﴿لعلكم تفلحون﴾ أي: تفوزون ثم خوّفهم فقال تعالى:
﴿واتقوا النار التي أعدّت للكافرين﴾ بالتحرّز عن متابعتهم وتعاطي أفعالهم، كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول: هذه أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتقوه باجتناب محارمه وفي الآية تنبيه على أنّ النار بالذات للكفار وبالعرض للعصاة.
﴿وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون﴾ لما ذكر الوعيد أتبعه بالوعد ترهيباً عن المخالفة وترغيباً في الطاعة على عادته تعالى المستمرّة في القرآن، قال محمد بن إسحاق بن يسار هذه الآية معاتبة للذين عصوا رسول الله ﷺ حين أمرهم بما أمرهم يوم أحد ولعلّ وعسى في أمثال ذلك دليل على عزة التوصل إلى ما جعل خيراً لهما ومن تأمّل هذه الآيات وأمثالها لم يحدّث نفسه بالأطماع الفارغة والتمني على الله تعالى.
﴿وسارعوا﴾ أي: بادروا وأقبلوا ﴿إلى مغفرة من ربكم﴾ أي: إلى ما تستحق به المغفرة كالإسلام والتوبة وأداء الفرائض والهجرة والجهاد والتكبيرة الأولى والأعمال الصالحات. وقرأ نافع وابن عامر بغير واو قبل السين والباقون بواو قبلها ﴿و﴾ إلى ﴿جنة عرضها السموات والأرض﴾ أي: عرضها كعرضهما كقوله تعالى: ﴿عرضها كعرض السماء والأرض﴾ (الحديد، ٢١) وإنما جمعت السماء وأفردت الأرض لأنها أنواع قيل: بعض فضة وبعض غير ذلك، والأرض نوع واحد وذكر العرض للمبالغة في وصف الجنة بالسعة؛ لأنّ العرض دون الطول كما دلّ عليه قوله تعالى: ﴿بطائنها من إستبرق﴾ (الرحمن، ٥٤) على أن الظهارة أعظم يقول: هذه صفة عرضها فكيف طولها؟ قال الزهري: إنما وصف عرضها فأما طولها فلا يعلمه إلا الله تعالى وهذا على سبيل التمثيل لا أنها كالسموات والأرض لا غير بل معناه كعرض السموات السبع والأرضين السبع عند ظنكم كقوله تعالى: ﴿خالدين فيها ما دامت السموات والأرض﴾ (هود، ١٠٧) أي: عند ظنكم وإلا فهما زائلتان.
وعن ابن عباس: الجنة كسبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض. وعنه أيضاً إنّ لكل واحد من المطيعين جنة بهذه السعة.
وروي أنّ ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: إذا كانت الجنة عرضها ذلك فأين تكون النار؟ فقال لهم: أرأيتم إذا جاء الليل فأين يكون النهار؟ وإذا جاء النهار فأين يكون الليل؟ فقالوا: إنه لمثلها في التوراة، ومعناه أنه حيث شاء الله. وسئل أنس بن مالك عن الجنة: أفي السماء أم في الأرض وأيّ أرض وسماء تسع الجنة؟ قيل: فأين هي؟ قال: فوق السموات السبع تحت العرش، وقال قتادة: كانوا يرون أنّ الجنة فوق السموات السبع وأنّ جهنم تحت الأرضين السبع.
فإن قيل: قال تعالى: ﴿وفي السماء رزقكم وما توعدون﴾ وأراد بالذي وعدنا الجنة فإذا كانت الجنة في السماء فكيف يكون عرضها ما ذكر؟ أجيب: بأنّ باب الجنة في السماء وعرضها كما أخبر تعالى: ﴿أعدّت﴾ هيئت ﴿للمتقين﴾ الله بعمل الطاعات وترك المعاصي وفي ذلك دليل على أنّ الجنة مخلوقة الآن وقيل: إنّ الجنة والنار يخلقان بعد قيام الساعة.
