر ترغيباً لأصحاب الطباع السليمة والعقول المستقيمة في الطاعة وتنفيراً لهم عن المعصية بقوله تعالى: ﴿ويطهركم﴾ أي: يفعل في طهركم الصيانة عن جميع القاذورات الحسية والمعنوية فعل المبالغ فيه، وزاد ذلك عظماً بالمصدر بقوله تعالى: ﴿تطهيراً﴾ وعن ابن عباس قال: شهدنا رسول الله ﷺ تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب عند وقت كل صلاة فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ﴿إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً﴾ الصلاة رحمكم الله كل يوم خمس مرات، ثم بين تعالى ما أنعم الله به عليهن من أن بيوتهن مهابط الوحي بقوله تعالى:
﴿واذكرن﴾ أي: في أنفسكن ذكراً دائماً، واذكرنه لغيركن على جهة الوعظ والتعليم ﴿ما يتلى﴾ أي: يتابع ويوالى ذكره ﴿في بيوتكن﴾ أي: بواسطة النبي ﷺ الذي خيركن. وقوله تعالى: ﴿من آيات الله﴾ أي: القرآن بيان للموصول فيتعلق بأعني، ويجوز أن يكون حالاً إما من الموصول، وإما من عائده المقدر فيتعلق بمحذوف أيضاً، واختلف في قوله تعالى: ﴿والحكمة﴾ فقال قتادة: يعني السنة، وقال مقاتل: أحكام القرآن ومواعظه ﴿إن الله﴾ أي: الذي له جميع العظمة ﴿كان﴾ أي: ولم يزل ﴿لطيفاً﴾ أي: يوصل إلى المقاصد بلطائف الأضداد ﴿خبيراً﴾ أي: بجميع خلقه يعلم ما يسرون وما يعلنون لا تخفى عليه خافية، فيعلم من يصلح لبيت النبي ﷺ ومن لا، وما يصلح الناس ديناً ودنيا، وما لا يصلحهم. والطرق الموصلة
ولا يفعل إلا ما أمر ربه عز وجل.
تنبيه: هذه الآية تدل على أنّ كل ما أمر به النبيّ ﷺ أمر من الله تعالى لأنّ الآية، وإن كانت في الغنائم فجميع أوامره ﷺ ونواهيه داخل فيها. قال عبد الرحمن بن زيد: لقي ابن مسعود رجلاً محرماً وعليه ثيابه، فقال: انزع عنك هذا، فقال الرجل: تقرأ عليّ بهذا آية من كتاب الله تعالى، قال: نعم ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ وقال عبد الله بن محمد بن هارون الفريابي: سمعت الشافعي رضى الله عنه يقول: سلوني عما شئتم أخبركم من كتاب الله تعالى، وسنة نبيكم ﷺ قال: فقلت له: أصلحك الله ما تقول في المحرم يقتل الزنبور، قال: فقال: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله ﷺ «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر» حدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن أسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب: أنه أمر بقتل الزنبور. وهذا الجواب في غاية الحسن أفتى بقتل الزنبور في الإحرام، وبين أنه يقتدى فيه بعمر، وأنّ النبيّ ﷺ أمر بالاقتداء به، وأنّ الله تعالى أمر بقبول ما يقوله ﷺ فجواز قتله من الكتاب والسنة.
وسئل عكرمة عن أمّهات الأولاد هل هنّ أحرار؟ فقال: في سورة النساء في قوله تعالى: ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم﴾ (النساء: ٥٩)
وفي صحيح مسلم وغيره عن علقمة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله تعالى» فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أم يعقوب فجاءت فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال وما لي لا ألعن من لعن رسول الله ﷺ وهو في كتاب الله تعالى فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول فقال: لئن كنت قرأتيه فقد وجدتيه أما قرأت ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى عنه الحديث.
فائدة: الوشم: هو غرز العضو من الإنسان بالإبرة، ثم يحشى بالكحل. والمستوشمة، هي التي تطلب أن يفعل بها ذلك، والنامصة: هي التي تنتف الشعر من الوجه، والمتفلجة: هي التي تتكلف تفريج ما بين ثناياها بصناعة، وقيل: تتفلج في مشيها في كل شيء منهي عنه. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح والهمزة ممدودة بلا خلاف لأنها بمعنى الإعطاء ﴿واتقوا الله﴾ أي: واجعلوا لكم بطاعة رسول الله ﷺ وقاية من عذاب الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة، وعلل ذلك بقوله تعالى: ﴿إن الله﴾ أي: الذي له الجلال والإكرام على الإطلاق ﴿شديد العقاب﴾ أي: العذاب الواقع بعد الذنب. قال البقاعي ومن زعم أن شيئاً مما في هذه السورة نسخ بشيء مما في سورة الأنفال فقد أخطأ، لأنّ الأنفال نزلت في بدر، وهي قبل هذه بمدّة.
وقوله تعالى: ﴿للفقراء﴾ أي: الذين كان الإنسان منهم يعصب الحجر على بطنه من الجوع ويتخذ الحفرة في الشتاء لتقيه البرد وماله دثار غيرها بدل من لذي القربى، وما عطف عليه


الصفحة التالية
Icon