قتيلاً، فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد ثلاث مرّات فنهاهم النبيّ ﷺ أن يجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرّات، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب ثلاث مرّات، ثم رجع إلى أصحابه وهو يقول: أما هؤلاء فقد قتلوا فما ملك عمر نفسه فقال: كذبت والله يا عدوّ الله إنّ الذين عددت لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءك قال: يوم بيوم بدر والحرب سجال إنكم ستجدون في القوم مثلة ثم أخذ يرتجز:
*اعل هبل اعل هبل*
فقال النبيّ ﷺ «ألا تجيبوه؟» فقالوا: يا رسول الله ما نقول قال: قولوا الله أعلى وأجل قال: إنّ لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبيّ ﷺ «ألا تجيبوه» فقالوا: يا رسول الله ما نقول؟ فقال: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم». وفي حديث ابن عباس: قال أبو سفيان: يوم بيوم وإنّ الأيام دول والحرب سجال، فقال عمر رضي الله تعالى عنه لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار» وإنما كانت الدولة يوم أحد للكفار على المسلمين لمخالفتهم لأمر رسول الله ﷺ ﴿وليعلم الله الذين آمنوا﴾ أي: أخلصوا إيمانهم من غيرهم.
فإن قيل: ظاهر هذه الآية أنّ الله تعالى إنما فعل تلك المداولة ليكتسب هذا العلم وذلك في حقه تعالى محال ونظير هذا الإشكال قوله تعالى: ﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم﴾ (آل عمران، ١٤٢)
وقوله تعالى: ﴿ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين﴾ (،)
وقوله: ﴿لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا﴾ (الكهف، ١٢)
وقوله: ﴿ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم﴾ (محمد، ٣١)
وقوله: ﴿إلا لنعلم من يتبع الرسول﴾ (البقرة، ١٤٣)
وقوله: ﴿ليبلوكم أيكم أحسن عملاً﴾ (الملك، ٢)
فظاهر هذه الآيات يدل على أنه تعالى إنما صار عالماً بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها، وأجاب المتكلمون عنها بأن الدلائل العقلية دلت على أنه تعالى يعلم الحوادث قبل وقوعها، فثبت أن التغير في العلم محال إلا أن إطلاق لفظ العلم على المعلوم والقدرة على المقدرة مجاز مشهور يقال: هذا علم فلان والمراد معلومه، وهذه قدرة فلان والمراد مقدوره، فكل آية يشعر ظاهرها بتجدّد العلم فالمراد تجدّد المعلوم وإذا عرف هذا فهذه الآية محتملة لوجوه أحدها: ليظهر المخلص من المنافق والمؤمن من الكافر وثانيها: ليعلم أولياء الله وأضاف إلى نفسه تفخيماً وثالثها: ليحكم بالإمتياز فأوقع العلم مكان الحكم بالامتياز؛ لأنّ الحكم لا يحصل إلا بعد العلم ورابعها: ليعلم ذلك واقعاً كما كان يعلم أنه سيقع؛ لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لا يوجد ﴿ويتخذ منكم شهداء﴾ ويكرم ناساً منكم بالشهادة وهم المتشهدون يوم أحد أو وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بما وجد منهم من الثبات والصبر على الشدائد كما قال تعالى: لتكونوا شهداء على الناس وقوله تعالى: ﴿وا لا يحب الظالمين﴾ قال ابن عباس أي المشركين كقوله تعالى: ﴿إن الشرك لظلم عظيم﴾ وهو اعتراض بين بعض التعاليل وبعض وفيه تنبيه على أنه تعالى لا ينصر الكافرين على الحقيقة وإنما يظفرهم أحياناً استدراجاً لهم وابتلاء للمؤمنين.
﴿وليمحص الله الذين آمنوا﴾ أي: ليطهرهم من الذنوب بما أصابهم ﴿ويمحق﴾ أي: يهلك ﴿الكافرين﴾ أي: إن كانت الدولة على المؤمنين فللتمييز والإستشهاد والتمحيص وغير ذلك مما هو أصلح لهم، وإن كانت على الكافرين فلمحقهم ومحو آثارهم.
