حيث أنه يعود عليهم بحقن الدماء وسلامة الأموال والأولاد ومشاركة المسلمين في المغانم والأحكام بالنار الموقدة للاستضاءة ولذهاب أثره وانطماس نوره بإهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها وإذهاب نورها، هذا هو الوارد، أخرجه ابن جرير عن ابن عباس، وقيل: مثل ضربه الله لمن آتاه ضرباً من الهدى وأضاعه ولم يتوصل به إلى نعيم الأبد فبقي متحيراً متحسراً تقريراً وتوبيخاً لما تضمنه قوله تعالى: ﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى﴾ إلخ.. ويدخل تحت عموم ما تضمنته الآية هؤلاء المنافقون فإنهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحق باستبطان الكفر وإظهاره حين خلوا إلى شياطينهم ومن آثر الضلالة على الهدى المجعول له بالفطرة أو ارتدّ عن دينه بعدما آمن. وقرأ ورش بترقيق راء يبصرون.
﴿س٢ش١٨/ش٢٠ صُمُّ؟ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِى؟ ءَاذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ؟ وَاللَّهُ مُحِيطُ؟ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ؟ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْا؟ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا؟؟ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ؟ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾
هم ﴿صم﴾ عن الحق فلا يسمعونه سماع قبول، وأصل الصمم صلابة من اجتماع الأجزاء ومنه قيل: حجر أصم وقناة صماء وصمام القارورة سمي به فقدان حاسة السمع لأنّ سببه أن يكون باطن الصماخ مجتمعاً لا تجويف فيه يشتمل على هواء يسمع الصوت بتموّجه ﴿بكم﴾ خرس عن الخير فلا يقولونه، والخرس في الأصل عدم القدرة على النطق ﴿عمي﴾ عن طريق الهدى فلا يرونه، والعمى في الأصل عدم البصر عما من شأن أن يبصر، وقد يقال لعدم البصيرة ﴿فهم لا يرجعون﴾ أي: لا يعودون إلى الهدى الذي باعوه وضيعوه أو عن الضلالة التي اشتروها.
﴿أو﴾ مثلهم ﴿كصيب﴾ فهو معطوف على الذي استوقد أي: كمثل أصحاب صيب لقوله: ﴿يجعلون أصابعهم في آذانهم﴾ وأوفى الأصل للتساوي للشك، ثم اتسع فيها فأطلق للتساوي من غير شك مثل جالس الحسن أو ابن سيرين، وقوله تعالى: ﴿ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً﴾ (الإنسان، ٢٤) فإنه يفيد التساوي في حسن المجالسة في المثال الأول ووجوب العصيان في الثاني ومن ذلك قوله: ﴿أو كصيب من السماء﴾ ومعناه بقرينة السياق أنّ قصة المنافقين مشبهة بهاتين القصتين وأنهما سواء في صحة التشبيه بهما وأنت مخير في التمثيل بهما أو بأيتهما شئت وإن كان الثاني أبلغ كما قاله الزمخشري، قال: لأنه أدل على فرط الحيرة وشدّة الأمر وفظاعته، والصيب أصله صيوب من صاب يصوب وهو النزول، يقال للمطر وللسحاب، والآية تحتملهما، أي ينزل ﴿من السماء﴾ ذلك فإن قدّرت الصيب بالمطر فالمراد بالسماء السحاب وإنّ قدرته بالسحاب فالمراد السماء بعينها والسماء كل ما علاك وأظلك وهي من أسماء الأجناس فيكون واحداً وجمعاً ﴿فيه﴾ أي: الصيب، وقيل: السماء ﴿ظلمات﴾ جمع ظلمة فإن أريد بالصيب المطر فظلماته ظلمة تكاثفه بتتابع القطر وظلمة غمامه مع ظلمة الليل وإن أريد به السحاب فظلماته سواده وتكاثفه مع ظلمة الليل ﴿ورعد﴾ وهو صوت يسمع من السحاب قال البيضاوي: والمشهور أنّ سببه اضطراب أجرام السحاب واصطكاكها إذا ساقها الريح من الارتعاد ﴿وبرق﴾ وهو ما يلمع من السحاب من برق الشيء بريقاً، هذا ما جرى عليه الجوهري وغيره، وهو المناسب هنا وإن أطلق الرعد على الملك أيضاً فهو مشترك بين الصوت المذكور والملك الثابت في الأحاديث، ففي بعضها: أنه ملك موكل بالسحاب بيده مخراق من نار يزجر به السحاب بسوقه إلى حيث شاء الله وصوته ما يسمع، وفي بعضها: أنه ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه، وفي بعضها: أنه ملك يسوق السحاب بالتسبيح كما يسوق الحادي الإبل بحدائه،
