كأنس وأضرابه.
﴿وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله﴾ أي: بقضائه ومشيئته أو بإذنه لملك الموت في قبضه روحه وقوله تعالى: ﴿كتاباً﴾ مصدر أي: كتب الله ذلك ﴿مؤجلاً﴾ أي: مؤقتاً لا يتقدّم ولا يتأخر فلم انهزمتم والهزيمة لا تدفع الموت والثبات لا يقطع الحياة.
ونزل في الذين تركوا المركز يوم أحد طلباً للغنيمة ﴿ومن يرد﴾ أي: بعمله ﴿ثواب الدنيا نؤته منها﴾ ما نشاء مما قدّرناه له كما قال تعالى: ﴿من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد﴾ وفي الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قتلوا ﴿ومن يرد﴾ أي: بعمله ﴿ثواب الآخرة نؤته منها﴾ أي: من ثوابها ﴿وسنجزي الشاكرين﴾ أي: الذين شكروا نعمة الله فلم يشغلهم شيء عن الجهاد.
روي أنه ﷺ قال: «من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر بين عينيه وشتت عليه أمره ولا يأتيه منها إلا ما كتب له» وقال ﷺ «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» وقوله تعالى:
﴿وكأين﴾ أصله أي: دخلت الكاف عليها فصارت مركبة من كاف التشبيه ومن أي: وحدث فيهما بعد التركيب معنى التكثير المفهوم من كم الخبرية ومثلها في التركيب وإفهام التكثير كذا في قولهم: عندي كذا كذا درهماً وأصله كاف التشبيه، وذا الذي هو إسم إشارة فلما ركبا حدث فيهما معنى التكثير فكم الخبرية وكأين وكذا كلها بمعنى واحد، والنون تنوين في المعنى أثبت في الخط على غير قياس. قال البغوي: لم يقع للتنوين صورة في الخط إلا في هذا الحرف خاصة وقرأ ابن كثير بألف بعد الكاف بعدها همزة مكسورة، والباقون بهمزة بعد الكاف مفتوحة بعدها ياء مشدّدة، ووقف أبو عمرو على الياء والباقون على النون وسهل حمزة الهمزة وحققها الباقون وقوله تعالى: ﴿من نبيّ﴾ تمييز لكأين لأنها مثل كم الخبرية وقوله تعالى: ﴿قتل﴾ قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم القاف وكسر التاء ولا ألف بين القاف والتاء والباقون بفتح القاف والتاء وألف بين القاف والتاء وقوله تعالى: ﴿معه﴾ خبر مبتدؤه ﴿ربيون﴾ وهم جمع ربي وهو العالم المتقي منسوب إلى الرب، وإنما كسرت راؤه تغييراً في النسب وقيل: لا تغيير فيه وهو منسوب إلى الربة وهي الجماعة للمبالغة وقوله تعالى: ﴿كثير﴾ صفة لربيون وإن كان بلفظ الإفراد لأنّ معناه جمع ﴿فما وهنوا﴾ أي: ضعفوا ﴿لما أصابهم في سبيل الله﴾ من الجراح وقتل أنبيائهم وأصحابهم ﴿وما ضعفوا﴾ عن الجهاد ﴿وما استكانوا﴾ أي: خضعوا لعدوّهم كما فعلتم حين قيل: قتل نبيكم ﴿وا يحب الصابرين﴾ على الشدائد فيثيبهم ويعظم أجرهم.
