به تحريف تعيلوا إلى تعولوا فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لا تظننّ بكلمة خرجت من في أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً. وكان الشافعيّ رحمه الله تعالى أعلى كعباً وأطول باعاً في علم كلام العرب من أن يخفى عليه مثل هذا اه.
﴿وآتوا﴾ أي: أعطوا ﴿النساء صدقاتهنّ﴾ جمع صدقة أي: مهورهنّ ﴿نحلة﴾ أي: عطية يقال: نحله كذا نحلة أي: أعطاه إياه عن طيب نفس بلا توقع عوض، ونصبها على المصدر؛ لأنّ النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء، فكأنه قيل: وأنحلوا النساء صدقاتهنّ نحلة، قال الكلبيّ وجماعة: والخطاب للأولياء، وذلك أنّ وليّ المرأة كان إذا زوّجها، فإن كان معهم في العشيرة فلم يعطها من مهرها شيئاً، وإن زوجها غريباً حملوها إليه على بعير ولا يعطوها من مهرها غير ذلك، فنهاهم الله تعالى عن ذلك وأمرهم أن يدفعوا الحق إلى أهله ﴿فإن طبن لكم عن شيء منه﴾ أي: الصداق وقوله تعالى: ﴿نفساً﴾ محوّل عن الفاعل أي: إن طابت نفسهنّ لكم عن شيء من الصداق فوهبنه لكم ﴿فكلوه﴾ أي: فخذوه وأنفقوه ﴿هنيئاً﴾ أي: طيباً ﴿مريئاً﴾ أي: محمود العاقبة لا ضرر فيه عليكم في الآخرة.
روي أنّ ناساً كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء مما ساقه إلى امرأته، فقال الله تعالى: إن طابت نفس واحدة من غير إكراه ولا خديعة فكلوه هنيئاً مريئاً.
قال الزمخشريّ وفي الآية دليل على ضيق المسلك في ذلك، ووجوب الاحتياط حيث بني الشرط على طيب النفس فقيل: «فإن طبن»، ولم يقل: فإن وهبن أو سمحن إعلاماً بأنّ المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة، وعن الشعبي: إنّ رجلاً أتى مع امرأته شريحاً في عطية أعطتها إياه، وهي تطلب أن ترجع، فقال شريح: ردّ عليها، فقال الرجل: أليس الله تعالى قد قال: ﴿فإن طبن لكم﴾ ؟ قال: لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه.
وحكي أنّ رجلاً من آل أبي معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقاً كان لها عليه، فلبث شهراً ثم طلقها، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان، فقال الرجل: أعطتني طيبة بها نفسها فقال عبد الملك: فأين الآية التي بعدها ﴿ولا تأخذوا منه شيئاً﴾ أردد عليها. وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى قضاته: إنّ النساء يعطين رغبة ورهبة فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها.
﴿ولا تؤتوا﴾ أيها الأولياء ﴿السفهاء﴾ أي: المبذرين من الرجال والنساء ﴿أموالكم﴾ أي: أموالهم وإنما أضاف الأموال إلى الأولياء؛ لأنها في تصرفهم وتحت ولايتهم وقيل: نهي إلى كل أحد أن يعمد إلى ما خوّله الله من المال فيعطيه امرأته وأولاده، ثم ينظر إلى ما في أيديهم وإنما سماهم سفهاء استخفافاً بعقلهم واستهجاناً لجعلهم قوّاماً وهذا أوفق لقوله تعالى: ﴿التي جعل الله لكم قياماً﴾ أي: تقوم بمصالحكم ومصالح أولادكم فيضعوها في غير وجهها، وعلى القول الأولّ يؤوّل بأنّ أموال السفهاء التي من جنس ما جعل الله لكم قياماً، وسمى الله ما به القيام قياماً للمبالغة.
وقرأ نافع وابن عامر «قيماً» بغير ألف بعد الياء والقيم جمع قيمة ما يقوّم به الأمتعة، والباقون بالألف مصدر قام و ﴿وارزقوهم﴾ أي: أطعموهم ﴿فيها واكسوهم﴾ فيها، وإنما قال تعالى: «فيها» لجعله الأموال ظروفاً للرزق، فيكون الإنفاق من الربح لا من الأموال التي هي الظروف بأن يتجروا فيها ويحصلوا من ربحها ما يحتاجون إليه، ولو قيل: منها لكان الإنفاق من نفس الأموال {وقولوا لهم قولاً
الأرض السفلى فكيف تكون في السماء؟ أجيب: بأنه يحتمل أنّ أرواح الكفار تعرض على آدم عليه السلام وهو في السماء فوافق وقت عرضها على آدم مرور النبيّ ﷺ فأخبر بما رأى.