﴿أمّ﴾ منقطعة مقدّرة ببل ومعنى الهمزة فيها الإنكار أي: بل أ {حسبتم
أي: تاركين عبادة من بيده جميع الأرزاق وهو ذو العلو المطلق الذي رزقهم من الطيبات ويعبدون غيره، ثم بين تعالى جهة الرزق بقوله تعالى: ﴿من السموات والأرض﴾ أمّا الرزق الذي يأتي من جانب السماء فالمطر، وأمّا الذي من جانب الأرض فالنبات والثمار التي تخرج منها، وقوله تعالى: ﴿شيئاً﴾ فيه ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه منصوب على المصدر، أي: لا يملك لهم ملكاً، أي: شيئاً من الملك. والثاني: أنه بدل من رزقاً، أي: لا يملك لهم شيئاً. قال ابن عادل: وهذا غير مفيد إذ من المعلوم أنّ الرزق شيء من الأشياء ويؤيد ذلك أنّ البدل لا يأتي إلا لأحد معنيين البيان أو التأكيد، وهذا ليس فيه بيان لأنه أعمّ ولا تأكيد. الثالث: أنه منصوب على أنه اسم مصدر واسم المصدر يعمل عمل المصدر على خلاف في ذلك. ولما كان من لا يملك شيئاً قد يكون موصوفاً باستطاعة أن يتملك بطريق من الطرق نفى الله تعالى عنهم ذلك بقوله تعالى: ﴿ولا يستطيعون﴾ أي: وليس لهم نوع استطاعة أصلاً. فإن قيل: إنه تعالى قال: ﴿ويعبدون من دون الله ما لا يملك﴾ فعبر عن الأصنام بصيغة ما وهي لغير العاقل ثم جمع بالواو والنون. وقال: ﴿ولا يستطيعون﴾ وهو مختص بمن يعقل؟ أجيب: بأنه عبر عنها ثانياً اعتباراً باعتقادهم أنها آلهة.
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿فلا تضربوا لله الأمثال﴾ وجهان: الأوّل: قال أكثر المفسرين: ولا تشبهوا الله بخلقه فإنه واحد لا مثل له ولا شبيه ولا شريك من خلقه لأنّ الخلق كلهم عبيده وفي ملكه، فكيف يشبه الخالق بالمخلوق، والرازق بالمرزوق، والقادر بالعاجز. الثاني: أنّ عبدة الأوثان كانوا يقولون أنّ إله العالم أجل وأعظم من أن يعبده الواحد منا، بل نحن نعبد الكواكب أو نعبد هؤلاء الأصنام، ثم إنّ الكواكب والأصنام عبيد الإله الأكبر الأعظم كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حفدة الملك، وأولئك الأكابر كانوا يخدمون الملك فكذا ههنا. ﴿إنّ الله﴾ أي: الذي له الأمر كله ولا أمر لغيره ﴿يعلم﴾ أي: خطأ ما أنتم عليه من ضرب الأمثال له. ﴿وأنتم لا تعلمون﴾ ذلك وقيل معناه: وأنتم لا تعلمون ما عليكم من العقاب العظيم بسبب عبادة هذه الأصنام ولو علمتموه لتركتم عبادتها. ولما ختم تعالى إبطال مذهب عبدة الأصنام بسبب العلم الذي هو مناط السداد عنهم، أكد ذلك بضرب مثل بقوله تعالى:
﴿ضرب الله﴾ أي: الذي له كمال العلم وتمام القدرة. ﴿مثلاً﴾ بالأحرار والعبيد ثم أبدل من مثلاً ﴿عبداً﴾ وقيده بقوله تعالى: ﴿مملوكاً﴾ ليخرج الحرّ. لأنّ العبد يطلق على الحرّ بالنسبة إلى الله تعالى وقيده بقوله تعالى: ﴿لا يقدر على شيء﴾ ليخرج المكاتب ومن فيه شائبة حرّية وهذا مثل شركائهم ثم عطف على عبداً قوله: ﴿ومن﴾ أي: وحرًّا فهي نكرة موصوفة ليطابق عبداً ﴿رزقناه منا رزقاً حسناً﴾ أي: واسعاً طيباً ﴿فهو ينفق منه﴾ دائماً وهو معنى قوله تعالى: ﴿سراً وجهراً﴾ أي: يتصرف فيه كيف يشاء وهذا مثل الإله وله المثل الأعلى ثم بكتهم إنكاراً عليهم بقوله تعالى: ﴿هل يستوون﴾ أي: هذان الفريقان الممثل بهما لأن المراد الجنس فإذا كان لا يسوغ في عقل أن يسوّى بين مخلوقين أحدهما حرّ مقتدر والآخر مملوك عاجز، فكيف يسوّى بين حجر من صوّان أو غيره وبين الله تعالى الذي له القدرة التامّة على كل شيء، وقيل: ذلك تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق.