﴿وما كان قولهم﴾ عند قتل نبيهم مع ثباتهم وصبرهم وكونهم ربانيين ﴿إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا﴾ أي: تجاوزنا الحدّ وقولهم: ﴿في أمرنا﴾ إيذان بأنّ ما أصابهم لسوء فعلهم وهضماً لأنفسهم ﴿وثبت أقدامنا﴾ أي: بالقوّة على الجهاد ﴿وانصرنا على القوم الكافرين﴾ أي: فهلا قلتم وفعلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
﴿فآتاهم الله ثواب الدنيا﴾ أي: بالنصر والغنيمة والعز وحسن الذكر ﴿وحسن ثواب الآخرة﴾ أي: بالجنة والنعيم المقيم وخص ثوابها
الأمر ليس كذلك؟ أجيب: بأنّ حرف الواو لا يوجب الترتيب وأيضاً إذا حملنا السمع على الاستماع والأبصار على الرؤية زال السؤال ثم إنه تعالى ذكر دليلاً آخر على كمال قدررته وحكمته بقوله تعالى:
﴿ألم يروا إلى الطير مسخرات﴾ أي: مذللات للطيران ﴿في جوّ السماء﴾ أي: في الهواء بين الخافقين مما لا يقدرون عليه بوجه من الوجوه مع مشاركتكم لها في السمع والبصر وزيادتكم عليها بالعقول فعلم قطعاً أنه تعالى خلق الطير خلقة معها يمكنه الطيران فيها وإلا لما أمكن ذلك لأنه تعالى أعطى الطير جناحاً يبسطه مرة ويكسره مرّة أخرى مثل ما يعمل السابح في الماء، وخلق الجوّ خلقة لطيفة رقيقة يسهل خرقه والنفاذ فيه، ولولا ذلك لما كان الطيران ممكناً ومع ذلك ﴿ما يمسكهنّ﴾ في الجوّ عن الوقوع ﴿إلا الله﴾ أي: الملك الأعظم فإنّ جسد الطير جسم ثقيل، والجسم الثقيل يمتنع بقاؤه في الجوّ معلقاً من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه فوجب أن يكون الممسك له في ذلك الجوّ هو الله تعالى. وقرأ ابن عامر وحمزة بالتاء على أنه خطاب العامّة والباقون بالياء على الغيبة ﴿إنّ في ذلك﴾ المذكور ﴿لآيات﴾ أي: دلالات ﴿لقوم يؤمنون﴾ وخصهم بذلك لأنهم هم المنتفعون بها وإن كانت هذه الآيات آيات لكل العقلاء.
ثم ذكر تعالى نوعاً آخر من دلائل التوحيد بقوله تعالى: ﴿والله﴾ أي: الذي له الحكمة البالغة. ﴿جعل لكم من بيوتكم﴾ وأصل البيت المأوى ليلاً ثم اتسع فيه ﴿سكناً﴾ أي: موضعاً لتسكنوا فيه. تنبيه: البيوت التي يسكن الإنسان فيها على قسمين: أحدهما: البيوت المتخذة من الخشب والطين والآلات التي بها يمكن تسقيف البيوت، وإليها الإشارة بقوله تعالى: ﴿والله جعل لكم من بيوتكم سكناً﴾ وهذا القسم من البيوت لا يمكن نقلها، بل الإنسان ينتقل إليها. والقسم الثاني: القباب والخيام والفساطيط، وإليها الإشارة بقوله تعالى: ﴿وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً﴾ المتخذة من الأدم ويجوز أن يتناول المتخذة من الوبر والصوف والشعر فإنها من حيث أنها ثابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها ﴿تستخفونها﴾ أي: تتخذونها خفيفة يخف عليكم حملها ونقلها. ﴿يوم ظعنكم﴾ أي: وقت ترحالكم وعبر باليوم لأنّ الترحال في النهار ﴿ويوم إقامتكم﴾ أي: وقت الحضر أو وقت النزول وهذا القسم من البيوت يمكن نقلها وتحويلها من مكان إلى مكان. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح العين والباقون بالسكون، وأضاف قوله تعالى: ﴿ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها﴾ إلى ضمير الأنعام لأنها من جملتها. قال المفسرون وأهل اللغة: الأصواف للضأن والأوبار للإبل والأشعار للمعز. ﴿أثاثاً﴾ أي: ما يلبس ويفرش ﴿ومتاعاً﴾ أي: ما يتجر به، وقيل: الأثاث ما يكتسي به المرء ويستعمله في الغطاء والوطاء، والمتاع ما يفرش في المنازل ويتزين به واختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إلى حين﴾ فقيل: إلى حين تبلى، وقيل: إلى حين الموت، وقيل: إلى حين بعد حين، وقيل: إلى يوم القيامة.
