﴿يرزقون﴾ من ثمار الجنة.
روى ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال: «أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش».
وروي أنّ الله تعالى يطلع عليهم ويقول: سلوني ما شئتم فيقولون: يا رب كيف نسألك ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا؟ فلما رأوا أن لا يتركوا من أن يسألوا شيئاً قالوا: نسألك أن تردّ أرواحنا إلى أجسادنا في الدنيا نقتل في سبيلك لما رأوا من النعيم، كما قال تعالى:
﴿فرحين بما آتاهم الله من فضله﴾ وهو شرف الشهادة والفوز بالحياة الأبدية والقرب من الله والتمتع بنعيم الجنة ﴿ويستبشرون﴾ أي: ويفرحون ﴿بالذين لم يلحقوا بهم﴾ من إخوانهم الذين تركوهم أحياء في الدنيا على مناهج الإيمان والجهاد لعلمهم أنهم إذا استشهدوا لحقوا بهم ونالوا من الكرامة ما نالوا فلذلك يستبشرون ﴿من خلفهم﴾ أي: الذين من خلفهم زماناً أو رتبة وأبدل من الذين ﴿أن﴾ أي: بأن ﴿لا خوف عليهم﴾ أي: الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ﴿ولا هم يحزنون﴾ في الآخرة والمعنى: إنهم يستبشرون بما تبين لهم من أمر الآخرة وحال من تركوا خلفهم من المؤمنين وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة لا يكدّرون بخوف وقوع محذور ولا بحزن فوات محبوب وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على ازدياد الطاعة والجدّ في الجهاد والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم وإحماد لحال من يرى نفسه في خير فيتمنى مثله لإخوانه؛ لأنّ الله تعالى مدحهم على ذلك.
﴿يستبشرن بنعمة من الله وفضل﴾ لما بين تعالى أنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم بين هنا أنهم يستبشرون لأنفسهم بما رزقوا من النعيم لذلك أعاد لفظ الإستبشار.
فإن قيل: أليس ذكر فرحهم بأحوال أنفسهم والفرح عين الإستبشار فلزم التكرار؟ أجيب: بأن الإستبشار هو الفرح التامّ فلا يلزم التكرار بأنّ المراد حصول الفرح بما حصل في الحال وحصول الإستبشار بما عرفوا أن النعمة العظيمة تحصل لهم في الآخرة والفرق بين النعمة والفضل أن النعمة هي الثواب والفضل هو التفضل الزائد.
فإن قيل: لم قال يستبشرون من غير عطف؟ أجيب: بأنه تأكيد للأوّل؛ لأنه قصد بالنعمة والفضل بيان متعلق الإستبشار الأول ﴿وأنّ الله لا يضيع أجر المؤمنين﴾ لما ذكر إيصال الثواب العظيم إلى الشهداء بين أنّ ذلك ليس مخصوصاً بهم بل كل مؤمن يستحق شيئاً من الأجر والثواب، فإنّ الله تعالى يوصل ثوابه إليه ولا يضيعه وقوله تعالى:
﴿الذين استجابوا والرسول﴾ أي: دعاءه مبتدأ ﴿من بعد ما أصابهم القرح﴾ بأحد وخبر المبتدأ ﴿للذين أحسنوا منهم﴾ بطاعته ﴿واتقوا﴾ مخالفته ﴿أجر عظيم﴾ هو الجنة.
روي أنّ أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوّة فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان وقال: «لا يخرجنّ معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس فخرج ﷺ مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد» وهي من المدينة على ثمانية أميال وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر.
