عائشة رضي الله تعالى عنها أنها تصدّقت بحبة عنب. فأول ما ذكر من أوصافهم الموجبة للجنة ذكر السخاء. وقد روي عنه ﷺ أنه قال: «السخيّ قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد عن النار والبخيل بعيد من الله قريب من النار ولجاهل سخي أحب إلى الله من العالم البخيل» ﴿والكاظمين الغيظ﴾ أي: الممسكين عليه الكافين عن إمضائه مع القدرة.
روي أنه ﷺ قال: «من كظم غيظاً وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء».
وروي: «من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً».
وروي: «ليس الشديد بالصرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب» ﴿والعافين عن الناس﴾ أي: التاركين عقوبة من استحقوا مؤاخذته.
روي أنه ﷺ قال: «ينادي مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على الله فلا يقوم إلا من عفا» وعن ابن عيينة أنه رواه للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه.
وروي أنه ﷺ قال: «إنّ هؤلاء في أمّتي قليل إلا من عصم الله» وقد كانوا كثيراً في الأمم التي مضت وهذا الإستثناء يحتمل أن يكون منقطعاً وهو ظاهر وأن يكون متصلاً لما في القلة من معنى العدم كأنه قيل: إن هؤلاء في أمّتي لا يوجدون إلا من عصم الله فإنه يوجد في أمّتي وقوله تعالى: ﴿وا يحب المحسنين﴾ يجوز أن تكون اللام فيه للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون وأن تكون للعهد فتكون إشارة إلى هؤلاء وقوله تعالى:
﴿والذين إذا فعلوا فاحشة﴾ أي: ذنباً قبيحاً كالزنا ﴿أو ظلموا أنفسهم﴾ أي: بما دون الزنا كالقبلة وقيل: الفاحشة ما يتعدّى وظلم النفس ما ليس كذلك ﴿ذكروا الله﴾ أي: ذكروا وعيده أو حكمه أو حقه العظيم ﴿فاستغفروا لذنوبهم﴾ بالندم والتوبة عطف على المتقين أو على الذين ينفقون. واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال عطاء: نزلت في أبي سعيد التمار؛ أتته إمرأة حسنة تبتاع منه تمراً فقال لها: إنّ هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه فذهب بها إلى بيته وضمها إلى نفسه وقبلها فقالت له: اتق الله فتركها وندم على ذلك ثم أتى النبيّ ﷺ وذكر ذلك له فنزلت هذه الآية.
وقال مقاتل والكلبي: آخى رسول الله ﷺ بين رجلين أحدهما من الأنصار والآخر من ثقيف، فخرج الثقفي في غزاة واستخلف الأنصاري على أهله فاشترى لهم اللحم ذات يوم، فلما أرادت المرأة أن تأخذ منه دخل على أثرها وقبل يدها ثم ندم وانصرف ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه، فلما رجع الثقفيّ لم يستقبله الأنصاري، فسأل امرأته عن حاله فقالت: لا أكثر الله في الإخوان مثله ووصفت له الحال والأنصاري يسيح في الجبال تائباً مستغفراً، فطلبه الثقفي حتى وجده فأتى به أبا بكر رجاء أن يجد عنده راحة وفرجاً، وقال الأنصاري: هلكت وذكر القصة، فقال أبو بكر: ويحك أما علمت أنّ الله تعالى يغار للغازي ما لا يغار للمقيم ثم أتيا عمر، فقال عمر: مثل ذلك ثم أتيا النبيّ ﷺ فقال: مثل مقالهما فنزلت هذه الآية وقوله تعالى: ﴿ومن﴾ أي: أحد ﴿يغفر الذنوب إلا الله﴾ استفهام بمعنى النفي معترض بين المعطوفين والمراد به وصفه سبحانه وتعالى بسعة الرحمة وعموم المغفرة والحث على الإستغفار والوعد بقبول
تعالى عنه قال: كان رسول الله ﷺ يقول: «اللهمّ إني أعوذ بك من العجز والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر وفتنة المحيا والممات». وفي رواية عنه كان يقول: «اللهمّ إني أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات». ﴿لكيلا يعلم بعد علم شيئاً﴾ أي: ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولية في نقصان القوّة والعقل وسوء الفهم. تنبيه: هل ذلك عام في المسلم والكافر أو مختص بالكافر فيه قولان: أحدهما: أنه عامّ، والقول الثاني: أنه مختص إذ المسلم لا يزداد بطول العمر إلا كرامة على الله تعالى، ولا يقال في حقه: إنه ردّ إلى أرذل العمر. قال الرازي: والدليل عليه قوله تعالى: ﴿ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ (التين: ٥، ٦)
