من الأعيان فإن كان أحد العوضين ناضاً تعين من حيث أنه لا يطلب لعينه أن يكون ثمناً وبذله اشتراء وإلا فالثمن ما دخلت عليه الباء فباذله مشتر وآخذه بائع ثم اتسع فيه فاستعمل للرغبة عن الشيء طمعاً في غيره، والمعنى أنهم أخلوا بالهدى الذي جعله الله لهم بالفطرة التي فطر الناس عليها محصلين الضلالة التي ذهبوا إليها واختاروا الضلالة واستحبوها على الهدى، وأمال ألف الهدى حمزة والكسائي محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح ﴿فما ربحت تجارتهم﴾ أي: ما ربحوا فيها. والتجارة: التصرف بالبيع والشراء، والربح الفضل على رأس المال، وإسناده إلى التجارة وهو لأربابها على سبيل الاتساع لتلبسها بالفاعل أو لمشابهتها إياه من حيث أنها سبب للربح والخسران واتفق القرّاء على إدغام التاء في التاء وكذا كل مثلين الأوّل منهما ساكن ﴿وما كانوا مهتدين﴾ لطرق التجارة فإنّ المقصود منها سلامة رأس المال والربح وهؤلاء قد أضاعوا الأمرين لأنّ رأس مالهم كان الفطرة السليمة والعقل الصرف فلما اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعداهم واختل عقلهم ولم يبق لهم رأس مال يتوصلون به إلى إدراك الحق ونيل الكمال فبقوا خاسرين آيسين عن الربح فاقدين للأصل.
﴿مثلهم﴾ أي: شبههم وصفتهم في نفاقهم ﴿كمثل الذي﴾ بمعنى الذين بدليل سياق الآية ونظيره ﴿والذي جاء بالصدق وصدّق به أولئك هم المتقون﴾ (الزمر، ٣٣)، وقوله تعالى: ﴿وخضتم كالذي خاضوا﴾ (التوبة، ٦٩) أو قصد به جنس المستوقد أو الفوج الذي ﴿استوقد﴾ أي: أوقد ﴿ناراً﴾ في ظلمة لما جاء بحقيقة حالهم عقبها بضرب المثل وهو بيان تصوير تلك الحقيقة وإبرازها في معرض المشاهد المحسوس زيادة في التوضيح والتقرير فإنه أوقع في القلب وأقمع للخصم، قال البيضاوي: والاستيقاد طلب الوقود والسعي في تحصيله وهو سطوع النار وارتفاع لهبها. اه. والأكثر على أنّ استوقد هنا بمعنى أوقد كما قدرته لا بمعنى طلب الوقود ﴿فلما أضاءت﴾ أي: أنارت النار، وأضاء لازم ومتعدّ، يقال: أضاء الشيء بنفسه وأضاءه غيره ﴿ما حوله﴾ أي: المستوقد فأبصر واستدفأ وأمن ما يخافه ﴿ذهب الله بنورهم﴾ أي: أطفأه وهذا جواب لما وإسناد الإذهاب إلى الله تعالى، إما لأن الكل بفعله أو لأن الإطفاء حصل بسبب خفيّ أو أمر سماوي كريح أو مطر أو للمبالغة ولذلك عدي الفعل بالباء دون الهمزة لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك، يقال: ذهب السلطان بماله إذا أخذه وأمسكه وما أخذه الله تعالى وأمسكه فلا مرسل له ولذلك عدل عن الضوء الذي هو مقتضى اللفظ إلى النور فإنه لو قيل: ذهب الله بضوئهم احتمل ذهابه بما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نوراً، والغرض إزالة النور عنهم رأساً ألا ترى كيف قرّر ذلك وأكده بقوله تعالى: ﴿وتركهم في ظلمات لا يبصرون﴾ ما حولهم متحيرين عن الطريق خائفين فذكر الظلمة التي هي عدم النور وانطماسه بالكلية، وكيف جمع الظلمة، وكيف نكرها، وكيف أتبعها بما يدل على أنها ظلمة خالصة وهو قوله: ﴿لا يبصرون﴾ وظلماتهم: ظلمة الكفر؛ وظلمة النفاق؛ وظلمة يوم القيامة يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبإيمانهم، أو ظلمة الضلال؛ وظلمة سخط الله؛ وظلمة العقاب السرمدي، أو ظلمة