كقولهم: هؤلاء الذين أضلونا وما كنا مشركين. ﴿وتوفى كل نفس﴾ صالحة أو غير صالحة ﴿ما عملت﴾ أي: جزاءه من جنسه ﴿وهم لا يظلمون﴾ أي: شيئاً. ولما هدّد تعالى الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة هدّدهم أيضاً بآفات الدنيا وهي الوقوع في الجوع والخوف بقوله تعالى:
﴿وضرب الله﴾ أي: المحيط بكل شيء ﴿مثلاً﴾ ويبدل منه ﴿قرية﴾ هي مكة والمراد أهلها ﴿كانت آمنة﴾ أي: ذات أمن ويأمن بها أهلها في زمن الخوف، قال تعالى: ﴿أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم﴾ (العنكبوت، ٦٧)
والأمن في مكة كان كذلك، لأنّ العرب كان يغير بعضهم على بعض دون أهل مكة فإنهم كانوا أهل حرم الله والعرب كانوا يحترمونهم ويخصونهم بالتعظيم والتكريم. ﴿مطمئنة﴾ أي: قارة بأهلها لا يحتاجون فيها إلى نجعة وانتقال، بسبب زيادة الأمن بكثرة العدد وقوّة المدد وكف الله تعالى الناس عنها ووجود ما يحتاج إليه أهلها. فإن قيل: الاطمئنان هو الأمن فيلزم التكرار؟ أجيب: بأنّ قوله تعالى: ﴿آمنة﴾ إشارة إلى الأمن وقوله تعالى: ﴿مطمئنة﴾ أي: لا يحتاجون فيها إلى نجعة كما مرّ، وقيل: أشار تعالى بذلك إلى الصحة لأنّ هواء ذلك البلد كان ملائماً لأمزجتهم فلذلك اطمأنوا إليه واستقرّوا. قالت العقلاء: ثلاثة ليس لها نهاية الأمن والصحة والكفاية. ﴿يأتيها﴾ أي: على سبيل التجدّد والاستمرار ﴿رزقها رغداً﴾ أي: واسعاً طيباً ﴿من كل مكان﴾ برّ وبحر بتيسير الله تعالى. ولما كانت السعة تجر إلى البطر غالباً نبه تعالى على ذلك بقوله تعالى: ﴿فكفرت بأنعم الله﴾ أي: الذي له الكمال كله وأنعم جمع نعمة. قال الزمخشري: على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع. وقال قطرب: هي جمع نعم والنعم النعمة، يقال: هذه أيام نعم وطعم فلا تصوموا، وقيل: جمع نعماء مثل بأساء وأبؤس. فإن قيل: الأنعم جمع قلة فكأنّ تلك القرية كفرت بأنواع قليلة من نعم الله فعذبها الله تعالى فلم لم يقل تعالى: كفروا بنعم عظيمة فاستوجبوا العذاب؟ أجيب: بأنّ المقصود التنبيه بالأدنى على الأعلى فإن كفران النعم القليلة لما أوجب العذاب فبكفران النعم الكثيرة أولى وبأنّ الله تعالى أنعم عليهم بالنعمة العظيمة وهو محمد ﷺ فكفروا به وبالغوا في إيذائه. ﴿فأذاقها الله﴾ أي: المحيط بكل شيء ﴿لباس الجوع﴾ بعد رغد العيش سبع سنين وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله ﷺ حتى جهدوا وأكلوا العظام المحرقة والجيف والكلاب الميتة، وقيل: إنّ القرية غير مكة لأنها ضربت مثلاً لمكة ومثل مكة
يكون غير مكة. ﴿والخوف﴾ بسرايا النبيّ ﷺ تنبيه: استعير الذوق لإدراك أثر الضرر واللباس لما غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والحوف وأوقع الإذاقة عليه بالنظر إلى المستعار له كقول كثير عزة:

*غمر الرداء إذا تبسم ضاحكاً غلقت لضحكته رقاب المال
فإنه استعار الرداء للمعروف لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه وأضاف إليه الغمر الذي هو وصف المعروف والنوال لا وصف الرداء نظراً إلى المستعار له ولو نظر إلى المستعار لقال: ضافي الرداء، أي: سابغه ومعنى البيت إذا ضحك المسؤول ضحكة أيقن السائل بذلك التبسم استرقاق رقاب ماله وأنه يعطي بلا خلاف وقد ينظر إلى المستعار له كقوله:
تعالى:
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي: ادعوا الإيمان صدقوا دعواكم فيه بأن ﴿لا تدخلوا بيوت النبي﴾ أي: الذي تأتيه الأنباء من علام الغيوب مما فيه رفعته في حال من الأحوال أصلاً ﴿إلا﴾ في حال ﴿أن يؤذن لكم﴾ أي: ممن له الإذن في بيوته ﷺ منه، أو ممن يأذن له في الدخول بالدعاء ﴿إلى طعام﴾ أي: أكله حال كونكم ﴿غير ناظرين﴾ أي: منتظرين ﴿أناه﴾ أي: نضجه وهو مصدر أنى يأني، وقرأ هشام وحمزة والكسائي بالإمالة وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح.