مسعود وعائشة: ما نزلت على رسول الله ﷺ آية هي أشد عليه من هذه، وروي عن مسروق قال: قالت عائشة: «لو كتم النبي ﷺ شيئاً مما أوحي إليه لكتم هذه الآية ﴿وتخفي في نفسك ما الله مبديه﴾.
ويؤيد ما مر ما روى سفيان بن عيينة عن علي عن زيد بن جدعان قال: سألني علي بن الحسين زين العابدين ما يقول الحسن في قوله تعالى: ﴿وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه﴾ قال: قلت يقول لما جاء زيد إلى النبي ﷺ قال: يا رسول الله إني أريد أن أطلقها فقال له: ﴿أمسك عليه زوجك﴾ فقال علي بن الحسين: ليس كذلك؛ لأن الله تعالى قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه، وأن زيداً سيطلقها، فلما جاء زيد وقال: إني أريد أن أطلقها قال له: ﴿أمسك عليك زوجك﴾ فعاتبه الله تعالى وقال: «لم قلت أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك» وهذا هو اللائق والأليق بحال الأنبياء عليهم السلام، وهو مطابق للتلاوة لأن الله تعالى أعلم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال تعالى: ﴿فلما قضى زيد منها وطرأ﴾ أي: حاجة من زواجها والدخول بها، وذلك بانقضاء عدتها منه؛ لأن به يعرف أنه لا حاجة له فيها، وأنه قد تقاصرت عنها همته وإلا راجعها ﴿زوجناكها﴾ أي: ولم نحوجك إلى ولي من الخلق يعقد لك عليها تشريفاً لك ولها بما لنا من العظمة التي خرقنا بها عوائد الخلق حتى أذعن لذلك كل من علم به، وسرت به جميع النفوس.
ولم يقدر منافق ولا غيره على الخوض في ذلك ببنت شفة مما يوهنه ويؤثر فيه، فلو كان الذي أضمره رسول الله ﷺ محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره ثم يكتمه فلا يظهره، فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله تعالى من أنها ستكون زوجة له.k
وإنما أخفاه استحياء أن يقول لزيد: إن التي تحتك وفي نكاحك ستكون امرأتي.
قال البغوي: وهذا هو الأولى والأليق وإن كان الآخر وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء عليهم السلام؛ لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه المأثم؛ لأن الود وميل النفس من طبع البشر، وقوله: ﴿أمسك عليك زوجك واتق الله﴾ أمر بالمعروف وهو خشية الإثم فيه وقوله: ﴿والله أحق أن تخشاه﴾ لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه الصلاة والسلام قال: «أنا أخشاكم لله وأتقاكم له» ولكن المعنى: الله أحق أن تخشاه وحده ولا تخشى أحداً معه، فأنت تخشاه وتخشى الناس أيضاً. ولكنه لما ذكر الخشية من الناس ذكر أن الله أحق بالخشية في عموم الأحوال وفي جميع الأشياء انتهى.
وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبني تحل بعد الدخول بها إذا طلقت وانقضت عدتها، روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: «لما انقضت عدة زينب قال رسول الله ﷺ لزيد: اذهب فاذكرها علي قال: فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها لأن رسول الله ﷺ ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي فقلت: يا زينب أرسل رسول الله ﷺ يذكرك قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن.
وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعد انقطاع الهجرة بالفتح، وبعد إيمان الأنصار الذين أسلموا مع النبيّ ﷺ إلى يوم القيامة ﴿يقولون﴾ على سبيل التجديد والاستمرار تصديقاً لإيمانهم بدعائهم ﴿ربنا﴾ أي: أيها المحسن إلينا بإيجاد من مهد الدين قبلنا ﴿اغفر لنا﴾ أي: أوقع ستر النقائص آثارها وأعيانها ﴿ولأخواننا﴾ أي: في الدين فإنهم أعظم أخوة، وبينوا العلة بقولهم ﴿الذين سبقونا بالإيمان﴾ قال ابن أبي ليلى الناس على ثلاثة منازل: المهاجرين، والذين تبوؤا الدار والإيمان، والذي جاؤوا من بعدهم فاجتهد أن لا تخرج من هذه المنازل. وقال بعضهم: كن مهاجراً، فإن قلت: لا أجد فكن أنصارياً، فإن لم تجد فاعمل بأعمالهم، فإن لم تستطع فأحبهم واستغفر لهم كما أمر الله تعالى.
وقال مصعب بن سعد: الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن بنت رسول الله ﷺ ما تقول في عثمان فقال له يا أخي أنت من قوم قال الله تعالى فيهم: ﴿للفقراء المهاجرين﴾ الآية، قال: لا، قال: فأنت من قوم قال الله تعالى فيهم: ﴿والذين تبوؤا الدار والإيمان﴾ الآية، قال: لا، قال: فو الله إن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجنّ من الإسلام، وهي قوله تعالى: ﴿والذين جاؤوا من بعدهم﴾ الآية وروي أنّ نفراً من أهل العراق جاؤوا إلى محمد بن علي بن الحسين فسبوا أبا بكر وعمر وعثمان فأكثروا، فقال لهم: أمن المهاجرين الأولين أنتم، فقالوا: لا فقال: من الذين تبؤوا الدار والإيمان، قالوا: لا قال: فقد تبرأتم من هذين الفريقين، أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله تعالى: ﴿والذين جاؤوا من بعدهم﴾ قوموا فعل الله بكم وفعل.
تنبيه: هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة رضى الله تعالى عنهم أجمعين، لأنه جعل لمن بعدهم حظاً في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، ومن أبغضهم أو واحداً منهم، أو اعتقد فيهم شراً أنه لا حق له في الفيء.
قال مالك: من كان يبغض أحداً من أصحاب رسول الله ﷺ أو كان في قلبه لهم غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ ﴿والذين جاؤوا من بعدهم﴾ الآية، وهي عامة في جميع التابعين الآتين بعدهم إلى يوم القيامة. يروى أنّ النبيّ ﷺ خرج إلى المقبرة فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت لو رأيت إخواننا، فقالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك، فقال رسول الله ﷺ بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطهم على الحوض» فبين ﷺ أن أخوانه كان من أتى بعدهم كما قال السدي والكلبي: إنهم الذي هاجروا بعد ذلك، وعن الحسن أيضاً: أنّ الذين جاؤوا من بعدهم من قصد إلى النبيّ ﷺ إلى المدينة بعد انقطاع الهجرة، وإنما بدؤوا في الدعاء بأنفسهم لقوله ﷺ «ابدأ بنفسك» وقال الشعبي: تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة، سألت اليهود من خير أهل ملتكم فقالوا: أصحاب موسى، وسألت الأنصار من خير أهل ملتكم فقالوا: أصحاب عيسى، وسألت الرافضة من شر أهل ملتكم فقالوا: أصحاب محمد ﷺ أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم. وعن عائشة قالت سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا تذهب هذه الأمّة حتى يلعن