تنبيه: في نصب أثاثاً وجهان: أحدهما: أنه منصوب عطفاً على بيوتاً، أي: وجعل لكم من أصوافها أثاثاً. والثاني: أنه منصوب على الحال، واعلم أنّ الإنسان إمّا أن يكون مقيماً أو مسافراً والمسافر إمّا أن يكون غنياً يستصحب معه الخيام أولا فالقسم الأوّل أشار إليه بقوله تعالى: ﴿جعل لكم من بيوتكم سكناً﴾
قال في ابنه إبراهيم عليه السلام: لو عاش لكان صديقاً نبياً وللبخاري نحوه عن البراء بن عازب. وللبخاري من حديث ابن أبي أوفى: «لو قضي أن يكون بعد محمد ﷺ نبي لعاش ابنه ولكن لا نبي بعده» وقال ابن عباس رضي الله عنه: يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ابناً يكون من بعده نبياً.
وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه: لما حكم أنه لا نبي بعده لم يعطه ولداً ذكراً يصير رجلاً. وقيل: من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وأهدى لهم، إذ هو كالوالد لولد ليس له غيره، والحاصل أنه لا يأتي بعده نبي مطلقاً بشرع جديد ولا يتجدد بعده مطلقاً استنباء، وهذه الآية مثبتة لكونه خاتماً على أبلغ وجه وأعظمه، وذلك أنها في سياق الإنكار بأن يكون بينه وبين أحد من رجالهم بنوة حقيقية أو مجازية، ولو كانت بعده لأحد لم يكن ذلك إلا لولده، ولأن فائدة إثبات النبي تتميم شيء لم يأت به من قبله. وقد حصل به ﷺ التمام، فلم يبق بعد ذلك مرام: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وأما تجديد ما وهي مما أحدث بعض الفسقة فالعلماء كافون فيه لوجود ما خص به ﷺ من هذا القرآن المعجز الذي من سمعه فكأنما سمعه من الله عز وجل؛ لوقوع التحقق والقطع بأنه لا يقدر غيره أن يقول شيئاً منه، فمهما حصل ذهول عن ذلك قرره من يريد الله تعالى من العلماء فيعود الاستبصار، كما روي في بعض الآثار: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» وأما إتيان عيسى عليه السلام بعد تجديد الهدى لجميع ما وهي من أركان المكارم فلأجل فتنة الدجال ثم طامة يأجوج ومأجوج ونحو ذلك مما لا يستقل بأعبائه غير نبي، وما أحسن قول حسان بن ثابت في مرثية لإبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم

*مضى ابنك محمود العواقب لم يشب بعيب ولم يذمم بقول ولا فعل*
*رأى أنه إن عاش ساواك في العلا فآثر أن تبقى وحيداً بلا مثل*
وقال الغزالي في آخر كتابه الاقتصاد: إن الأمة فهمت من هذا اللفظ ومن قرائن أحواله ﷺ أنه أفهم عدم نبي بعده أبداً، وعدم رسول بعده أبداً، وأنه ليس فيه تأويل ولا تخصيص. وقال: إن من أوله بتخصيص النبيين بأولي العزم من الرسل ونحو هذا فكلامه من أنواع الهذيان لا يمنع الحكم بتكفيره؛ لأنه مكذب لهذا النص الذي أجمعت الأمة على أنه غير مؤول ولا مخصوص انتهى.