ثم وصف الله تعالى المتقين بصفات فقال:
﴿الذين ينفقون﴾ أي: في طاعة الله ﴿في السرّاء والضرّاء﴾ أي: في العسر واليسر أو الأحوال كلها؛ لأنّ الإنسان لا يخلو عن مسرة أو مضرة أي: لا يخلون عن حال مّا بإنفاق ما قدروا عليه من قليل أو كثير كما يحكى عن بعض السلف أنه ربما تصدّق ببصلة، وعن
المحرورين ويعطش. قال ابن مسعود: العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور. وفي رواية عنه: عليكم بالشفاءين القرآن والعسل. وروى نافع أنّ ابن عمر ما كانت قرحة ولا شيء إلا لطخ الموضع بالعسل. ويقرأ ﴿يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس﴾.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى النبيّ ﷺ فقال: إنّ أخي يشتكي بطنه. فقال ﷺ اسقه العسل فذهب ثم رجع فقال: قد سقيته فما نفع؟ فقال: اذهب فاسقه العسل فقد صدق الله وكذب بطن أخيك، فسقاه، فشفاه الله، فبرأ، فكأنما نشط من عقال» فقوله ﷺ «صدق الله وكذب بطن أخيك» يحتمل أنه ﷺ علم بنور الوحي الإلهي، أنّ العسل الذي أمره بشربه سيظهر نفعه بعد ذلك، فلما لم يظهر نفعه في الحال قال: صدق الله يعني فيما وعده من أنّ فيه شفاء للناس، وكذب بطن أخيك، يعني باستعجالكم للشفاء في أوّل مرّة. وقال مجاهد: الضمير في ﴿فيه شفاء للناس﴾ راجع للقرآن، لأنّ فيه شفاء من أمراض الشرك، والجهالة والضلالة. وهو هدى ورحمة للناس وعلى هذا تمت قصة تولد العسل من النحل عند قوله تعالى: ﴿يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه﴾ ثم ابتدأ وقال: ﴿فيه شفاء للناس﴾ أي: في هذا القرآن. قال الرازي: وهذا قول ضعيف، ويدل عليه وجهان: الأوّل أنّ الضمير في قوله تعالى: ﴿فيه شفاء للناس﴾ يجب عوده إلى أقرب المذكورات، وما ذاك إلا قوله تعالى: ﴿شراب مختلف ألوانه﴾. وأمّا الحكم بعود هذا الضمير إلى القرآن مع أنه غير مذكور فيما سبق فهو غير مناسب. والثاني: حديث أبي سعيد الخدري المتقدّم. ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله تعالى: ﴿إنّ في ذلك﴾ أي: المذكور ﴿لآية لقوم يتفكرون﴾ أي: في اختصاص النحل بتلك الطعوم الرقيقة واللطائف الخفية مثل بناء البيوت المسدسة وغير ذلك فيعتبرون ويستدلون بما ذكرنا على وحدانيتنا وقدرتنا وقد كثر في هذه السورة إضافة الآيات إلى المخاطبين تارة بالإفراد وتارة بالجمع، ونوّعها تارة بالعقل وتارة بالفكر وتارة بالذكر وتارة بغيرها. ثم إنه تعالى لما أيقظهم من رقدتهم ونبههم على عظيم غفلتهم ثنى ببعض ما في أنفسهم من الأدلة على ذلك فقال:
﴿والله﴾ أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿خلقكم﴾ أي: أوجدكم من العدم وأخرجكم إلى الوجود ولم تكونوا شيئاً. ﴿ثم يتوفاكم﴾ أي: عند انقضاء آجالكم على اختلاف الإنسان فلا يقدر الصغير أن يؤخر ولا الكبير على أن يقدّم فمنكم من يموت على حال قوّته. ﴿ومنكم من يرد إلى أرذل العمر﴾ أي: أخسه من الهرم والخرف. قال بعض العلماء: عمر الإنسان له أربع مراتب سنّ الطفولية والنمو وهو أوّل العمر إلى بلوغ ثلاث وثلاثين سنة وهو غاية سنّ الشباب، وبلوغ الأشدّ ثم المرتبة الثانية سنّ الوقوف وهو من ثلاثة وثلاثين سنة إلى أربعين سنة وهو غاية القوّة وكمال العقل والمرتبة الثالثة سنّ الكهولة وهو من الأربعين إلى الستين وهذه المرتبة يشرع فيها الإنسان في النقص لكنه يكون نقصاً خفياً لا يظهر، ثم المرتبة الرابعة سنّ الشيخوخة والانحطاط من الستين إلى آخر العمر خمسة وستون سنة يتبين النقص ويكون الهرم والخرف.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أرذل العمر خمسة وسبعون سنة وقيل ثمانون سنة. وقال قتادة: تسعون سنة. وعن أنس رضي الله
لكل ما قضاه وقدره وإن كانت على غير ما يألفه الناس.