﴿من مثقال﴾ أي: وزن ﴿ذرّة﴾ وهي النملة الحمراء الصغيرة خفيفة الوزن جدّاً. وقيل: المراد بها الهباء وهو الشيء المنبث الذي تراه في البيت في ضوء الشمس. وقرأ الكسائي بكسر الزاي والباقون بالضم، ومن صلة على القراءتين، وإنما قيد بقوله تعالى: ﴿في الأرض ولا في السماء﴾ تقريباً لعقول العامّة. فإن قيل: لم قدّم ذكر الأرض على السماء، وقدم ذكر السماء على الأرض في سورة سبأ حيث قال تعالى: ﴿ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض﴾ فما فائدة ذلك؟ أجيب: بأنّ الكلام هنا في حال أهلها، والمقصود منه هو البرهان على إحاطة علمه، على أنّ العطف بالواو حكمه حكم التثنية ﴿ولا أصغر من ذلك﴾ أي: الذرّة ﴿ولا أكبر﴾ أي: منها ﴿إلا في كتاب مبين﴾ أي: بين وهو اللوح المحفوظ. وقرأ حمزة برفع الراء من أصغر وأكبر على الابتداء والخبر، والباقون بالنصب على أنّ ذلك اسم لا وفي كتاب خبرها
﴿ألا إنّ أولياء الله﴾ أي: الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة ﴿لا خوف عليهم﴾ من لحوق مكروه ﴿ولا هم يحزنون﴾ بفوات مأمول، وفسرهم بقوله تعالى:
﴿الذين آمنوا وكانوا يتقون﴾ الله بامتثال أمره ونهيه، وهذا الذي فسر الله تعالى به الأولياء لا مزيد عليه. وعن علي رضي الله عنه: هم قوم صفر الوجوه من السهر، عمش العيون من العبر، خمص البطون من الخوا. وعن سعيد بن جبير أنّ رسول الله ﷺ سئل من أولياء الله تعالى؟ فقال: «هم الذين يذكر الله برؤيتهم» يعني السمت والهيئة. وعن ابن عباس: الإخبات والسكينة. وعن عمر رضي الله تعالى عنه سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنّ من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء تغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله، قالوا: يا رسول الله أخبرنا من هم؟ وما أعمالهم؟ فلعلنا نحبهم، قال: هم قوم تحابوا في الله بغير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إنّ وجوههم لنور، وإنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس» ثم قرأ الآية. ونقل النووي في مقدمة «شرح المهذب» عن الإمامين الشافعيّ وأبي حنيفة رضي الله تعالى عنهما أنّ كلاً منهما قال: إذا لم تكن العلماء أولياء لله فليس لله وليّ. وذلك في العالم العامل بعلمه. وقال القشيري: من شرط الوليّ أن يكون محفوظاً كما أن من شرط النبيّ أن يكون معصوماً، فكل من كان للشرع عليه اعتراض فهو مغرور مخادع. فالوليّ هو الذي توالت أفعاله على الموافقة. ولما نفى الله عنهم الخوف والحزن زادهم فقال تعالى مبيناً لتوليته لهم بعد أن شرع بتوليتهم له:
﴿لهم البشرى﴾ أي: الكاملة ﴿في الحياة الدنيا وفي الآخرة﴾ أمّا البشرى في الدنيا ففسرت بأشياء منها: الرؤيا الصالحة، فقد ورد أنه ﷺ قال: «البشرى هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له». وقال ﷺ «ذهبت النبوة وبقيت المبشرات» وقال: «الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلماً يخافه فليتعوّذ منه وليبصق عن شماله ثلاث مرّات فإنه لا يضرّه». وقال: «الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة» ومنها: محبة الناس له، وذكرهم إياه في الثناء الحسن. وعن أبي ذرّ قال: قلت: يا رسول الله، إنّ الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس فقال: «تلك عاجل بشرى المؤمن». ومنها: البشرى لهم عند الموت، قال تعالى: ﴿تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة﴾ (فصلت، ٣٠). وأمّا البشرى في الآخرة فتلقي الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة، وما يرونه من بياض وجوههم، وإعطاء الصحائف بأيمانهم، وما يقرؤون منها، وسلام الله تعالى عليهم كما قال تعالى: ﴿سلامٌ قولاً من ربَ رحيم﴾ (يس، ٥٨) وغير ذلك من المبشرات بما بشر الله تعالى به عباده المتقين في كتابه، وعلى ألسنة أنبيائه من جنته وكريم ثوابه، فإن لفظ البشارة مشتق من خبر سار يظهر أثره في بشرة الوجه، فكل ما كان كذلك دخل في هذه الآية، ثم إنه تعالى لما ذكر صفة أوليائه وشرح أحوالهم قال تعالى: ﴿لا تبديل﴾ أي: بوجه من الوجوه ﴿لكلمات الله﴾ أي: لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده، والكلمة والقول سواء، ونظيره قوله تعالى: ﴿ما يبدّل القول لديّ﴾ (ق، ٢٩). وقوله تعالى: ﴿ذلك﴾ إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين ﴿هو الفوز العظيم﴾ هذه الجملة والتي قبلها اعتراض لتحقق المبشر به وتعظيم شأنه، وليس من شرطه أن يقع بعده كلام يتصل بما قبله.