ولما كان هذا الدخول بالإذن مطلقاً وكان يراد تقييده قال تعالى: ﴿ولكن إذا دعيتم﴾ أي: ممن له الدعوة ﴿فادخلوا﴾ أي: لأجل ما دعاكم له ثم تسبب عنه قوله تعالى: ﴿فإذا طعمتم﴾ أي: أكلتم طعاماً أو شربتم شراباً ﴿فانتشروا﴾ أي: اذهبوا حيث شئتم في الحال ولا تمكثوا بعد الأكل أو الشرب لا مستريحين لقرار الطعام ﴿ولا مستأنسين لحديث﴾ أي: طالبين الأنس لأجله.
فائدة: قال الحسن: حسبك بالثقلاء أن الله لم يتجوز في أمورهم، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: حسبك بالثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم.
ثم علل ذلك بقوله تعالى: مصوباً الخطاب إلى جميعهم معظماً له بأداة البعد ﴿إن ذلكم﴾ أي: الأمر الشديد وهو المكث بعد الفراغ ﴿كان يؤذي النبي﴾ أي: الذي هيأناه لسماع ما ننبئه به مما يكون سبب شرفكم وعلوكم في الدارين، فاحذروا أن تشغلوه عن شيء منه، ثم تسبب عن ذلك المانع له من مواجهتهم له بما يزيد أذاه بقوله تعالى: ﴿فيستحيي منكم﴾ أي: بأن يأمركم بالانصراف ﴿والله﴾ أي: الذي له جميع الأمر ﴿لا يستحيي من الحق﴾ أي: لا يفعل فعل المستحيي فيؤدّيه ذلك إلى ترك الأمر به.
تنبيه: قال أكثر المفسرين: نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب حين بنى بها رسول الله ﷺ لما روى ابن شهاب قال: أخبرني أنس بن مالك: «أنه كان ابن عشر سنين فقدم رسول الله ﷺ المدينة قال: فكانت أمهاتي توطنني على خدمة النبي ﷺ فخدمته عشر سنين وتوفي وأنا ابن عشرين سنة، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل، وكان أول ما أنزل في بناء رسول الله ﷺ بزينب بنت جحش أصبح النبي ﷺ بها عروساً فدعا القوم وأصابوا من الطعام ثم خرجوا، وبقي رهط منهم عند النبي ﷺ فأطالوا المكث فقام النبي ﷺ فخرج وخرجت معه لكي يخرجوا فمشى النبي ﷺ ومشيت حتى جاء عتبة حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها، ثم ظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يخرجوا فرجع النبي ﷺ ورجعت معه حتى إذا بلغ حجرة عائشة فظن أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا فضرب النبي ﷺ بيني وبينه الستر ونزلت آية الحجاب، وقال أبو عثمان: واسمه الجعد عن أنس قال: فدخل يعني رسول الله ﷺ البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة وهو يقول ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم﴾ إلى قوله تعالى ﴿والله لا يستحيي من الحق﴾.