فبين أنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ما ردّوا إلى أسفل السافلين. وقال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصر إلى هذه الحالة. وقال في قوله تعالى: ﴿إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ : هم الذين قرؤوا القرآن. وقال ابن عباس: قوله: ﴿ثم رددناه أسفل سافلين﴾ يريد الكافرين ثم استثنى المؤمنين فقال: ﴿إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ وهذا يؤيد ما مرّ. ﴿إن الله عليم﴾ بمقادير أعمارهم ﴿قدير﴾ يميت الشاب النشيط، ويبقي الهرم الفاني، وفي ذلك تنبيه على أن تفاوت آجال الناس ليس إلا بتقدير قادر حكيم، ركب أبنيتهم وعدّل أمزجتهم على قدر معلوم، ولو كان مقتضى الطباع كما يقول الطبائعيون لم يبلغ التفاوت هذا المبلغ. ولما ذكر تعالى المفاوتة في الأعمار المنادية بإبطال الطبائع الموجبة للمسابقة إلى الاعتبار لأولي الأبصار للخوف كل لحظة من مصيبة الموت أتبعها بالمفاوتة في الأرزاق فقال:
﴿والله﴾ أي: الذي له الأمر كله ﴿فضل بعضكم﴾ أيها الناس ﴿على بعض في الرزق﴾ فمنكم غني، ومنكم فقير، ومنكم مالك، ومنكم مملوك، كل ذلك بتقدير العزيز الحكيم، فيجعل الضعيف العاجز الجاهل أغنى من القوي المحتال العالم فنرى أكيس الناس وأكثرهم عقلاً يفني عمره في طلب القليل من الدنيا ولا يتيسر له ذلك، ونرى أجلف الخلق وأقلهم عقلاً وفهماً تفتح له أبواب الدنيا فكل شيء خطر بباله، أو دار في خياله، فإنه يحصل له بسهولة ولو كان السبب في ذلك هو جهل الإنسان وعقله لوجب أن يكون الأعقل أفضل في هذه الأحوال فلما رأينا أنّ الأعقل أقل نصيباً وأنّ الأجهل الأخس أوفر نصيباً علمنا أنّ ذلك بسبب قسمة القسام كما قال تعالى: ﴿أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا﴾ (الزخرف، ٣٢)
فاتقوا الله وأجملوا في طلب الرزق وأقبلوا في جمع قلوبكم على ما ينفعكم من الاستبصار وأنشد سفيان بن عيينة يقول:
*كم من قويّ قويّ في تقلبه | مهذب الرأي عنه الرزق منحرف |
*ومن ضعيف ضعيف العقل مختلط | كأنه من خليج البحر يغترف |
*أبلغ سليمان أني عنه في سعة
... وفي غنى غير أني لست ذا مال
*شحي بنفسي أني لا أرى أحداً
... يموت جوعاً ولا يبقى على حال
المؤمن المسلم قد لا يكون في أعماله مخلصاً قال: ﴿والقانتين والقانتات﴾ أي: المخلصين في إيمانهم وإسلامهم المداومين على الطاعة.
ولما كان القنوت قد يطلق على الإخلاص المقتضى للمداومة، وقد يطلق على مطلق الطاعة قال: ﴿والصادقين والصادقات﴾ أي: في ذلك كله من قول وعمل.
ولما كان الصدق وهو إخلاص القول والعمل عن شوب يلحقه أو شيء يدنسه قد لا يكون دائماً قال مشيراً إلى أن ما لا يكون دائماً لا يكون صدقاً في الواقع: ﴿والصابرين والصابرات﴾ أي: على الطاعات وعن المعاصي.
ولما كان الصبر قد يكون سجية دل على صرفه إلى الله بقوله تعالى: ﴿والخاشعين والخاشعات﴾ أي: المتواضعين لله تعالى بقلوبهم وجوارحهم.
ولما كان الخشوع والخضوع والإخبات والسكون لا يصح مع توفير المال، فإنه سكون إليه قال معلماً: إنه إذ ذاك لا يكون على حقيقته ﴿والمتصدقين والمتصدقات﴾ بما وجب في أموالهم وبما استحب سراً وعلانية تصديقاً لخشوعهم.
ولما كان بذل المال قد لا يكون مع الإيثار أتبعه ما يعين عليه بقوله تعالى: ﴿والصائمين والصائمات﴾ أي: فرضاً ونفلاً للإيثار بالقوت وغير ذلك.
ولما كان الصوم يكسر شهوة الفرج وقد يثيرها قال تعالى: ﴿والحافظين فروجهم والحافظات﴾ أي: عما لا يحل لهم. وحذف مفعول الحافظات لتقدم ما يدل عليه، والتقدير: والحافظاتها، وكذلك والذاكرات، وحسن الحذف رؤوس الفواصل.
ولما كان حفظ الفرج وسائر الأعمال لا يكاد يوجد إلا بالذكر وهو الذي يكون عنده المراقبة الموصلة إلى المحاضرة المحققة للمشاهدة المحببة للفناء قال تعالى: ﴿والذاكرين الله كثيراً والذاكرات﴾ أي: بقلوبهم وألسنتهم في كل حالة.