﴿ولا يحزنك﴾ يا محمد ﴿قولهم﴾ أي: هؤلاء المشركين، أي: لا يغمك تكذيبهم وتهديدهم وتشويرهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك، وسائر ما يتكلمون به في شأنك. وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي من أحزنه، والباقون بفتح الياء وضم الزاي وكلاهما بمعنى. وقوله تعالى: ﴿إن العزة﴾ أي: القوة ﴿لله جميعاً﴾ استئناف بمعنى التعليل، كأنه قيل: ما لي لا أحزن فقيل إن العزة لله جميعاً، ، أي: أنّ الغلبة والقهر في مملكة الله لله جميعاً، لا يملك أحد شيئاً منها لا هم ولا غيرهم، فهو يغلبهم وينصرك عليهم. قال تعالى: ﴿كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي﴾ (المجادلة، ٢١). وقال تعالى: ﴿إنا لننصر رسلنا﴾ (غافر، ٥١).
وقيل: إنّ المشركين كانوا يتعززون بكثرة أموالهم وأولادهم وعبيدهم، فأخبر الله تعالى أنَّ جميع ذلك في ملكه فهو قادر على أن يسلب جميع ذلك ويذلهم بعد العز ﴿هو السميع﴾ أي: البليغ السمع لأقوالهم ﴿العليم﴾ أي: المحيط العلم بضمائرهم وجميع أحوالهم فهو البالغ القدرة على كل شيء فيجازيهم، وهو تعليل لتفرّده بالعزة؛ لأنه تفرّد بهذين الوصفين فانتفيا عن غيره، ومن انتفيا عنه كان دون الحيوانات العجم فأنى يكون له عزة؟ فإن قيل: قوله تعالى: ﴿إنّ العزة لله جميعاً﴾ يضادّ قوله تعالى: ﴿ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين﴾ (المنافقون، ٨) أجيب: بالمنع لأنّ عزة الرسول والمؤمنين كلها بالله فهي لله.
﴿ألا إنّ لله من في السموات ومن في الأرض﴾ ملكاً وخلقاً. فإن قيل: قد ذكر الله تعالى في الآية المتقدّمة ﴿ألا إنَّ لله ما في السموات والأرض﴾ بلفظ ما وقال هنا بلفظ من فما فائدة ذلك؟ أجيب: بأنه تعالى غلب في الآية الأولى ما لا يعقل على من يعقل لكثرته، وفي هذه غلب العاقل على غيره لشرفه، وقيل: مجموع الآيتين دال على أنّ الكل خلقه وملكه، وقيل: إنّ المراد بمن في السموات الملائكة، وبمن في الأرض الثقلان، وإنما خصهم بالذكر لشرفهم، وإذا كان هؤلاء في ملكه وتحت قهره فما لا يعقل منها أحق أن لا يكون له ندّا وشريكاً فهو كالدليل على قوله تعالى: ﴿وما يتبع الذين يدعون﴾ أي: يعبدون ﴿من دون الله﴾ أي: غيره أصناماً ﴿شركاء﴾ على الحقيقة وإن كانوا يسمونها شركاء ـ تعالى الله عن ذلك ـ ﴿إنّ﴾ أي: ما ﴿يتبعون﴾ في ذلك ﴿إلا الظنّ﴾ أي: ظنها أنها آلهة تشفع لهم وأنها تقربهم إلى الله تعالى، ثم بيّن تعالى أنّ هذا الظنّ لا حكم له بقوله تعالى: ﴿وإن﴾ أي: ما ﴿هم إلا يخرصون﴾ أي: يكذبون في ذلك، ويجوز
ثم وصف المسرفين بما بين سرفهم بقوله.