وقوله: إذا نظر عن يمينه ضحك وإذا نظر عن شماله بكى، ففيه شفقة الوالد على أولاده وسروره وفرحه بحسن حال المؤمن منهم وحزنه على حال الكافر منهم وقوله في إدريس مرحباً بالأخ الصالح والنبيّ الصالح، قد اتفق المؤرخون أنه هو أخنوخ جدّ نوح فيكون جدّ النبيّ ﷺ كما أنّ إبراهيم جدّه فكان ينبغي أن يقول بالنبيّ الصالح والابن الصالح كما قال آدم وإبراهيم؟ وأجيب: بأنه قيل إنّ إدريس المذكور هنا هو إلياس وهو من ذرية إبراهيم فليس هو جدّ نوح قاله القاضي عياض. وقال النووي: ليس في هذا الحديث ما يمنع كون إدريس أباً لنبينا ﷺ وأنّ قوله: الأخ الصالح يحتمل أن يكون قاله تلطفاً وتأدّباً وهو أخ وإن كان ابناً لأنّ الأنبياء إخوة والمؤمنون إخوة انتهى. وإنما أطلت في بيان ذلك لأنّ الكلام مع الأحبة يحلو ولولا خوف الملل ما اقتصرت على ذلك. فقد قال بعض المفسرين لا أعلم في الكتاب العزيز سورة تضمنت من خصائصه التي فضل بها كافة الأنبياء ما تضمنته هذه السورة ولكن في هذا القدر كفاية لأولي الألباب. ولما ثبت بهذه الخارقة ما أخبر به ﷺ عن نفسه المقدّسة من عظيم القدرة وما جاءه ﷺ من الآيات البينات في هذا الوقت اليسير أتبعه ما منح في السير من مصر إلى الأرض المقدّسة من الآيات في مدد طوال موسى عليه الصلاة والسلام الذي كان أعظم الأنبياء بركة على هذه الأمّة ليلة الإسراء لما أرشد النبيّ ﷺ إليه من مراجعة الله تعالى في
تخفيف
الصلاة حتى رجعت من خمسين إلى خمس مع أجر خمسين فقال: ﴿وآتينا﴾ أي: بعظمتنا ﴿موسى الكتاب﴾ أي: التوراة ﴿وجعلناه﴾ أي: الكتاب بما لنا من العظمة ﴿هدى لبني إسرائيل﴾ بالحمل على العدل في التوحيد والأحكام وأسرينا بموسى عليه السلام وبقومه من مصر إلى بلاد المسجد الأقصى، فأقاموا سائرين إليها أربعين سنة ولم يصلوا ومات كل من خرج إلا المتقين الموفين بالعهد فقد بان الفضل بين الإسراءين كما بان الفضل بين الكتابين، فذكر الإسراء أوّلاً دليل على حذف مثله أوّلاً فالآية من الاحتباك ثم نبه على أنّ المراد من ذلك كلمة التوحيد اعتقاداً وعبادة بقوله تعالى: ﴿أنّ لا﴾ أي: لئلا ﴿يتخذوا﴾ على قراءة أبي عمرو بالياء على الغيبة، وقرأ غيره بالتاء على أن لا تتخذوا كقولك كتبت إليه أن أفعل كذا. ﴿من دوني وكيلاً﴾ أي: ربا تكلون إليه أموركم، وذلك هو التوحيد فلا معراج أعلى ولا درجة أشرف ولا نعمة أعظم من أن يصير المرء غريقاً في بحر التوحيد وأن لا يعوّل في أمر من الأمور إلا على الله تعالى، فإن نطق نطق بذكر الله، وإن تفكر تفكر في دلائل تنزيه الله وإن طلب طلب من الله، فيكون كله لله وبالله وإلى الله. وقوله تعالى:
﴿ذرية﴾ نصب على الاختصاص في قراءة أبي عمرو وعلى النداء عند الباقين أي: يا ذرّية ﴿من حملنا﴾ أي: في السفينة بعظمتنا على ظهر ذلك الماء الذي طبق ما تحت أديم السماء ونبه تعالى على شرفهم وتمام نعمتهم بقوله تعالى: ﴿مع نوح﴾ ففي ذلك تذكير بإنعام الله تعالى
إن كان لا يعتقد خلافه.
