التوبة ﴿ولم يصروا على ما فعلوا﴾ أي: ولم يقيموا على قبيح فعلهم بل أقلعوا عنه مستغفرين.
روي عنه ﷺ أنه قال: «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة».
وروي: «لا كبيرة مع الإستغفار ولا صغيرة مع الإصرار» وقوله تعالى: ﴿وهم يعلمون﴾ حال من يصروا أي: ولم يصروا على قبيح فعلهم عالمين به وقوله تعالى:
﴿أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار﴾ إشارة إلى الفريقين ويجوز أن يكون والذين مبتدأ وأولئك خبره وقوله تعالى: ﴿خالدين فيها﴾ حال مقدّرة أي: مقدّرين الخلود فيها إذا دخلوها.
تنبيه: لا يلزم من إعداد الجنة للمتقين والتائبين جزاء لهم أن لا يدخلها المصرون كما لا يلزم من إعداد النار للكافرين جزاء لهم أن لا يدخلها غيرهم، فقول الزمخشري في «الكشاف» وفي هذه الآيات بيان قاطع على أنّ الذين آمنوا على ثلاث طبقات: متقون وتائبون ومصرون وأنّ الجنة للمتقين والتائبين منهم دون المصرين ومن خلف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه جار على طريق الإعتزال من أن مرتكب الكبيرة إذا مات مصرّاً لا يدخل الجنة ونعوذ بالله من ذلك بل كل من مات على الإسلام يدخل الجنة وهو تحت المشيئة إن شاء الله عذبه، وإن شاء عفا عنه وقوله تعالى: ﴿ونعم أجر العاملين﴾ المخصوص فيه بالمدح محذوف تقديره ونعم أجر العاملين ذلك أي: المغفرة والجنات.
روي أنه ﷺ قال: «ما من عبد مؤمن أذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له».
وروي: «أيّ عبد أذنب ذنباً فقال: يا رب أذنبت ذنباً فاغفر لي فقال ربه: علم عبدي أنّ له رباً يغفر الذنوب ويؤاخذ بها فغفر له فمكث ما شاء الله ثم أذنب ذنباً آخر فقال: يا رب أذنبت ذنباً آخر فاغفر لي قال ربه: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويؤاخذ به قد غفرت له فليعمل ما شاء ـ أي: ويستغفر ـ فأغفر له».
وروي أنه تبارك وتعالى قال: «يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك، ابن آدم إنك إن تلقني بقراب الأرض خطايا لقيتك بقرابها مغفرة بعد أن لا تشرك بي شيئاً، ابن آدم إنك إن تذنب ذنباً حتى يبلغ ذنبك عنان السماء ثم تستغفرني أغفر لك».
وروي أنّ الله تبارك وتعالى قال: «من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئاً» قال ثابت البناني: بلغني أنّ إبليس بكى حين نزلت هذه ﴿والذين إذا فعلوا فاحشة﴾ إلى آخرها.
وروي أنّ الله تعالى أوحى إلى موسى عليه الصلاة والسلام: «ما أقل حياء من يطمع في جنتي بغير عمل كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي». وعن شهر بن حوشب: طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة، وعن الحسن يقول الله تعالى يوم القيامة: «جوزوا الصراط بعفوي وادخلوا الجنة برحمتي واقتسموها بأعمالكم»، وعن رابعة البصرية أنها كانت تنشد:

*ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إنّ السفينة لا تجري على اليبس*
ونزل في هزيمة أحد.
﴿قد خلت﴾ أي: مضت ﴿من قبلكم سنن﴾ جمع سنة وهي الطريقة التي يكون عليها الإنسان ويلازمها ومنه سنة الأنبياء عليه الصلاة والسلام أي: قد مضت من قبلكم
*فالعجز عن قدرها العجز ينقصه
... ولا يزيدك فيه حول محتال
*والفقر في النفس لا في المال تعرفه
... ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
وقال الشافعي رحمه الله تعالى:
*ومن الدليل على القضاء وكونه
... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
تنبيه: هذا التفاوت ليس مختصاً بالمال بل هو حاصل في الذكاء والبلادة، والحسن والقبح، والعقل والحمق، والصحة والسقم، والاسم الحسن والاسم القبيح، وهذا بحر لا ساحل له. قال الرازي: وقد كنت مصاحباً لبعض الملوك في بعض الأسفار، وكان ذلك الملك كثير المال والجاه، فكانت الجنائب الكثيرة تقاد بين يديه، وما كان يمكنه ركوب واحد منها، وربما أحضرت الأطعمة الشهية والفواكه الكثيرة العطرة عنده، وما كان يمكنه أن يتناول شيئاً منها وكان من الفقراء من هو صحيح المزاج وقوي البنية كامل القوّة وما كان يجد ملء بطنه طعاماً فذلك الملك وإن كان يفضل هذا الفقير في المال إلا أنّ هذا الفقير كان يفضل ذلك الملك في الصحة والقوّة وهذا باب واسع إذا اعتبره الإنسان عظم تعجبه فيه، فنسأل الله تعالى أن يغنينا من فضله وأن يرضينا بما قسم لنا إنه كريم جواد.