﴿الذين يفسدون في الأرض﴾ بالمعاصي ﴿ولا يصلحون﴾ أي: ولا يطيعون الله في أمرهم به، فإن قيل: فما فائدة ولا يصلحون بعد قوله: يفسدون؟ أجيب: بأنّ في ذلك دلالة على خلوص فسادهم فليس فيه شيء من الصلاح كما يكون حال بعض المفسدين مخلوطاً ببعض الصلاح، ولما عجزوا عن الطعن في شيء مما دعاهم إليه عدلوا إلى التخييل على عقول الضعفاء بأن.
﴿قالوا إنما أنت من المسحرين﴾ قال مجاهد وقتادة: من المسحورين المخدوعين، أي: ممن سحر مرة بعد مرة، أي: حتى غلب على عقله، وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أي: من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب ولست بملك وعلى هذا يكون قولهم:
﴿ما أنت إلا بشر مثلنا﴾ تأكيداً له، قيل المسحور: هو المخلوق بلغة بجيلة أي: فما وجه خصوصيتك عنا بالرسالة ﴿فأت بآية﴾ أي: علامة تدل على صدقك ﴿إن كنت من الصادقين﴾ أي: الراسخين في الصدق فقال لهم صالح: ما تريدون قالوا نريد ناقة عشراء تخرج من هذه الصخرة فتلد سقباً فأخذ صالح يتفكر فقال له جبريل صلّ ركعتين وسل ربك الناقة ففعل فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ونتجت سقباً مثلها في العظم، وعن أبي موسى رأيت مصدرها فإذا هو ستون ذراعاً فلما رآها.
﴿قال﴾ لهم صالح ﴿هذه ناقة﴾ أخرجها ربي من الصخرة كما اقترحتم ﴿لها شرب﴾ أي: نصيب من الماء في يوم معلوم ﴿ولكم شرب يوم﴾ أي: نصيب من الماء في يوم ﴿معلوم﴾ لا زحام بينكم وبينها، وعن قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم ولا تشرب في يومهم ماء.
﴿ولا تمسوها بسوء﴾ كضرب وعقر، ثم خوّفهم بما تسبب عن عصيانهم بقوله: ﴿فيأخذكم﴾ أي: يهلككم ﴿عذاب يوم عظيم﴾ بسبب ما حل فيه من العذاب فهو أبلغ من وصف العذاب بالعظيم، وأشار إلى سرعة عصيانهم بفاء التعقيب في قوله.
﴿فعقروها﴾ أي: فقتلوها بضرب ساقها بالسيف وأسند العقر إلى كلهم لأنّ عاقرها إنما عقر برضاهم فكأنهم فعلوا ذلك ﴿فأصبحوا﴾ أي: فتسبب عن عقرهم لها أنهم أصبحوا حين رأوا مخايل العذاب ﴿نادمين﴾ على عقرها من حيث إنه يفضي إلى العقاب والهلاك لا من حيث إنه معصية الله ورسوله وليس على وجه التوبة، أو كان ذاك عند رؤية البأس فلم ينفعهم.
﴿فأخذهم العذاب﴾ أي: العذاب الموعود على عقرها ﴿إن في ذلك﴾ أي: ما تقدم في هذه القصة من الغرائب ﴿لآية﴾ أي: دلالة عظيمة على صحة ما أمروا به عن الله ﴿وما﴾ أي: والحال أنه مع ذلك ما ﴿كان أكثرهم مؤمنين﴾ بل استمرّوا على ما هم عليه.
﴿وإنّ ربك﴾ أي: المحسن إليك بأحسن الأخلاق ﴿لهو العزيز﴾ أي: فلا يخرج شيء عن قبضته وإرادته ﴿الرحيم﴾ أي: في كونه لم يهلك أحداً حتى يرسل إليهم رسولاً يبين لهم ما يرتضيه الله تعالى وما يسخطه.
ثم أتبع قصة صالح عليه السلام قصة لوط عليه السلام وهي القصة السادسة فقال:
أي: كتكذيب من تقدم كأنهم تواصوا به ﴿قوم لوط المرسلين﴾ لأنّ من كذب رسولاً كما مضى فقد كذب الكل ثم بين إسراعهم في الضلال بقوله تعالى:
﴿إذ﴾ أي: حين ﴿قال لهم أخوهم﴾ أي: في البلد لا في الدين ولا في النسب لأنه ابن أخي إبراهيم عليهما السلام وهما من بلاد الشرق من أرض بابل، وكأنه عبر بالأخوة لاختياره
ألذ مستطاب بعد منافع الشراب قال تعالى:
﴿ولهم فيها﴾ وقوله تعالى: ﴿من كل الثمرات﴾ فيه وجهان أحدهما: أنّ هذا الجار صفه لمقدر، ذلك المقدر مبتدأ، وخبره الجار قبله، وهو لهم وفيها متعلق بما تعلق به والتقدير ولهم فيها زوجان من كل الثمرات كأنه انتزعه من قوله تعالى ﴿فيهما من كل فاكهة زوجان﴾ وقدّره بعضهم صنف والأوّل كما قال ابن عادل أليق ثانيهما أن ﴿من﴾ مزيدة في المبتدأ.