ولما كان الجواب ليس به شيء من ذلك عطف عليه قوله تعالى ﴿بل الذين لا يؤمنون﴾ أي: لا يوجدون الإيمان لأنهم طبعوا على الكفر ﴿بالآخرة﴾ أي: المشتملة على البعث والعذاب ﴿في العذاب﴾ أي: في الآخرة ﴿والضلال البعيد﴾ أي: عن الصواب في الدنيا، فرد الله تعالى عليهم ترديدهم وأثبت لهم سبحانه ما هو أفظع من القسمين فقوله تعالى ﴿بل الذين لا يؤمنون بالآخرة﴾ (يس: ٨١)
في العذاب في مقابلة قولهم ﴿أفترى على الله كذباً﴾ وقوله تعالى ﴿والضلال البعيد﴾ في مقابلة قولهم ﴿أم به جنة﴾ وكلاهما مناسب، أما العذاب فلأن نسبة الكذب إلى الصادق مؤد إلى أنه شهادة عليه بأنه يستحق العذاب فجعل العذاب عليهم حيث نسبوا الكذب إلى البريء، وأما الضلال فلأن نسبة الجنون إلى العاقل دونه في الإيذاء، فإنه لا يشهد عليه بأنه يعذب وإنما ينسبه إلى عدم الهداية فبين تعالى أنهم هم الضالون، ثم وصف ضلالهم بالبعد ووصف الضلال به للإسناد المجازي لأن من يسمى المهدي ضالاً يكون أضل، والنبي ﷺ هادي كل مهتد.
ولما ذكر تعالى الدليل على كونه عالم الغيب وكونه مجازياً على السيئات والحسنات، ذكر دليلاً آخر فيه التهديد والتوحيد بقوله تعالى:
﴿أفلم يروا﴾ أي: ينظروا ﴿إلى ما بين أيديهم﴾ أي: أمامهم ﴿وما خلفهم﴾ وذلك إشارة إلى جميع الجوانب من كلا الخافقين فقوله تعالى ﴿من السماء والأرض﴾ دليل التوحيد فإنهما يدلان على الوحدانية، ويدلان على الحشر والإعادة لأنهما يدلان على كمال القدرة لقوله تعالى ﴿أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم﴾ وأما دليل التهديد فقوله تعالى ﴿إن نشأ﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿نخسف بهم الأرض﴾ أي: كما فعلنا بقارون وذويه لأنه ليس نفوذ بعض أفعالنا فيه بأولى من غيره ﴿أو نسقط عليهم كسفاً﴾ أي: قطعاً ﴿من السماء﴾ فنهلكهم بها، وقرأ حفص بفتح السين والباقون بسكونها.
تنبيه: في قوله تعالى ﴿أفلم يروا﴾ الرأيان المشهوران قدره الزمخشري أفعموا فلم يروا وغيره يدعي أن الهمزة مقدمة على حرف العطف، وقوله ﴿من السماء﴾ بيان للموصول فيتعلق بمحذوف، ويجوز أن يكون حالاً فيتعلق به أيضاً قيل: وثم حال محذوفة تقديره: أفلم يروا إلى كذا مقهوراً تحت قدرتنا أو محيطاً بهم فيعلموا أنهم حيث كانوا فإن أرضي وسمائي محيطة بهم لا يخرجون من أقطارها، وأنا القادر عليهم وقرأ حمزة والكسائي ﴿إن يشأ يخسف بهم الأرض أو يسقط﴾ بالياء في الثلاثة كقوله تعالى ﴿افترى على الله كذباً﴾ والباقون بالنون، وأدغم الكسائي الفاء في الباء وأظهرها الباقون ﴿إن في ذلك﴾ أي: فيما ترون من السماء والأرض ﴿لآية﴾ أي: علامة بينة تدل على قدرتنا على البعث ﴿لكل عبد﴾ أي: متحقق أنه مربوب ضعيف مسخر لما يراد منه ﴿منيب﴾ أي: فيه قابلية الرجوع إلى ربه بقلبه.
ولما ذكر تعالى من ينيب من عباده وكان من جملتهم داود عليه السلام كما قال ربه ﴿فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب﴾ (ص: ٢٤)
ذكره بقوله تعالى:
﴿ولقد آتينا﴾ أي: أعطينا إعطاء عظيماً دالاً على نهاية المكنة بما لنا من العظمة ﴿داود منا فضلاً﴾ أي: النبوة والكتاب، أو الملك أو جميع ما أوتي من حسن الصوت وتليين الحديد وغير ذلك مما خص به، وهذا الأخير أولى.
