طرائق في الكفار بإمهالهم ثم أخذهم ﴿فسيروا﴾ أيها المؤمنون ﴿في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة﴾ أي: آخر أمر ﴿المكذبين﴾ الرسل من الهلاك فلا تحزنوا لغلبتهم فأنا أمهلهم لوقتهم.
﴿هذا﴾ أي: القرآن ﴿بيان للناس﴾ عامّة ﴿وهدى﴾ من الضلالة ﴿وموعظة للمتقين﴾ خاصة ﴿ولا تهنوا﴾ أي: تضعفوا عن قتال الكفار بما نالكم من القتل والجراح يوم أحد.
﴿ولا تحزنوا﴾ على ما أصابكم وكان قد قتل يومئذٍ من المهاجرين خمسة: منهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وقتل من الأنصار سبعون رجلاً ﴿وأنتم الأعلون﴾ أي: وحالكم أنكم أعلى شأناً منهم فإنكم على الحق وقتالكم لله وقتلاكم في الجنة، وإنهم على الباطل وقتالهم للشيطان وقتلاهم في النار أو لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم اليوم أو هي بشارة لهم بالعلو والغلبة أي: وأنتم الأعلون في العاقبة ﴿وإن جندنا لهم الغالبون﴾ (الصافات، ١٧٣) وقوله تعالى: ﴿إن كنتم مؤمنين﴾ متعلق بالنهي بمعنى لا تهنوا إن صح إيمانكم على أنّ صحة الإيمان توجب قوّة القلب والثقة بالله تعالى وقلة المبالاة بأعدائه أو متعلق بالأعلون أي: إن كنتم مصدّقين بما يعدكم الله ويبشركم به من الغلبة.
﴿إن يمسسكم قرح﴾ جهد من جرح ونحوه يوم أحد ﴿فقد مس القوم﴾ الكفار ﴿قرح مثله﴾ يوم بدر ثم إنهم يضعفوا ولم يجبنوا فأنتم أولى أن لا تضعفوا فإنكم ترجون من الله ما لا يرجون، وقيل: كلا المسين كان يوم أحد، فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله ﷺ وقرأ أبو بكر وشعبة وحمزة والكسائي بضم قاف قرح في الموضعين، والباقون بالفتح وهما لغتان بمعنى، وقال الفرّاء: القرح بالفتح الجرح وبالضم آلمه ﴿وتلك الأيام﴾ تلك مبتدأ أو الأيام صفته وقوله تعالى: ﴿نداولها﴾ خبره ويصح أنّ تلك الأيام مبتدأ وخبر كما تقول هي الأيام تبلي كل جديد والمراد بالأيام أوقات الظفر والغلبة أي: نصرّفها ﴿بين الناس﴾ قال البغوي: فيوماً عليهم ويوماً لهم. قال في «الكشاف» كقوله وهو من أبيات الكتاب:
*فيوم علينا ويوماً لنا | ويوم نُساءُ ويوماً نُسَر* |
روي أنه ﷺ جعل عبد الله بن جبير على الرجالة يوم أحد وكانوا خمسين رجلاً، فقال: «إن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزموهم قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهنّ وسوقهنّ رافعات ثيابهنّ» فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة الغنيمة فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله ﷺ قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبنّ من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم فلم يثبت مع النبيّ ﷺ إلا اثنا عشر رجلاً فأصابوا منا سبعين وكان النبيّ ﷺ وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة وسبعين أسيراً وسبعين
أنفسكم} (النور، ٦١)
أي: بعضكم بعضاً ونظيره قوله تعالى: ﴿ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً﴾ (الروم، ٢١)
. ﴿وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة﴾ والحفدة جمع حافد وهو المسرع بالخدمةالمسارع إلى الطاعة ومنه قول القانت: وإليك نسعى ونحفد، أي: نسرع إلى طاعتك هذا أصله في اللغة.
واختلف فيه أقوال المفسرين فقال ابن مسعود والنخعي: الحفدة أختان الرجل على بناته. وعن ابن مسعود أنهم أصهاره فهو بمعنى الأوّل وعلى هذا يكون معنى الآية وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات تزوّجونهنّ فيحصل لكم بسببهنّ الأختان والأصهار. وقال الحسن وعكرمة والضحاك: هم الخدم. وقال مجاهد: هم الأعوان وكل من أعانك فهو حفيدك. وقال عطاء: هم ولد الرجل الذين يعينونه ويخدمونه. وقال الكلبي ومقاتل: البنون هم الصغار والحفدة كبار الأولاد الذين يعينون الرجل الذين ليسوا منه، أي: أولاد المرأة من الزوج الأوّل. قال الرازي: والأولى دخول الكل فيه لأنّ اللفظ محتمل للكل بحسب المعنى المشترك. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالحفدة البنون أنفسهم كأنه قيل: جعل لكم منهنّ أولاداً هم بنون وهم حافدون، أي: جامعون بين الأمرين انتهى. ومع هذا فالمشهور أنّ الحافد ولد الولد من الذكور والإناث.