ثم ضرب الله تعالى مثلاً للذين جعلوا لله شركاء بقوله تعالى: ﴿فما الذين فضلوا﴾ أي: في الرزق وهم الموالي ﴿برادّي رزقهم على ما ملكت أيمانهم﴾ أي: بجاعلي ما رزقناهم من الأموال وغيرها بينهم وبين مماليكهم ﴿فهم﴾ أي: المماليك والموالي ﴿فيه سواء﴾ أي: شركاء يقول الله تعالى هم لا يرضون أن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقناهم سواء فكيف يجعلون بعض عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني، وقيل: معنى الآية أنّ الموالي والمماليك الله رازقهم جميعاً فهم في رزقه سواء فلا تحسبن الموالي يردّون أرزاقهم على مماليكهم من عند أنفسهم بل ذلك رزق الله أجراه على أيدي الموالي للماليك.
والمقصود منه بيان أنّ الرازق هو الله تعالى لجميع خلقه وأنّ الموالي والمماليك في ذلك الرزق سواء وأنّ المالك لا يرزق المملوك وإنما ذلك رزقي أجريته إليهم على أيديهم فالرازق للمالك والمملوك هو الله تعالى.
ولما قرّر سبحانه وتعالى هذه الدلائل وبينها وأظهرها بحيث يفهمها كل عاقل كان ذلك إنعاماً عظيماً منه على الخلق فعند هذا قال: ﴿أفبنعمة الله﴾ في تقرير هذه البيانات وإيضاح هذه البينات ﴿يجحدون﴾ أن يكفرون وفي ذلك إنكار على المشركين حيث جحدوا نعمته وعبدوا غيره وجعلوا له شركاء يضيفون إليهم بعض ما أنعم به عليهم فيسوّون بينهم وبينه في ذلك. وقرأ شعبة بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة ثم إنه تعالى ذكر نوعاً آخر من أحوال الناس ليستدلّ به على وجود الإله المختار الحكيم وتنبيهاً على إنعام الله تعالى على عبيده بمثل هذه النعم بقوله تعالى:
﴿والله﴾ أي: الذي له تمام القدرة وكمال العلم ﴿جعل لكم من أنفسكم أزواجاً﴾ أي: من جنسكم لتستأنسوا بها ولتكون أولادكم منكم فخلق حوّاء من ضلع آدم وسائر الناس من نطف الرجال والنساء فهو خطاب عام فتخصيصه بآدم وحوّاء فقط خلاف الدليل، والمعنى أنه تعالى خلق النساء لتتزوّج بهنّ الذكور ومعنى من أنفسكم كقوله تعالى: ﴿فاقتلوا أنفسكم﴾ (البقرة، ٥٤)
{فسلموا على
شيء ﴿لهم مغفرة﴾ أي: لما اقترفوه من الصغائر لأنها مكفرات بفعل الطاعات، والآية عامة وفضل الله تعالى واسع.
ولما ذكر تعالى الفضل بالتجاوز أتبعه الفضل بالكرم والرحمة بقوله تعالى: ﴿وأجراً عظيما﴾ أي: على طاعتهم، والآية وعد لهن ولأمثالهن بالإثابة على الطاعة والتدرع بهذه الخصال، وروي أن سبب نزول هذه الآية: «أن أزواج النبي ﷺ قلن: يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر به؟ إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة فأنزل الله تعالى هذه الآية».
روي أن أسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فدخلت على نساء النبي ﷺ فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن قلن: لا فأتت النبي ﷺ فقالت: «يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار قال: ومم ذاك قالت: لأنهن لا يذكرن بخير كما تذكر الرجال» فأنزل الله عز وجل هذه الآية. وقيل: لما نزل في نساء النبي ﷺ ما نزل قال نساء المسلمين: فما نزل فينا شيء فنزلت.
تنبيه: عطف الإناث على الذكور لاختلاف جنسهما، والعطف فيه ضروري لاختلافهما ذاتاً، وعطف الزوجين وهو مجموع المؤمنين والمؤمنات على الزوجين، وهو مجموع المسلمين والمسلمات لتغاير وصفيهما. وليس العطف فيه بضروري بخلافه في الأول؛ لأن اختلاف الجنس أشد من اختلاف الصفة، وفائدة العطف عند تغاير الأوصاف الدلالة على أن أعداد المعد من المغفرة والأجر العظيم أي: تهيئته للمذكورين للجمع بين هذه الصفات، فصار المعنى: أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات العشر أعد الله تعالى لهم مغفرة وأجراً عظيماً.