شديدة كأنها ظلمات متراكمة، والآية وهي قوله: ﴿مثلهم﴾ إلخ مثل ضربه الله لإيمان المنافقين من
أي: في النسب لا في الدين ﴿صالح﴾ بصيغة العرض تأدباً معهم وتلطفاً بهم كقول من تقدم قبله ﴿ألا تتقون﴾ الله، ثم علل ذلك بقوله:
﴿إني لكم رسول﴾ من رب العالمين فلذلك عرضت عليكم هذا لأني مأمور بذلك ﴿أمين﴾ في جميع ما أرسلت به إليكم من خالقكم الذي لا أحد أرحم منه بكم، ثم تسبب عن قوله: ﴿إني لكم رسول﴾ قوله:
﴿فاتقوا الله﴾ أي: الذي له الغنى المطلق ﴿وأطيعون﴾ فيما أتيت به من عند الله، ثم نفى عنه ما فديتموهم ممن لا عقل له بقوله:
﴿وما أسألكم عليه﴾ أي: ما جئتكم به، وأغرق في النفي بقوله ﴿من أجر﴾ ثم زاد في تأكيد هذا النفي بقوله: ﴿إن﴾ أي: ما ﴿أجري﴾ على أحد ﴿إلا على رب العالمين﴾ فهو المتفضل المنعم على خلقه، ثم شرع ينكر عليهم أكل خيره وعبادة غيره بقوله:
﴿أتتركون﴾ أي: من أيدى النوائب التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى ﴿في ما ههنا﴾ أي: في بلادكم هذه من النعم حالة كونكم ﴿آمنين﴾ لا تخافون وأنتم تبارزون الملك القهار بالعظائم.
فائدة: تكتب في ما ههنا في مقطوعة عن ما، ثم فسر ما أجمله بقوله:
﴿في جنات﴾ أي: بساتين تستر الداخل فيها وتخفيه لكثرة أشجارها ﴿وعيون﴾ تسقيها من مالها من البهجة وغير ذلك من المنافع.
﴿وزروع﴾ أي: من سائر الأنواع ﴿ونخل طلعها﴾ أي: ما يطلع منها من الثمر ﴿هضيم﴾ قال ابن عباس: هو اللطيف، ومنه قوله: كشح هضيم، وقيل: هو الجواد الكريم من قولهم: يد هضوم إذا كانت تجود بما لديها، وقال أهل المعاني هو المنضم بعضه إلى بعض في وعائه قبل أن يظهر، والطلع: عنقود الثمر قبل خروجه من الكمّ، وقال الزمخشري: الطلع هو الذي يطلع من النخلة كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو والقنوهر اسم للخارج من الجذع كما هو بعرجونه.
فإن قيل: لم قال ونخل بعد قوله: ﴿في جنات﴾ والجنة تتناول النخل أول شيء كما يتناول النعم الإبل كذلك من بين الأزواج حتى إنهم ليذكرون الجنة ولا يقصدون إلا النخيل كما يذكرون النعم ولا يريدون إلا الإبل قال زهير:
*تسقى جنة سحقاً*
وسحقاً: جمع سحوق، ولا يوصف به إلا النخل؟ أجيب: بوجهين: أحدهما: أنه خص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر الشجر تنبيهاً على انفراده عنها بفضله عليها، الثاني: أن يريد بالجنات غيرها من الشجر لأنّ اللفظ يصلح لذلك ثم يعطف عليها النخل، ولما ذكر ما أنعم الله تعالى به عليهم أتبعه أفعالهم الخبيثة بقوله:
﴿وتنحتون﴾ أي: والحال أنكم تنحتون إظهاراً للقدرة ﴿من الجبال﴾ وقرأ ﴿بيوتاً﴾ ورش وأبو عمرو وحفص بضم الباء، والباقون بكسرها، وقرأ ﴿فرهين﴾ ابن عامر والكوفيون بألف بعد الفاء، أي: حاذقين، وقرأ الباقون بغير ألف، أي: بطرين لا لحاجتكم إلى شيء من ذلك.
﴿فاتقوا﴾ أي: فتسبب عن ذلك. أني أقول لكم اتقوا ﴿الله﴾ الذي له جميع العظمة بأن تجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية باتباع أوامره واجتناب زواجره ﴿وأطيعون﴾ أي: في كل ما أمرتكم به عنه فإني لا آمركم إلا بما يصلحكم.
﴿ولا تطيعوا أمر المسرفين﴾ أي: المجاوزين للحدود، وقال ابن عباس: المشركين، وقال مقاتل: هم التسعة الذين عقروا الناقة.