وروي عن ابن عباس: «أنها نزلت في ناس من المسلمين كانوا يتحينون طعام رسول الله ﷺ فيدخلون عليه قبل الطعام إلى
عليه وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله تعالى: ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين﴾. ﴿ولم يخرجوكم من دياركم أن﴾ أي: لا ينهاكم عن أن ﴿تبروهم﴾ بنوع من أنواع البرّ الظاهرة، فإنّ ذلك غير صريح في قصد المودّة ﴿وتقسطوا إليهم﴾ أي: تعطوهم قسطاً من أموالكم على وجه الصلة قال ابن العربي: وليس يريد به من العدل، فإنّ العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل وحكي أن القاضي إسماعيل بن إسحاق دخل عليه ذمي فأكرمه فأخذ عليه الحاضرون في ذلك فتلا عليهم هذه الآية ﴿إن الله﴾ أي: الذي له الكمال كله ﴿يحب﴾ أي: يثيب ﴿المقسطين﴾ أي: الذين يزيلون الجور، ويوقعون العدل.
﴿إنما ينهاكم الله﴾ أي: الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة ﴿عن الذين قاتلوكم﴾ أي: جاهدوكم متعمدين لقتالكم ﴿في الدين﴾ أي: عليه فليس شيء من ذلك خارجاً عنه ﴿وأخرجوكم من دياركم﴾ أي بأنفسهم لبغضكم، وهم عتاة أهل مكة ﴿وظاهروا﴾ أي: عاونوا غيرهم ﴿على إخراجكم﴾ وهم مشركوا مكة. وقوله تعالى: ﴿أن تولوهم﴾ بدل اشتمال من الذين أي: تتخذوهم أولياء. وقرأ البزي بتشديد التاء، والباقون بالتخفيف.
ولما كان التقدير فمن أطاع فأولئك هم المفلحون عطف عليه قوله تعالى: ﴿ومن يتولهم﴾ أي: يكلف نفسه الحمل على غير ما تدعو إليه الفطرة الأولى من المنابزة، وأطلق ولم يقيد بمنكم ليعم المهاجرين وغيرهم، والمؤمنين وغيرهم ﴿فأولئك﴾ أي: الذين أبعدوا عن العدل ﴿هم الظالمون﴾ أي: الغريقون في إيقاع الأشياء في غير مواضعها.
ولما أمر المسلمين بترك موالاة المشركين اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة فبين أحكام مهاجرة النساء بقوله تعالى:
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي: أقرّوا بالإيمان ﴿إذا جاءكم المؤمنات﴾ أي: بأنفسهن ﴿مهاجرات﴾ أي: من الكفار بعد الصلح معهم في الحديبية ﴿فامتحنوهنّ﴾ أي: بالحلف أنهنّ ما هاجرن إلا رغبة في الإسلام، لا بغضاً في أزواجهن الكفار، ولا عشقاً لرجال من المسلمين. كذا كان رسول الله ﷺ يحلفهنّ.
قيل: إنّ سبب الامتحان أنه كان من أرادت منهنّ إضرار زوجها قالت: سأهاجر إلى رسول الله ﷺ فلذلك أمر النبيّ ﷺ بامتحانهنّ ﴿الله﴾ أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿أعلم﴾ أي: منكم ومن أنفسهنّ ﴿بإيمانهنّ﴾ هل هو كائن، أم لا على وجه الرسوخ، أم لا فإنه المحيط بما غاب كإحاطته بما شوهد، وإنما وكل الأمر إليكم في ذلك ستراً للناس ﴿فإن علمتموهنّ مؤمنات﴾ أي: العلم الممكن لكم، وهو الظنّ المؤكد بالإمارات الظاهرات بالحلف وغيره ﴿فلا ترجعوهنّ﴾ أي: بوجه من الوجوه ﴿إلى الكفار﴾ وإن كانوا أزواجاً. قال ابن عباس: لما جرى الصلح مع مشركي قريش عام الحديبية على أنّ من أتاه من أهل مكة ردّه إليهم جاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب، والنبيّ ﷺ بالحديبية بعد فأقبل زوجها وكان كافراً وكان صيفي بن الراهب، وقيل: مسافر المخزومي فقال: يا محمد أردد علي امرأتي فأنت شرطت ذلك، وهذه طية الكتاب لم تجف بعد فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروي «أنّ أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط جاءت للنبي ﷺ فجاء أهلها


الصفحة التالية
Icon