ومن علامات الإكثار من الذكر اللهج به عند الاستيقاظ من النوم، وقال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً، روي أن النبي ﷺ قال: «سبق المفردون قالوا: وما المفردون قال: «الذاكرون الله تعالى كثيراً والذاكرات» قال عطاء بن أبي رباح: من فوض أمره إلى الله عز وجل فهو داخل في قوله تعالى: ﴿إن المسلمين والمسلمات﴾ ومن أقر بأن الله تعالى ربه، ومحمداً ﷺ رسوله ولم يخالف قلبه لسانه فهو داخل في قوله تعالى: ﴿والمؤمنين والمؤمنات﴾ ومن أطاع الله تعالى في الفرض، والرسول ﷺ في السنة فهو داخل في قوله تعالى: ﴿والقانتين والقانتات﴾ ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله تعالى: ﴿والصادقين والصادقات﴾ ومن صبر على الطاعات وعن المعصية وعلى الرزية فهو داخل في قوله تعالى: ﴿والصابرين والصابرات﴾.
ومن صلى ولم يعرف من عن يمينه وعن يساره فهو داخل في قوله تعالى: ﴿والخاشعين والخاشعات﴾ ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو داخل في قوله تعالى: ﴿والمتصدقين والمتصدقات﴾ ومن صام في كل شهر أيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر فهو داخل في قوله تعالى: ﴿والصائمين والصائمات﴾ ومن حفظ فرجه عن الحرام فهو داخل في قوله تعالى: ﴿والحافظين فروجهم والحافظات﴾ ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله تعالى: ﴿والذاكرين الله كثيراً والذاكرات﴾ ﴿أعد الله﴾ أي: الذي لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره مع أنه لا يعاظمه
لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان، قال: هذين الوجهين الزمخشري، وليس فيه إلا قيام أل مقام المضاف إليه وهو محل خلاف، وهو أن أل هل تقوم مقام الضمير المضاف إليه فالكوفيون يجوّزونه كقوله تعالى: ﴿فإنّ الجنة هي المأوى﴾ (النازعات: ٤١)
أي: مأواه، والبصريون يمنعونه ويقولون الضمير محذوف، أي: المأوى له. وأما كونها عوضاً عن المضاف إليه، فقال ابن عادل: لا نعرف فيه خلافاً.
سادسها: أنه منصوب على المفعول معه، أي: مع الإيمان. قال وهب: سمعت مالكاً يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق فقال: إنّ المدينة تبوّئت بالإيمان والهجرة، وإنّ غيرها من القرى افتتحت بالسيف، ثم قرأ ﴿والذين تبوّؤا الدار والإيمان من قبلهم﴾ أي: وهم الأنصار ﴿يحبون﴾ أي: على سبيل التجديد والاستمرار ﴿من هاجر﴾ وزادهم محبة فيهم بقوله تعالى: ﴿إليهم﴾ لأنّ القصد إلى الإنسان يوجب حقه عليه، لأنه لولا كمال محبته له ما خصه بالقصد إليه ﴿ولا يجدون في صدورهم﴾ أي: التي هي مساكن قلوبهم فضلاً عن أن تنطق ألسنتهم ﴿حاجة﴾ قال الحسن: حسداً وحزازة وغيظاً ﴿مما أوتوا﴾ أي: آتى النبيّ المهاجرين من أموال بني النضير وغيرهم، وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة لأنّ هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة، فأطلق اسم اللازم على الملزوم على سبيل الكناية.
فعلى هذا يكون الضمير الأوّل للجائين بعد المهاجرين، وفي أوتوا للمهاجرين.
وقيل: إنّ الحاجة هنا على بابها من الاحتياج إلا أنها واقعة موقع المحتاج إليه، والمعنى: ولا يجدون طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره، والمحتاج إليه يسمى حاجة، تقول: خذ منه حاجته، وأعطاه من ماله حاجته قاله الزمخشري: والضميران على ما تقدم، وقال أبو البقاء: مس حاجة، أي: أنه حذف المضاف للعلم به، وعلى هذا فالضميران للذين تبوؤا الدار والإيمان. قال القرطبي: كان المهاجرون في دور الأنصار فلما غنم ﷺ أموال بني النضير دعا الأنصال وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم منازلهم وإشراكهم في الأموال، ثم قال ﷺ «إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم وبينهم وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دياركم» فقال سعد بن عبادة، وسعد ابن معاذ: بل تقسمه بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا، ونادت الأنصار رضينا وسلمنا يا رسول الله، فقال رسول الله ﷺ اللهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأعطى رسول الله ﷺ المهاجرين، ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة نفر محتاجين، أبا دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة.
ولما أخبر تعالى عن تخليهم عن الرذائل أتبعه الأخبار بتحليهم بالفضائل فقال عز من قائل: ﴿ويؤثرون على أنفسهم﴾ فيبذلون لغيرهم كائناً من كان ما في أيديهم، فإنّ الإيثار تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الأخروية، وذلك ينشأ عن قوّة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة، وذكر النفس دليل على أنهم في غاية النزاهة عن الرذائل فإنّ النفس إذا طهرت كان القلب أطهر وأكد ذلك بقوله تعالى: ﴿ولو كان﴾ أي كونا هو في غاية المكنة ﴿بهم﴾ أي خاصة لا بالمؤثر ﴿خصاصة﴾ أي: فقر وحاجة إلى ما يؤثرون به.
روي عن أبي هريرة أن رجلاً بات به ضيف،