تنبيه: استعير الطاعة التي هي انقياد للآمر لامتثال الأمر، أو جعل الأمر مطاعاً على المجاز الحكمي والمراد الآمر، ومنه قولهم: لك على أمرة مطاعة وقوله تعالى: ﴿وأطيعوا أمري﴾ (طه: ٩٠)
لعارض وقرأ ابن كثير: بقصر الهمزة والباقون: بمدّها وهما لغتان ﴿وأنهار من لبن﴾ ولما كان التغير غير محمود قال تعالى: ﴿لم يتغير طعمه﴾ أي: بنفسه عن أصل خلقته وإن أقام مدى الدهر بخلاف لبن الدنيا، لخروجه من الضرع وهذا يفهم: أنهم لو أرادوا تغييره لشهوة اشتهوها تغير. وأنه مع طيبه على أنواع كثيرة، كما كان في الدنيا متنوعاً ﴿وأنهار من خمر﴾ ولما كان الخمر يكره طعمها وإنما يشربها شاربوها لأثرها. وإنه متى تغير طعمها زال اسمها عرّف أنّ كل ما في خمر الجنة في غاية الحسن، غير متعرّض لطعم فقال تعالى: ﴿لذة﴾ أي: لذيذة ﴿للشاربين﴾ في طيب الطعم، وحسن العاقبة بخلاف خمر الدنيا فإنها كريهة عند الشرب ﴿وأنهار من عسل﴾ ولما كان عسل الدنيا لا يوجد إلا مخلوطاً، لخروجه من بطون النحل بالشمع، وغيره من القذى قال تعالى:
﴿مصفى﴾ أي: هو صاف صفاء ما اجتهد في تصفيته من ذلك وهذا الوصف ثابت له دائماً لا انفكاك له في وقت ما.
تنبيه: قال أبو حيان في حكمة ترتيب هذه الأنهار: إنه بدأ بالماء الذي لا تستغني عنه المشروبات، ثم باللبن إذ كان يجري مجرى المطعومات في كثير من أوقات العرب، ثم بالخمر لأنه إذا حصل الريّ والمطعم، تشوّقت النفس إلى ما تلتذ به، ثم بالعسل لأنّ فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المطعوم والمشروب، ا. هـ. فإن قيل ما الحكمة في قوله تعالى في الخمر: ﴿لذة للشاربين﴾ ولم يقل في اللبن لم يتغير طعمه للطاعمين، ولا قال في العسل مصفى للناظرين. أجاب الرازي: بأنّ اللذة تختلف باختلاف الأشخاص فرب طعام يلتذ به شخص، ويعافه الآخر. فقال: لذة للشاربين بأسرهم، ولأنّ الخمر كريهة الطعم في الدنيا فقال: لذة أي: لا يكون في خمر الآخرة كراهة الطعم. وأمّا الطعم واللون فلا يختلف باختلاف الناس، فإنّ الحلو والحامض وغيرهما يدركه كل أحد لكن قد يعافه بعض الناس، ويلتذ به البعض مع اتفاقهم على أنّ له طعماً واحداً. وكذلك اللبن فلم يكن للتصريح بالتعميم حاجة.
فائدة: روي عن كعب الأحبار أنه قال: نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ونهر الفرات نهر لبنهم ونهر مصر نهر خمرهم ونهر سيحان وجيجان نهر عسلهم وهذه الأنهار الأربعة، تخرج من نهر الكوثر وقال ابن عبد الحكم في فتوح مصر: إن كعب الأحبار سئل هل تجد لهذا النيل في كتاب الله عز وجلّ خبراً فقال أي: والذي فلق البحر لموسى إني أجده في كتاب الله تعالى أنّ الله عز وجلّ يوحي إليه في كل عام مرتين يوحى إليه عند جريه أنّ الله يأمرك أن تجري فيجري ما كتب الله تعالى له ثم يوحى إليه بعد ذلك يا نيل غر حميداً وعن كعب أيضاً أنه قال: أربعة أنهر من الجنة، وضعها الله تعالى في الدنيا فالنيل: نهر العسل في الجنة، والفرات: نهر الخمر في الجنة، وسيحان: نهر الماء في الجنة، وجيجان: نهر اللبن في الجنة» وعنه أيضاً أنه قال: النيل في الآخرة لبناً، أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل، والفرات خمر أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجلّ، وجيجان ماء أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل وأصل هذا كله ما في الصحيح في وصف الجنة عن أبي هريرة «أن النبيّ ﷺ قال سيحان وجيجان والنيل والفرات من أنهار الجنة» ولما كانت الثمار


الصفحة التالية
Icon