من الله شيئاً قد بلغتك» قال المحققون: وفائدته أنه إذا جاء يوم القيامة وعلى رقبته ذلك المغلول ازدادت فضيحته. وعن ابن عباس أنه قال: يمثل له ذلك الشيء في قعر جهنم ثم يقال له: انزل إليه فخذه فينزل إليه فإذا انتهى إليه حمله على ظهره، فإذا بلغ موضعه وقع في النار ثم يكلف أن ينزل إليه فيخرجه ففعل ذلك به. وعن أبي هريرة: قتل لرسول الله ﷺ عبد فقال الناس: هنيئاً له الجنة، فقال رسول الله ﷺ «كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم تشتعل عليه ناراً» فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله ﷺ فقال رسول الله ﷺ «شراك من النار أو شراكان من نار» وقال أبو مسلم: ليس المقصود من الآية ظاهرها بل المقصود تشديد الوعيد على سبيل التمثيل كقوله تعالى: ﴿إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله﴾ (لقمان، ١٦)
فإنه ليس المقصود نفس هذا الظاهر بل المقصود إثبات أنّ الله تعالى لا يعزب عن علمه وعن حفظه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء فكذا ههنا المقصود تشديد الوعيد والمعنى أنّ الله تعالى يحفظ عليه هذا المغلول ويقرّره عليه يوم القيامة ويجازيه به؛ لأنه تعالى لا يخفى عليه خافية. وعن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله ﷺ رجلاً من أسد على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام النبيّ ﷺ على المنبر فقال: «ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي، فهلا جلس في بيت أمّه أو في بيت أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا فوالذي نفسي بيده لا يأخذ منها أحد شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تثغو» ثم رفع يديه حتى رؤيت عفرة إبطه ثم قال: «اللهمّ هل بلغت اللهمّ هل بلغت» ﴿ثم توفى كل نفس﴾ أي: تعطى جزاء ﴿ما كسبت﴾ أي: عملت وافياً الغال وغيره.
فإن قيل: هلا قيل: ثم يوفى أي: الغال ما كسب؟ أجيب: بأنه عم الحكم ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه فإنه إذا كان كل كاسب مجزياً بعمله فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى ﴿وهم لا يظلمون﴾ شيئاً فلا ينقص ثواب مطيعهم ولا يزاد في عقاب عاصيهم وقوله تعالى:
﴿أفمن اتبع رضوان الله﴾ الهمزة فيه للإنكار والفاء للعطف على محذوف والتقدير أفمن اتقى فاتبع رضوان الله ﴿كمن باء﴾ أي: رجع ﴿بسخط من الله﴾ بسبب المعاصي ﴿ومأواه جهنم وبئس المصير﴾ أي: المرجع هي أي: ليس مثله واختلف في المراد من هذه الآية، فقال الكلبي والضحاك: فمن اتبع رضوان الله في ترك الغلول كمن باء بسخط من الله في فعل الغلول، وقال الزجاج: لما حل المشركون على المسلمين دعا النبيّ ﷺ أصحابه إلى أن يحملوا على المشركين ففعله بعضهم وتركه آخرون فقوله: ﴿أفمن اتبع رضوان الله﴾ هم الذين امتثلوا أمره كمن باء بسخط من الله هم الذين لم يقبلوا قوله.