﴿ومغفرة من ربهم﴾ فهو راض عنهم مع إحسانه إليهم بما ذكر، بخلاف سيد العبيد في الدنيا فإنه قد يكون مع إحسانه إليهم ساخطاً عليهم وقوله تعالى: ﴿كمن هو خالد في النار﴾ خبر مبتدأ مقدّر أي: أمن هو في هذا النعيم، كمن هو مقيم إقامة لا انقطاع معها في النار التي لا ينطفئ لهيبها، ولا ينفك أسيرها، ووحده لأنّ الخلود يعم من فيها على حدّ سواء، ﴿وسقوا﴾ أي: عوض ما ذكر من شراب أهل الجنة ﴿ماء حميماً﴾ هو في غاية الحرارة ﴿فقطع أمعاءهم﴾ أي: مصارينهم، فخرجت من أدبارهم وهو جمع مع بالقصر وألفه عن ياء لقولهم معيان.
﴿ومنهم من يستمع إليك﴾ أي: في خطب الجمعة، وهم المنافقون والضمير في قوله تعالى ﴿ومنهم﴾ يحتمل أن يعود إلى الناس كما قال تعالى في سورة البقرة ﴿ومن الناس من يقول آمنا بالله﴾ (البقرة: ٨١)
بعد ذكر الكفار ويحتمل أن يعود إلى أهل مكة؛ لأنّ ذكرهم سبق في قوله تعالى ﴿هي أشدّ قوة من قريتك التي أخرجتك﴾ ويحتمل أن يرجع إلى معنى قوله تعالى ﴿هو خالد في النار وسقوا ماء حميما﴾ أي: ومن الخالدين في النار قوم يستمعون إليك ﴿حتى إذا﴾ أي: واستمر جهلهم لأنفسهم في الإصغاء حتى إذا ﴿خرجوا﴾ أي: المستمعون والسامعون ﴿من عندك قالوا﴾ أي: الفريقان تعامياً واستهزاءً.
﴿للذين أوتوا العلم﴾ بسبب تهيئة الله تعالى لهم من صفاء الأفهام بتجردهم عن النفوس والحظوظ، وانقيادهم لما تدعو إليه الفطرة الأولى. منهم ابن مسعود وابن عباس ﴿ماذا قال﴾ أي: النبيّ ﷺ ﴿آنفا﴾ أي: قبل افتراقنا وخروجنا عنه روى مقاتل: «أنّ النبيّ ﷺ كان يخطب ويعيب المنافقين فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله بن مسعود استهزاء ماذا قال محمد آنفاً» أي الساعة، أي: لا ترجع إليه وقرأ البزي بقصر الهمزة بخلاف عنه والباقون بالمدّ وهما لغتان بمعنى واحد وهما اسما فاعل كحاذر وحذر، ﴿أولئك﴾ أي: البعداء من كل خير ﴿الذين طبع الله﴾ أي: الملك الأعظم ﴿على قلوبهم﴾ أي: بالكفر فلم يفهموا فهم انتفاع؛ لأنّ مثل هذا الجمود لا يكون إلا بذلك ﴿واتبعوا﴾ أي: بغاية جهدهم
﴿أهواءهم﴾ أي: في الكفر والنفاق، فلذلك هم يتهاونون بأعظم الكلام، ويقبلون على جمع الحطام، فهم أهل النار المشار إليهم قبل آية ﴿مثل الجنة﴾ بأنهم ﴿زين لهم سوء عملهم﴾ ثم ذكر تعالى أضداد هؤلاء.
بقوله سبحانه:
﴿والذين اهتدوا﴾ أي: اجتهدوا باستماعهم منك في الإيمان، والتسليم والإذعان بأنواع المجاهدات وهم المؤمنون ﴿زادهم﴾ أي: الله الذي طبع على قلوب الكفرة، ﴿هدى﴾ بأن شرح صدورهم، ونورها بأنوار المشاهدات، فصارت أوعية للحكمة ﴿وآتاهم تقواهم﴾ أي: ألهمهم ما يتقون به النار، قال ابن برحان: التقوى عمل الإيمان كما أن أعمال الجوارح عمل الإسلام.
﴿فهل﴾ أي: ما ﴿ينظرون﴾ أي: ينتظرون وجودها إشارة إلى شدة