فائدة: قال الأطباء وأهل الطبيعة: المني إذا انصب إلى الخصية اليمنى من الذكر ثم انصب منه إلى الجانب الأيمن من الرحم كان الولد ذكراً تاماً في الذكورة، وإذا انصب من الخصية اليسرى ثم انصب إلى الجانب الأيسر من الرحم كان الولد أنثى تاماً في الأنوثة، وإذا انصب إلى الخصية اليمنى وانصب منها إلى الجانب الأيسر من الرحم كان ذكراً في طبيعة الإناث، وإذا انصب إلى الخصية اليسرى ثم انصب منها إلى الجانب الأيمن من الرحم كان هذا الولد أنثى في طبيعة الذكور. وحاصل كلامهم أنّ الذكور الغالب عليهم الحرارة واليبوسة والغالب على الإناث البرودة والرطوبة، وهذه العلة ضعيفة فإنّ في النساء من مزاجها في غاية السخونة وفي الرجال من مزاجه في غاية البرودة فخالق الذكر والأنثى هو الإله القادر الحكيم. ولما ذكر تعالى إنعامه على عبيده بالمنكوح وما بينه فيه من المنافع والمصالح ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطيبة فقال: ﴿ورزقكم من الطيبات﴾ سواء كانت من النبات وهي الثمار والحبوب والأشربة أو كانت من الحيوان والمراد بالطيب المستلذ أو الحلال ومن في من الطيبات للتبعيض لأنّ كل الطيبات في الجنة وما طيبات الدنيا إلا أنموذج منها واختلف في تفسير قوله تعالى: ﴿أفباطل يؤمنون﴾ فقال ابن عباس: يعني بالأصنام. وقال مقاتل: يعني بالشيطان، وقال عطاء: يصدّقون أنّ لي شريكاً وصاحبة وولداً. ﴿وبنعمت الله هم يكفرون﴾ أي: بأن يضيفوها إلى غير الله تعالى، ويتركون إضافتها إلى الله تعالى. وقيل: الباطل ما سوّل لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ونعمة الله ما أحل لهم من هذه الطيبات وتحريم الخبائث. فائدة: رسمت نعمت هنا بالتاء ووقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء والباقون بالتاء والكسائي يقرأ بالإمالة. ولما شرح الله تعالى الدلائل على صحة التوحيد وأتبعها بذكر أقسام النعم العظيمة أتبعها بالرد على عبدة الأصنام فقال:
﴿ويعبدون من دون الله﴾ أي: غيره ﴿ما لا يملك لهم رزقاً﴾
وقوله تعالى: ﴿فقد ضل﴾ قرأه قالون وابن كثير وعاصم بالإظهار، والباقون بالإدغام وزاد ذلك بقوله تعالى: ﴿ضلالاً مبيناً﴾ أي: فقد أخطأ خطأ ظاهراً لا خفاء فيه، فالواجب على كل أحد أن يكون معه ﷺ في كل ما يختاره، وإن كان فيه أعظم المشقات عليه تخلقاً. يقول الشاعر:
*وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي | متأخر عنه ولا متقدم* |
*وأهنتني فأهنت نفسي عامداً | ما من يهون عليك ممن يكرم* |
﴿وإذ تقول للذي أنعم الله﴾ أي: الملك الذي له كل الكمال ﴿عليه﴾ وتولى نبيه عليه الصلاة والسلام إياه»، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بالإظهار والباقون بالإدغام.
ثم بين تعالى منزلته من النبي ﷺ بقوله تعالى: ﴿وأنعمت عليه﴾ أي: بالعتق والتبني حيث استشارك في فراق زوجته التي أخبرك الله تعالى أنه يفارقها وتصير زوجتك ﴿أمسك عليك زوجك﴾ أي: زينب رضي الله عنها ﴿واتق الله﴾ الذي له جميع العظمة في جميع أمرك ﴿وتخفي﴾ أي: والحال أنك تخفي أي: تقول قولاً مخفياً ﴿ما في نفسك﴾ أي: ما أخبرك الله من أنها ستصير إحدى زوجاتك عند طلاق زيد ﴿ما الله مبديه﴾ أي: مظهره بحمل زيد على تطليقها، وإن أمرته بإمساكها وتزويجك بها وأمرك بالدخول عليها، وهذا دليل على أنه ما أخفى غير ما أعلمه الله تعالى من أنها ستصير زوجته عند طلاق زيد؛ لأن الله تعالى ما أبدى غير ذلك، ولو أخفى غيره لأبداه سبحانه؛ لأنه لا يبدل قوله، وقول ابن عباس كان في قلبه حبها بعيد، وكذا قول قتادة: ودّ لو أنه لو طلقها زيد، وكذا قول غيرهما: كان في قلبه لو فارقها زيد تزوجها.