وقيل: ﴿أفمن اتبع رضوان الله﴾ بالإيمان به والعمل بطاعته كمن باء بسخط من الله بالكفر به والإشتغال بمعصيته، قال القاضي: وكل واحد من هذه الوجوه صحيح ولكن لا يجوز قصر اللفظ عليه؛ لأنّ اللفظ عام فيجب أن يتناول الكل وإن كانت الآية نزلت في واقعة معينة لكن عموم اللفظ لا يبطل
تعالى عنه: والإسرار أولى في الصلاة. وفي قول يجهر كما يفعل خارج الصلاة. ﴿بالله﴾ أي: سل الذي له الكمال كله أن يعيذك ﴿من الشيطان﴾ أي: المحترق باللعنة ﴿الرجيم﴾ أي: المطرود عن الرحمة من أن يصدّك بوساوسه عن اتباعه ويدخل في ذلك جميع المردة من الشياطين لأنّ لهم قدرة على إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم بإقدار الله تعالى على ذلك. وقيل: المراد إبليس خاصة والاستعاذة بالله تعالى هي الاعتصام به، والخطاب للنبيّ ﷺ ويدخل فيه غيره من أمّته وظاهر الآية وجوب الاستعاذة، وإليه ذهب عطاء سواء كانت القراءة في الصلاة أم في غيرها، واتفق سائر الفقهاء على أنها سنة في الصلاة وغيرها والصارف لهذا الأمر عن الوجوب أحاديث كثيرة منها القراءة بدون ذكر تعوّذ كحديث البخاري وغيره عن أبي سعيد بن العلاء رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ ﷺ قال: «ما منعك أن تجيبني؟ قال: كنت أصلي. قال ألم يقل الله: ﴿استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم﴾ (الأنفال، ٢٤)
ثم قال: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ ». وفي رواية الموطأ أنه ﷺ نادى أبيّاً وأنه قال له: «كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال: أبيّ: فقرأت ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ حتى أتيت إلى آخرها»، وظاهر الآية يدل على أنّ الاستعاذة بعد القراءة وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين وهو قول أبي هريرة وإليه ذهب مالك وداود الظاهريّ. قالوا: لأنّ قارئ القرآن يستحق ثواباً عظيماً وربما حصل الوسواس في قلب القارئ هل حصل له ذلك الثواب أو لا، فإذا استعاذ بعد القرءاة اندفعت تلك الوساوس وبقي الثواب مخلصاً والذي ذهب إليه الأكثرون من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة وفقهاء الأمصار أنّ الاستعاذة مقدّمة على القراءة قالوا: ومعنى الآية إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله وتبعتهم على ذلك فلهذا قدّرت ذلك في الآية الكريمة، ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم﴾ (المائدة، ٦)
ومثله من الكلام إذا أكلت فسمّ، ، أي: إذا أردت أن تأكل فقل: بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا سافرت فتأهب، أي: إذا أردت السفر فتأهب، وأيضاً الوسوسة إنما تحصل في أثناء القراءة فتقديم الاستعاذة على القراءة لتذهب الوسوسة عنه أولى من تأخيرها عن وقت الحاجة إليها. ولما أمر الله تعالى رسوله ﷺ بالاستعاذة من الشيطان، وكان ذلك يوهم أنّ للشيطان قدرة على التصرّف في إتيان الإنسان أزال الله تعالى ذلك الوهم وبيّن أنه لا قدرة له ألبتة إلا على الوسوسة بقوله تعالى:
﴿إنه ليس له سلطان﴾ أي: بحيث لا يقدر المسلط عليه على الانفكاك عنه. ﴿على الذين آمنوا﴾ أي: بتوفيق ربهم لهم. ﴿وعلى ربهم﴾ وحده ﴿يتوكلون﴾ أي: على أوليائه المؤمنين به والمتوكلين عليه، فإنهم لا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته. وعن سفيان الثوريّ قال: ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر لهم، ثم وصل تعالى بذلك ما أفهمه من أنّ له سلطاناً على غيرهم بقوله:
﴿إنما سلطانه﴾ أي: الذي يتمكن به غاية التمكن بإمكان الله تعالى له: ﴿على الذين يتولونه﴾ أي: يجيبونه ويطيعونه ﴿والذين هم به﴾ أي: بالله تعالى ﴿مشركون﴾ وقيل الضمير راجع إلى الشيطان والمعنى هم بسببه مشركون بالله. ولما كان المشركون إذا
دخول النار فلا يدخلونها.
الرابعة: في ناس دخلوا النار فيخرجون منها.