من انقطع إلى الله كفاه الله تعالى كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها، ولقد صدق الله تعالى وعده في لطفه وحقق بره في خبره بأن فتح على نبيه ﷺ خبير، فأفاض بها من رزقه الواسع، ولما توفى نبيه ﷺ ليحميه من زهرة الحياة الدنيا فتح الفتوحات الكبار من بلاد فارس والروم ومصر وما بقي من اليمن، فعم الفتح جميع الأقطار، الشرق والغرب والجنوب والشمال، ومكن أصحاب نبيه ﷺ من كنوز تلك البلاد وذخائر أولئك الملوك حتى صار الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يكيلون المال كيلاً، وزاد الأمر حتى دوّن عمر رضي الله تعالى عنه الدواوين.
وفرض للناس عامة أرزاقهم حتى للرضعاء، وكان أولاً لا يفرض للمولود حتى يفطم، فكانوا يستعجلون بالفطام فنادى مناديه لا تعجلوا أولادكم بالفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وفاوت بين الناس في العطاء بحسب القرب من النبي ﷺ والبعد منه، وبحسب السابقة في الإسلام والهجرة. ونزل الناس منازلهم بحيث أرضى جميع الناس، حتى قدم عليه خالد بن عرفطة فسأله عما وراءه فقال: تركتهم يسألون الله تعالى أن يزيد في عمرك من أعمارهم، قال عمر: إنما هو حقهم، وأنا أسعى بأدائه إليهم وإني لأعم بنصيحتي كل من طوقني الله أمره، فإن رسول الله ﷺ قال: «من مات غاشاً لرعيته لم يَرَ ريح الجنة» فكان فرضه لأزواج النبي ﷺ اثني عشر ألفاً لكل واحدة، وهي نحو ألف دينار في كل سنة، وأعطى عائشة خمسة وعشرين ألفاً لحب رسول الله ﷺ إياها، فأبت أن تأخذ إلا ما تأخذه صواحباتها.
وروي عن برزة بنت رافع قالت: لما خرج العطاء أرسل عمر إلى زينب بنت جحش بالذي لها، فلما أدخل إليها قالت: غفر الله لعمر، غيري من أخواتي أقوى على قسم هذا مني قالوا: هذا كله لك قالت: سبحان الله ثم قالت: صبوه واطرحوا عليه ثوباً، ثم قالت لي: أدخلي يديك واقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فلان وبني فلان من ذوي رحمها وأيتام لها، فقسمته حتى بقيت منه بقية تحت الثوب قالت برزة بنت رافع: نظر الله لك يا أم المؤمنين والله لقد كان لنا في هذا المال حق قالت: فلكم ما تحت الثوب قالت: فوجدنا تحته خمسمائة وثمانين درهماً، ثم رفعت يديها إلى السماء وقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا فماتت، قال البقاعي: ذكر ذلك البلاذري في كتاب «فتوح البلاد» انتهى. وعن مقاتل قال: قالت أم سلمة بنت أبي أمية، ونسيبة بنت كعب الأنصارية للنبي ﷺ «ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه نخشى أن لا يكون فيهن خير» فأنزل الله تعالى:
﴿إن المسلمين والمسلمات﴾ أي: الداخلين في الإسلام المنقادين لحكم الله في القول والعمل.
ولما كان الإسلام مع كونه أكمل الأوصاف وأعلاها يمكن أن يكون بالظاهر فقط أتبعه المحقق له وهو إسلام الباطن بالتصديق التام بغاية الإذعان فقال عاطفاً له ولما بعده من الأوصاف التي يمكن اجتماعها بالواو للدلالة على تمكن الجامعين لهذه الأوصاف في كل وصف منها: ﴿والمؤمنين والمؤمنات﴾ أي: المصدقين بما يجب أن يصدق به.