ولما ذكر تعالى إخفاءه ذلك ذكر علته بقوله تعالى: عاطفاً على تخفي ﴿وتخشى الناس﴾ أي: من أن تخبر بما أخبر الله تعالى به فيصوبوا إليك مرجمات الظنون لاسيما اليهود والمنافقون، وقال ابن عباس والحسن: تستحييهم، وقيل: تخاف لأئمة الناس أن يقولوا: أمر رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها ﴿والله﴾ أي: والحال أن الذي لا شيء أعظم منه ﴿أحق أن تخشاه﴾ أي: وحده ولا تجمع خشية الناس مع خشيته في أن تؤخر شيئاً أخبرك به حتى يأتيك فيه أمر. قال عمر وابن
جميعهم، فكسروا الرغفان وأطفؤوا السراج وجلسوا للطعام، فلما فرغوا فإذا الطعام بحاله لم يأكل أحد منهم شيئاً إيثاراً لصاحبه على نفسه ﴿ومن يوق شح نفسه﴾ أي: يجعل بينه وبين أخلاقه الذميمة المشار إليها بالنفس وقاية تحول بينه وبينها، فلا يكون مانعاً لما عنده حريصاً على ما عند غيره حسداً. قال ابن عمر الشح: أن تطمح عين الرجل فيما ليس له، قال ﷺ «اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم». وقال القرطبي: الشح والبخل سواء، وجعل بعض أهل اللغة الشح أشد من البخل. وفي الصحاح: الشح البخل مع حرص، والمراد بالشح في الآية الشح بالزكاة، وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضيافة وما شاكل ذلك وليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك، وإن أمسك عن نفسه، ومن وسع على نفسه ولم ينفق فيما ذكر من الزكاة والطاعات فلم يوق شح نفسه.
روى الأموي عن ابن مسعود: أنّ رجلاً أتاه فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وماذاك قال سمعت الله يقول: ومن يوق شح نفسه، وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يدي شيئاً، فقال ابن مسعود: ليس ذلك الذي ذكر الله تعالى، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلماً، ولكن ذلك البخل وبئس الشيء البخل، ففرق بين الشح والبخل. وقال طاوس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يشح بما في أيدي الناس، يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام فلا يقنع، وقال بعضهم: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، إنما الشح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له. وقال ابن جبير: الشح منع الزكاة، وادخار الحرام وقال ابن عيينة: الشح الظلم. وقال الليث: ترك الفرائض، وانتهاك المحارم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من اتبع هواه ولم يقبل الإيمان، فذلك الشحيح وقال ابن زيد: من لم يأخذ شيئاً نهاه الله تعالى عنه، ولم يمنع شيئاً أمره الله تعالى بإعطائه فقد وقاه الله تعالى شح نفسه.
وعن أنس أنّ النبيّ ﷺ قال: «برىء من الشح من أدى الزكاة، وأقرى الضيف، وأعطى في النائبة» وعنه أنّ النبي ﷺ «كان يدعو اللهم إني أعوذ بك من شح نفسي وإسرافها وسوأتها» وقال ابن الهياج الأسدي: رأيت رجلاً في الطواف يدعو اللهم قني شح نفسي لا يزيد على ذلك، فقلت له: فقال: إذا وقيت شح نفسي لم أسرق، ولم أزن، ولم أقتل فإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف. قال القرطبي: ونزل على هذا قوله ﷺ «اتقوا الظلم فإنّ الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإنّ الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماؤهم واستحلوا محارهم» وعن أبي هريرة أنّ النبيّ ﷺ قال: «لا يجتمع غبار في سبيل الله، ودخان جهنم في جوف عبد أبداً» وقال كسرى لأصحابه: أي شيء أضرّ بابن آدم؟ قالوا: الفقر، فقال: الشح أضر من الفقر لأنّ الفقير إذا وجد شبع، والشحيح إذا وجد لم يشبع أبداً ﴿فأولئك﴾ أي: العالو المنزلة ﴿هم المفلحون﴾ أي: الكاملون في الفوز بكل مراد، قال القشيري: ومجرد القلب من الأعراض والأملاك صفة السادة والأكابر من أسرته الأخطار
ولما أثنى سبحانه وتعالى على المهاجرين والأنصار بما هم عليه وأهله أتبعهم ذكر التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين فقال تعالى: ﴿والذين جاؤوا﴾ أي: من أي طائفة كانوا ﴿من بعدهم﴾ أي بعد المهاجرين والأنصار، وهم من آمن