تنبيه: قوله تعالى ﴿منا﴾ فيه إشارة إلى بيان
كذلك من الآدميين وغيرهم كالشجر والثمار، وقيل: اللام مزيدة، أي: ينزه الله وأتى بما دون من، قال الجلال المحلي: تغليباً للأكثر، ويحتمل أن يكون المراد بالسماء جهة العلو فيشمل السماء وما فيها، وبالأرض جهة السفل فيشمل الأرض وما فيها ﴿الملك﴾ أي: الذي ثبت له جميع الكمالات، فهو ينصر من يشاء من جنده ولو كان ذليلاً فيصبح ظاهراً ﴿القدوس﴾ أي: المنزه عما لا يليق به، وعن إحاطة أحد من الخلق بعلمه وإدراك كنه ذاته فليس في أيدي الخلق إلا التردد في شهود أفعاله والتدبير لمفاهيم نعوته وجلاله وأحقهم بالقرب والعداد في حزبه المتخلق بأوصافه على قدر اجتهاده، فينبغي للمؤمن التنزه عن أن يقول مالا يفعل، أو يبني شيئاً من أموره على غير إحكام ﴿العزيز﴾ أي: الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ﴿الحكيم﴾ أي: الذي يوقع كل ما أراد في أحكم مواقعه وأتمها وأتقنها.
﴿هو﴾ أي: وحده ﴿الذي بعث في الأميين﴾ أي: العرب لأن أكثرهم لا يكتبون ولا يقرؤون، والأمي: من لا يقرأ ولا يكتب ﴿رسولاً منهم﴾ أي: من جملتهم أمياً مثلهم، وهو محمد ﷺ وما من حي من العرب إلا وله ﷺ فيهم قرابة، وقد ولدوه. قال ابن إسحاق: إلا بني تغلب فإن الله تعالى طهر نبيه ﷺ منهم فلم يجعل لهم عليه ولادة، وكان أمياً لم يقرأ من كتاب ولم يتعلم ﷺ علمه الله ما لم يكن يعلم من غير تطلب، فكانت آثار البشرية عنه مندرسة وأنوار الحقائق علية لائحة، وذلك لئلا يتوهم الافتقار إلى الاستعانة بالكتب لأن مشاكلته لحال من بعث فيهم أقرب إلى مساواتهم له لو أمكنهم فيكون معنى عدم إمكان المساواة أدل على الإعجاز، وبعثه إلى العرب لا ينفي بعثه إلى غيرهم لاسيما مع ما ورد فيه من صرائح الدلائل القطعية، فذكر موضع البعث وابتداءه فتكون الغاية مطلقة تقديرها إلى عامة الخلق ﴿يتلو﴾ أي: يقرأ قراءة يتبع بعضها بعضاً على وجه الكثرة والعلو والرفعة ﴿عليهم﴾ مع كونه أمياً مثلهم ﴿آيات﴾ أي: يأتيهم بها على سبيل التجدد والمواصلة، وهي القرآن الذي أعجز الجن والإنس أن يأتوا بسورة من مثله ﴿ويزكيهم﴾ أي: يطهرهم من الشرك والأخلاق الرذيلة، والعقائد الزائغة فكانت تزكيته لهم مدة حياته بنظره الشريف إليهم، وتعليمه لهم وتلاوته عليهم، فربما نظر الإنسان نظرة محبة فزكاه الله تعالى بها بحسب القابليات والأمور التي قضى الله تعالى أن تكون مهيآت فكان له أعشق فكان لأتباعه ألزم فكان في كتاب الله وسنته أرسخ ﴿ويعلمهم الكتاب﴾ أي: القرآن المنزل عليه الجامع لكل خير ديني ودنيوي في الأولى والأخرى ﴿والحكمة﴾ هي غاية الحكم للكتاب في قوة فهمه والعمل به فهي العمل المزين بالعلم المتقن به، وقال الحسن: الكتاب: القرآن، والحكمة: السنة. وقال ابن عباس: الكتاب الخط بالقلم، والحكمة: السنة، لأن الخط إنما فشا
في العرب بالشرع لما أمروا بالتقييد بالخط. وقال مالك بن أنس: الحكمة: الفقه في الدين ﴿وإن﴾ أي: والحال أنهم ﴿كانوا﴾ أي: كوناً هو كالجبلة لهم ﴿من قبل﴾ أي: قبل إرساله إليهم ﴿لفي ضلال﴾ أي: بعد عن المقصود ﴿مبين﴾ أي: ظاهر في نفسه مناد لغيره أنه ضلال باعتقادهم الأباطيل الظاهرة، وظنهم أنهم على شيء، وعموم الجهل لهم ورضاهم به واختبارهم له.
وقوله تعالى: ﴿وآخرين منهم﴾ فيه


الصفحة التالية
Icon