الخامسة: في رفع درجات ناس في الجنة وكلها ثبتت بالأخبار، وخص منها بالعظمى ودخول خلق من أمته الجنة بغير حساب وهي الثانية. قال النووي في روضته: ويجوز أن يكون خص بالثالثة والخامسة أيضاً، ونصر بالرعب مسيرة شهر، وجعلت له الأرض مسجداً وترابها طهوراً، وأحلت له الغنائم، وأرسل إلى الكافة ورسالة غيره خاصة، وأما عموم رسالة نوح عليه السلام بعد الطوفان فلانحصار الباقين فيمن كان معه في السفينة وهو أكثر الأنبياء أتباعاً، وأمته خير الأمم وأفضلها أصحابه، وأفضلهم الخلفاء الأربعة على ترتيبهم في الخلافة، ثم باقي العشرة. وهي معصومة لا تجتمع على ضلالة، وصفوفهم كصفوف الملائكة، ولها فضائل كثيرة على سائر الأمم. منها:
أنها أول من يدخل الجنة بعد الأنبياء عليهم السلام. ومنها: وضع الإصر، وليلة القدر والجمعة ورمضان على أحد قولين، ونظر الله تعالى إليهم ومغفرته لهم أول ليلة منه، وطيب خلوف فم صائمه عنده تعالى، واستغفار الملائكة عليهم السلام في ليله ونهاره، وأمر الله تعالى الجنة أن تتزين لهم، وردِّ صدقاتهم إلى فقرائهم، والغرة والتحجيل من أثر الوضوء، وسلسلة الإسناد والحفظ عن ظهر قلب، وأخذ العلم عن الأحداث والمشايخ.
وكتابه ﷺ معجز محفوظ من التغيير والتبديل، وأقيم بعده حجة على الناس، ومعجزات سائر الأنبياء انقرضت، وشريعته مؤبدة ناسخة لغيرها من الشرائع، وتطوعه قاعداً كقائم، ويحرم رفع الصوت فوق صوته، قال القرطبي: وكره بعضهم رفعه عند قبره ﷺ ولا تبطل صلاة من خاطبه بالسلام، وتجب إجابته في الصلاة ولو بالفعل ولا تبطل، ويحرم نداؤه من وراء الحجرات، ويحرم نداؤه باسمه كيا محمد ﷺ لا بكنيته كيا أبا القاسم، ويحرم التكني بكنيته مطلقاً. وقيل: مختص بزمنه. وقيل على من اسمه محمد، وكان يتبرك ويستشفى ببوله ودمه وفضلاته النازلة من الدبر لا ترى بخلافها من القبل. والذي صوبه بعض المتأخرين طهارتها وهو الصواب، وأولاد بناته ينسبون إليه. وأعطي جوامع الكلم.
وكان يؤخذ عن الدنيا عند تلقي الوحي ولا يسقط عنه التكليف، ورؤيته في النوم حق، ولا يعمل بها فيما يتعلق بالأحكام لعدم ضبط النائم، والكذب عمداً عليه كبيرة، ولا يجوز الجنون على الأنبياء ولا الاحتلام ولا تأكل الأرض لحومهم. وفي هذا القدر كفاية. ومن أراد الزيادة على ذلك فعليه بكتب الخصائص، فإن العلماء قد صنفوا في ذلك تصانيف، وأنا أسأل الله تعالى من فضله وكرمه أن يشفعه فينا ويدخلنا معه الجنة، ويفعل ذلك بأهلينا ومشايخنا وإخواننا ومحبينا ولا يحرمنا زيارته ولا رؤيته قبل الممات.
ولما كان التخصيص لا يصح ولا يتصور إلا من محيط العلم بأن هذا الأمر ما كان لغير المخصوص تام القدرة لمنع غيره من ذلك قال تعالى: ﴿قد﴾ أي: أخبرناك بأن هذا أمر يخصك غيرهم لا ناقد ﴿علمنا ما فرضنا﴾ أي: قدرنا بعظمتنا ﴿عليهم﴾ أي: على المؤمنين ﴿في أزواجهم﴾ أي: من شرائط العقد، وأنهم لا تحل لهم امرأة بلفظ الهبة منها، ولا بدون مهر ولا بدون ولي وشهود، وهذا عام لجميع المؤمنين المتقدمين والمتأخرين ﴿و﴾ في ﴿ما ملكت أيمانهم﴾ من الإماء بشراء وغيره بأن تكون الأمة ممن تحل لمالكها كالكتابية بخلاف المجوسية والوثنية، وأن تستبرأ قبل الوطء، وقيل:
من فاعل كفروا. وقوله تعالى: ﴿وآياكم﴾ عطف على الرسول وقدم عليهم تشريفاً له ﷺ وقوله تعالى: ﴿أن تؤمنوا﴾ أي: توقعوا حقيقة الإيمان مع التجدّد والاستمرار ﴿بالله﴾ أي: الذي اختص بجميع صفات الكمال ﴿ربكم﴾ أي: المحسن إليكم تعليل ليخرجون، والمعنى: يخرجون الرسول ويخرجونكم من مكة لأن تؤمنوا بالله، أي: لأجل إيمانكم بالله.