وقوله تعالى:
﴿وما كان﴾ أي: وما صح ﴿لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً﴾ أي: إذا قضى رسول الله ﷺ وذكر الله تعالى لتعظيم أمره، والإشعار بأنه قضاء الله تعالى. نزلت في زينب بنت جحش الأسدية وأخيها عبد الله بن جحش، وأمها أمية بنت عبد المطلب عمة النبي ﷺ «لما خطب النبي ﷺ زينب على مولاه زيد بن حارثة، وكان اشترى زيداً في الجاهلية بعكاظ فأعتقه وتبناه، فلما خطب النبي ﷺ زينب رضيت وظنت أنه يخطبها لنفسه، فلما علمت أنه يخطبها لزيد بن حارثة أبت وقالت: أنا ابنة عمتك يا رسول الله فلا أرضاه لنفسي، وكانت بيضاء جميلة فيها حدة، وكذلك كره أخوها» ذلك رواه الدارقطني بسند ضعيف، وقيل: في أم كلثوم بنت عقبة وهبت نفسها للنبي ﷺ فزوجها من زيد ﴿أن تكون لهم الخيرة من أمرهم﴾ أي: أن يختاروا من أمرهم شيئاً، بل يجب عليهم أن يجعلوا اختيارهم تبعاً لاختيار الله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم
تنبيه: الخيرة: مصدر من تخير كالطيرة من تطير على غير قياس، وجمع الضمير في قوله تعالى: ﴿لهم﴾ وفي قوله تعالى: ﴿من أمرهم﴾ لعموم مؤمن ومؤمنة من حيث أنها في سياق النفي، ويجوز أن يكون الضمير في من أمرهم لله تعالى ولرسوله ﷺ وجمع للتعظيم كما جرى عليه البيضاوي، وقرأ أن يكون الكوفيون وهشام بالياء التحتية والباقون بالفوقية، ولأنه ﷺ لا ينطق عن الهوى، ومن عصاه فقد عصى الله تعالى كما قال تعالى: ﴿ومن يعص الله﴾ أي: الذي لا أمر لأحد معه ﴿ورسوله﴾ أي: الذي معصيته معصية الله تعالى لكونه بينه وبين الخلق في بيان ما أرسل به إليهم.
ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نومي الصبية وأطفىء السراج وقربي للضيف ما عندك، فنزلت هذه الآية. وعنه أيضاً قال: «جاء رجل إلى النبيّ ﷺ فقال: إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال رسول الله ﷺ من يضيف هذا الليلة رحمه الله فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله فانطلق به إلى رحله فقال: لامرأته هل عندك شيء؛ قالت: لا إلا قوت صبياني، قال: فعلليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج» وذكر نحو الحديث الأول.
وفي رواية فقام رجل من الأنصار يقال له: أبو طلحة فانطلق به إلى رحله. وذكر المهدوي أنها نزلت في ثابت بن قيس ورجل من الأنصار يقال له: أبو المتوكل، ولم يكن عنده إلا قوته.
وذكر القشيري قال: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله ﷺ رأس شاة، فقال: إنّ أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منا فبعثها إليهم، فلم يزل يبعث بها واحد إلى آخر حتى تناولها سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأول فنزلت الآية.
وذكر القرطبي عن أنس قال: أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة، وكان مجهوداً فوجه بها إلى جار له فتداولها سبعة أنفس في سبعة أبيات، ثم عادت إلى الأوّل فنزلت.
فإن قيل: قد صح في الخبر النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء أجيب: بأن محل النهي فيمن لا يوثق منه بالصبر على الفقر، وخاف أن يتعرّض للمسألة إذا فقد ما ينفقه، فأما الأنصار الذين أثنى الله تعالى عليهم بالإيثار على أنفسهم فكانوا كما قال تعالى: ﴿والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس﴾ (البقرة: ١٧٧)
فكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك، والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار. كما روي «أنّ رجلاً جاء إلى النبيّ ﷺ بمثل البيضة من الذهب، فقال: هذه صدقة فرماه بها، وقال: يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به ثم يقعد فيتكفف الناس» والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس. ومن الأمثال: والجود بالنفس أعلى غاية الجود، وأفضل من الجود بالنفس الجود على حماية رسول الله ﷺ ففي الصحيح أن أبا طلحة ترس على رسول الله ﷺ يوم أحد، وكان النبيّ ﷺ يتطلع ليرى القوم فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله لا يصيبونك نحري دون نحرك»، ووقى بيده رسول الله ﷺ فشلت. وقال حذيفة الدوري انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي فإذا برجل يقول: آه، آه. فأشار إليّ ابن عمي أن انطلق إليه فإذا هو هشام بن العاصي فقلت أسقيك فأشار أن نعم فسمع آخر يقول آه آه فأشار هشام أن انطلق عليه فجئت إليه، فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
وقال أبو يزيد البسطامي: ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ قدم إلينا حاجاً، فقال لي: يا أبا يزيد ما حد الزهد عندكم، فقلت: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، فقال: هكذا كلاب بلخ فقلت: وما حد الزهد عندكم، فقال: إذا فقدنا شكرنا وإذا وجدنا آثرنا.
وسأل ذو النون ما حد الزهد قال: ثلاث: تفريق المجموع، وترك تطلب المفقود، والإيثار عند القوت. وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية من قرى الري، وبينهم أرغفة معدودة لا تشبع


الصفحة التالية
Icon