ولما كان
قاله الزمخشري. والذي منع الإبدال من لله وللرّسول والمعطوف عليهما وإن كان المعنى لرسول الله ﷺ لأنّ الله تعالى أخرج رسوله ﷺ من الفقراء في قوله تعالى: ﴿وينصرون الله ورسوله﴾ ولأنه تعالى يترفع برسوله ﷺ عن تسميته بالفقير، وقال غيره: إنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: ولكن الفيء للفقراء.
وقيل تقديره: ولكن يكون للفقراء، وقيل تقديره: أعجبوا للفقراء، واقتصر على هذا التقدير الجلال المحلى. وإنما جعله الزمخشري بدلاً من لذي القربى لأنه حنفي، والحنفية يشترطون الفقر في إعطاء ذوي القربى من الفيء، ولذا قال البيضاوي: ومن أعطى أغنياء ذوي القربى، أي: كالشافعي خصص الإبدال بما بعده، أو الفيء بفيء بني النضير ا. هـ. أوانهم كانوا عند نزول الآية كذلك، ثم خصص بالوصف بقوله تعالى: ﴿المهاجرين﴾ وقيد ذلك بقوله تعالى: ﴿الذين أخرجوا من ديارهم﴾ لأنّ الهجرة قد تطلق على من هجر أهل الكفر من غيره مفارقة الوطن وقوله تعالى: ﴿وأموالهم﴾ إشارة إلى أنّ المال لما كان يستره الإنسان كان كأنه ظرف له
ولما كان طلب الدنيا من النقائص بين أنه إذا كان من الله لم يكن كذلك، وأنه لا يكون فادحاً في الإخلاص فقال تعالى: ﴿يبتغون﴾ أي: اخرجوا حال كونهم يطلبون على وجه الاجتهاد، وبين أنه لا يجب عليه سبحانه لأحد شيء بقوله تعالى: ﴿فضلاً من الله﴾ أي: الملك الأعظم الذي لا كفء له، لأنه المختص بجميع صفات الكمال فيغنيهم بفضله عمن سواه ﴿ورضوانا﴾ بأن يوفقهم لما يرضيه عنهم، ولا يجعل رغبتهم في العوض منه فادحاً في الإخلاص فيوصلهم إلى دار كرامته وقرأ شعبة بضم الراء، والباقون بكسرها ﴿وينصرون﴾ أي: على سبيل التجديد والاستمرار ﴿الله﴾ أي: دين الملك الأعظم ﴿ورسوله﴾ الذي عظمته من عظمته بأنفسهم وأموالهم ليضمحل حزب الشيطان ﴿أولئك﴾ أي: العالو الرتبة في الأخلاق الفاضلة ﴿هم الصادقون﴾ أي: العريقون في هذا الوصف، لأنّ مهاجرتهم لما ذكر وتركهم لما وصف دل على كمال صدقهم فيما ادعوه من الإيمان بالله ورسوله ﷺ حيث نابدوا من عاداهما، ووالوا أولياءهما وإن بعدت دارهم وشط مزارهم
ثم اتبع ذكر المهاجرين بذكر الأنصار الذين كانوا في كل حال معه ﷺ كالميت بين يدي الغاسل مهما شاء فعل ومهما أراد منهم صاروا إليه بقوله تعالى:
﴿والذين تبوّؤا﴾ أي: جعلوا بغاية جهدهم ﴿الدار﴾ أي: الكاملة في الدور التي جعلها الله تعالى في الأزل للهجرة، وهيأها للنصرة وجعلها محل إقامتهم. وفي قوله تعالى: ﴿والإيمان﴾ أوجه:
أحدها: أنه ضمن تبوّؤا معنى لزموا فيصح عطف الإيمان عليه؛ إذ الإيمان لا يتبوأ.
ثانيها: أنه منصوب بمقدر، أي: واعتقدوا، أو وألفوا، أو وأحبوا، أو وأخلصوا كقول القائل: علفتها تبناً وماء بارداً. وقول الآخر: ومقلداً سيفاً ورمحاً.
ثالثها: أنه يتجوّز في الإيمان فيجعل لاختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم، فكأنهم نزلوه وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة، وفيه خلاف مشهور.
رابعها: أن يكون الأصل دار الهجرة ودار الإيمان، فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه.
خامسها: أن يكون سمى المدينة به،


الصفحة التالية
Icon