قال ابن عباس: وكان حاطب ممن أخرج مع النبي ﷺ وفي ذلك تغليب المخاطب والإلتفات من التكلم إلى الغيبة للدلالة على ما يوجب الإيمان ﴿إن كنتم خرجتم﴾ أي: عن أوطانكم، وقوله تعالى: ﴿جهاداً في سبيلي﴾ أي: بسبب إرادتكم تسهيل طريقي التي شرعتها لعبادي أن يسلكوها ﴿وابتغاء مرضاتي﴾ أي: ولأجل تطلبكم أعظم الرغبة لرضاي علة للخروج، وعمدة للتعليق، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه لا تتخذوا. وقرأ الكسائي بالإمالة محضة، والباقون بالفتح. وقوله تعالى: ﴿تسرون﴾ أي: توجدون جميع ما يدل على مناصحتكم إياهم والتودّد ﴿إليهم بالمودّة﴾ أي: بسببها بدل من تلقون قاله ابن عطية. قال ابن عادل: ويشبه أن يكون بدل اشتمال لأنّ القاء المودّة يكون سرّاً وجهراً، أو استئناف واقتصر عليه الزمخشري ﴿وأنا﴾ أي: والحال أني ﴿أعلم﴾ أي: من كل أحد حتى من نفس الفاعل، وقرأ نافع بمدّ الألف بعد النون ﴿بما أخفيتم وما أعلنتم﴾ قال ابن عباس: بما أخفيتم قي صدوركم وما أظهرتم بألسنتكم، أي: فأي فائدة لأسراركم إن كنتم تعلمون أني عالم به، وإن كنتم تتوهمون أني لا أعلمه فهي القاصمة ﴿ومن يفعله﴾ أي: يوجد أسرار خبر إليهم ويكاتبهم ﴿منكم﴾ أي: في وقت من الأوقات ﴿فقد ضلّ﴾ أي: عمي ومال وأخطأ ﴿سواء السبيل﴾ أي: قويم الطريق الواسع الموصل إلى القصد قويمه وعدله. قال القرطبي: هذا كله معاتبة لحاطب، وهو يدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله ﷺ وصدق إيمانه فإنّ المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيب، كما قال القائل:
*إذا ذهب العتاب فليس ودّ | ويبقى الودّ ما بقي العتاب* |
﴿إن يثقفوكم﴾ أي: يظفروا بكم في وقت من الأوقات ومكان من الأماكن ﴿يكونوا لكم أعداء﴾ أي: ولا ينفعكم القاء المودّة إليهم ﴿ويبسطون إليكم﴾ أي: خاصة، وإن كان هناك في ذلك الوقت من غير من قتل أعز الناس عليهم ﴿أيديهم﴾ أي: بالضرب أن استطاعوا ﴿وألسنتهم﴾ أي: بالشتم مضمومة إلى فعل أيديهم فعل من ضاق صدره بما تجرّع من آخر من الغصص حتى أوجب له غاية السفه ﴿بالسوء﴾ أي: بكل ما من شأنه أن يسوء ﴿وودّوا﴾ أي: تمنوا قبل هذا ﴿لو تكفرون﴾ لأنّ مصيبة الدين أعظم فهو إليها أسرع، لأنّ دأب العدوّ القصد إلى أعظم ضرر يراه لعدوّه، وعبر بما يفهم التمني الذي يكون في المحالات ليكون المعنى أنهم أحبوا ذلك غاية الحب وتمنوه، وفيه بشرى بأنه من قبيل المحال، وقدم الأوّل لأنه أبين في العداوة وإن كان الثاني أنكى.
ولما كانت عداوتهم معروفة، وإنما غطاها محبة القرابات لأنّ الحب للشيء يعمي ويصم فخطأ رأيهم في موالاتهم بما أعلمهم به من حالهم، فقال تعالى مستأنفاً إعلاماً بأنها خطأ على كل حال.