وقد بان بهذا أن إتيان عيسى عليه السلام غير قادح في هذا النص، فإنه من أمته ﷺ المقررين لشريعته، وهو قد كان نبياً قبله لم يستجد له شيء لم يكن، فلم يكن ذلك قادحاً في الختم. وهو مثبت لشرف نبينا ﷺ إذ لولاه لما وجد، وذلك أنه لم يكن لنبي من الأنبياء شرف إلا وله ﷺ مثله أو أعلى منه، وقد كانت الأنبياء تأتي مقررة لشريعة موسى عليه السلام مجددة لها، فكان المقرر لشريعة نبينا ﷺ المتبع لملته من كان ناسخاً لشريعة موسى ﷺ وقرأ عاصم بفتح التاء والباقون بكسرها، فالفتح: اسم للآلة التي يختم بها كالطابع والقالب لما يطبع به ويقلب فيه، والكسر على أنه اسم فاعل. وقال بعضهم: هو بمعنى المفتوح يعني بمعنى آخرهم لأنه ختم النبيين فهو خاتمهم ﴿وكان الله﴾ أي: الذي له كل صفة كمال أزلاً وأبداً ﴿بكل شيء﴾ من
فقالوا: لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم أما والله لو قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس، ثم مكروا بامرأة من المسلمين فراودوها عن كشف وجهها فأبت، فعقدوا طرف ثوبها من تحت خمارها فلما قامت انكشف سوقها فصاحت، فغار لها شخص من الصحابة فقتل اليهودي الذي عقد ثوبها، فقتلوه فانتقض عهدهم فأنزل الله النبيّ ﷺ بساحتهم فأذلهم الله تعالى، ونزلوا من حصنهم على حكمه ﷺ وقد كانوا حلفاء ابن أبي، ولم يغن عنهم شيئاً غير أنه سأل النبيّ ﷺ في أن لا يقتلهم وألح عليه حتى كف عن قتلهم، فذهبوا عن المدينة الشريفة بأنفسهم من غير حشر لهم بالإلزام بالجلاء. ﴿ذاقوا وبال أمرهم﴾ أي: عقوبته في الدنيا من القتل وغيره ﴿ولهم عذاب أليم﴾ أي: مؤلم في الآخرة
مثلهم أيضاً في سماعهم من المنافقين وتخلفهم عنهم ﴿كمثل الشيطان﴾ أي: البعيد من كل خير لبعده من الله تعالى المحترق بعذابه، والشيطان هنا مثل المنافقين ﴿إذ قال للإنسان﴾ وهو هنا مثل اليهود ﴿اكفر﴾ أي: بالله بما زين له ووسوس إليه من اتباعه الشهوات القائم مقام الأمر
﴿فلما كفر﴾ أي: أوجد الإنسان الكفر على أيّ وجه. ودلت الفاء على إسراعه في متابعة تزيينه. ﴿قال﴾ أي: الشيطان الذي هو هنا عبارة عن المنافقين ﴿إني بريء منك﴾ أي: ليس بيني وبينك علاقة في شيء أصلاً ظناً منه أنّ هذه البراءة تنفعه شيئاً مما استوجبه المأمور بقبوله لآمره، وذلك مثل ضربه الله تعالى للمنافقين واليهود في انخذالهم وعدم الوفاء في نصرتهم.
وحذف حرف العطف ولم يقل وكمثل الشيطان لأنّ حذف العطف كثير. كقولك: أنت عاقل، أنت كريم، أنت عالم، وقوله ﴿كمثل الشيطان﴾ كالبيان لقوله تعالى: ﴿كمثل الذين من قبلهم﴾ روي عن النبيّ ﷺ «أنّ الإنسان الذي قال له الشيطان: راهب نزلت عنده امرأة أصابها لمم ليدعو لها، فزين له الشيطان فوطئها فحملت، ثم قتلها خوفاً من أن يفتضح فدل الشيطان قومها على موضعها، فجاؤوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه فجاءه الشيطان، فوعده إن سجد له أنجاه منهم فسجد له فتبرأ منه» وروى عطاء وغيره عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال: كان راهب يقال له: برصيصا تعبد في صومعة له سبعين سنة لم يعص الله تعالى فيها طرفة عين، وإن إبليس أعياه في أمره الحيل فجمع ذات يوم مردة الشياطين، فقال: ألا أجد فيكم من يكفيني برصيصا فقال له: الأبيض وهو صاحب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهو الذي تصدى للنبيّ ﷺ وجاءه في صورة جبريل عليه السلام ليوسوس إليه على وجه الوحي، فدفعه جبريل عليه السلام إلى أقصى أرض الهند، فقال الأبيض لإبليس: أنا أكفيك أمره فانطلق فتزيا بزيّ الرهبان، وحلق وسط رأسه، وأتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام مرّة ولا يفطر في كل عشرة أيام إلا مرة فلما رآه الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العباد في أصل صومعته فلما انفتل برصيصا اطلع من صومعته فرأى الأبيض قائماً يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان فلما رأى ذلك من حاله ندم على نفسه حين لم يجبه، فقال له: إنك حين ناديتني كنت مشتغلاً عنك فما حاجتك؟ قال: حاجتي أني أحببت أن أكون معك فأتأدب بأدبك، وأقتبس من علمك، ونجتمع على العبادة،


الصفحة التالية
Icon